في أحد حوارات المترجم السوري عبد القادر عبد اللي مع الأديب التركي أورهان باموق، روى الأخير ما دارَ في لقائه الأول مع المفكر العربي إدوارد سعيد، وتحديدًا سؤاله إن كان قد سبق له أن زار القاهرة، حيث أجاب باموق بخجل أنه لم يفعل ذلك، في حين أنه زار أغلب عواصم الدول الأوروبية والغربية.
أراد باموق من هذا الحوار التدليل على عمق الأزمة ما بين الثقافتَين العربية والتركية، التي ظلّت لسنوات طويلة رهينة الوسيط الأوروبي دون أن تمتلك قنوات تواصل مباشرة، رغم القرب الجغرافي والسنوات الطويلة التي عاشت فيها كلا الثقافتَين تحت مظلة واحدة.
ومؤخرًا بدأت هذه الإشكالات في التراجُع مع ازدياد حجم الوجود العربي في تركيا، الذي يسعى هذا المقال إلى تناول أشكاله والتحديات التي تواجه استقراره وبقاءه، بالإضافة إلى الفرصة التاريخية التي يمكن أن يلعبها في العلاقة ما بين الأُمّتَين.
أشكال الوجود العربي في تركيا
بدأ توافد العرب على تركيا في ثمانينيات وتسعينييات القرن الماضي، وشكّل الطلاب الكتلة الأساسية من العرب وتحديدًا القادمين من الدول المجاورة كالعراق وفلسطين المحتلة وسوريا. استقرَّ جزء كبير وعملَ قسم منهم في العمل التجاري ما بين تركيا والدول العربية، الذي شهدَ تصاعدًا في السنوات اللاحقة، فيما عادت الغالبية العظمى إلى بلدانها، وفي بداية الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 استقبلت تركيا موجة من اللاجئين العراقيين الذين توزّعوا على مختلف المدن التركية.
ومع تولّي حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا، انتهجت تركيا سياسات انفتاح على الدول والمجتمعات العربية، بلغت ذروتها مع بداية العقد الثاني من القرن الحالي الذي شهدَ اندلاع الثورات العربية وتحديدًا الثورة السورية، إذ اتّبعت الدولة التركية سياسة الحدود المفتوحة أمام اللاجئين السوريين، كما توافدَ نشطاء وكوادر قوى المعارضة العربية، ما انعكسَ على شكل الوجود العربي في تركيا الذي يمكن تصنيفه بالتالي:
الأول: مجتمع اللاجئين، ويرتكز بالدرجة الأساسية على اللاجئين السوريين الذين وصل عددهم وفقًا لقيود وزارة الداخلية التركية إلى 3.639 مليون نسمة -تصل الأرقام غير الرسمية إلى عدد أكبر-، وعلى صعيد المدن تستضيف مدينة إسطنبول القسم الأكبر منهم بعدد وصل إلى 517 ألف نسمة، تليها مدينة غازي عنتاب بـ 450 ألفًا، ومدينة هاتاي بـ 433 ألفًا، وشانلي أورفا بـ 421 ألفًا.
وإلى جوار اللاجئين السوريين يتواجد اللاجئون العراقيون، الذين يرجع وجودهم الى حرب الخليج الثانية وغزو العراق عام 2003، وتصاعدت أعدادهم بعد سقوط مدينة الموصل في يد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” عام 2014، ليصل مع نهاية العام 2020 إلى ما يقارب الـ 114 ألف عراقي، منتشرين في مختلف المدن التركية.
الثاني: مجتمع الطلبة، ونقصدُ به الطلبة القادمين من مختلف الدول العربية للدراسة في الجامعات التركية التي شهدت في السنوات الماضية تصاعدًا ملحوظًا في أعدادهم، خاصة في ظلّ ارتفاع جاذبية الجامعات التركية وسهولة شروط الالتحاق والقبول، بالإضافة إلى جهود الحكومة التركية في جلب الطلاب الأجانب من خلال برنامج المنح التركية الذي شهد تصاعدًا في السنوات الأخيرة.
وفقًا لبيانات مجلس التعليم العالي التركي (Yök) للسنة الدراسية 2020-2021، وصلَ عدد الطلبة الأجانب في الجامعات التركية إلى 223.952 طالبًا منتشرين في مختلف المدن التركية، بلغ عدد الطلاب العرب منهم ما يقارب الـ 102.171 طالبًا عربيًّا، أي ما يقارب الـ 45.6% من الطلبة الأجانب في تركيا، وينشط جزء كبير من الطلبة العرب في اتحادات وأندية طلابية على مستوى محلي أو في إطار جامعتهم.
الثالث: مجتمع النشطاء السياسيين، ويقصد به نشطاء وكوادر حركات المعارضة العربية التي بدأت بالتوافُد إلى تركيا مع تصاعُد قوى الثورات المضادة، ما دفعها لاتخاذ تركيا مقرًّا لها، كحركة الإخوان المسلمين في ليبيا وحزب الإصلاح في اليمن بالإضافة الى فصائل عراقية وليبية وفلسطينية، وساهم هذا الأمر في زيادة نوعية وتطور الوجود العربي عبر مدّه بنخب سياسية وإعلامية.
الرابع: مجتمع الإعلاميين والكتّاب والصحفيين، الذين اتّخذوا من تركيا مقرًّا لممارسة مهامهم نتيجة تراجُع الحريات المتاحة في بلدانهم، فاحتوَت إسطنبول عددًا كبيرًا من مراكز الأبحاث والقنوات التلفزيونية والمؤسسات الصحفية التي استقطبت بدورها المئات من الصحفيين والإعلاميين، ما ساهم في تعزيز الحالة النخبوية العربية في تركيا بشكل عام ومدينة إسطنبول بشكل خاص.
الخامس: مجتمع الأعمال والتجارة، ويضمُّ أصحاب رؤوس الأموال الذين وجدوا في تركيا ساحة للاستثمار والتجارة، بالإضافة الى العمالة العربية القادمة من دول مختلفة وأغلبها يعمل بشكل غير رسمي، ما يجعلها عرضة للابتزاز والعمل في ظروف صعبة وبأجور منخفضة.
جسر ما بين الأُمّتَين
وفقًا لبيانات مجلس التعليم العالي في تركيا، فقد بلغ عدد الطلاب العرب في الجامعات التركية ما يقارب الـ 102.171 طالبًا عربيًّا، بالإضافة لما يقارب الـ 668 ألف طالب سوري من الفئة العمرية (0-17) ينتظم في المدارس التركية، ومن المتوقّع أن يتضاعف هذا العدد خلال السنوات المقبلة ليصل إلى ما يقارب المليون طالب عربي.
وعلى خلاف “عرب تركيا” الذين انصهرت هويتهم وتراجعت لغتهم العربية وتحديدًا لدى الأجيال المتأخرة، فإن هذا الوجود العربي في تركيا ما زال يحتفظُ باتصاله مع مجتمعه الأصلي وبلغته العربية، ما يؤهّله ليكون جسرًا ثقافيًّا واجتماعيًّا ما بين الوجود العربي في تركيا والمجتمع التركي من جانب، والمجتمعات العربية والتركية من جانب آخر.
ولا يمكن لهذا الوجود أن يقوم بدوره الرائد في عملية التواصل ما بين الأُمّتَين دون أن يحظى برعاية واهتمام المؤسسات العربية والتركية، فعلى خلاف التواصل والتطور في العلاقات في المجال الاقتصادي والأعمال، الذي تدفعه المصالح الخاصة للشركات والأفراد، فإن عمليات التواصل الثقافي والفكري ما بين المثقّفين والكتّاب والأدباء تستلزم اهتمامًا ورعاية ودعمًا لتغذية هذه المصلحة المشتركة.
تحديات وإشكالات
يواجه الوجود العربي في تركيا 3 أنواع من التحديات: التحدي السياسي، التحدي الثقافي، التحدي القانوني.
– التحدي السياسي؛ ويتمثل في تحوُّل قضية اللاجئين السوريين -الذين يشكّلون عماد الوجود العربي- إلى مادة أساسية في المناكفات السياسية في تركيا، ويظهر ذلك في استخدام المعارضة التركية لها كمادة لمهاجمة حزب العدالة والتنمية والحكومة التركية، وفي ظلّ الأزمة الاقتصادية التي تمرُّ بها تركيا وارتفاع معدلات البطالة، تحوّل الوجود العربي إلى كبش فداء والمسبِّب الأساسي في تردّي الأوضاع.
وفي هذا الإطار ظهرت أحزاب تركية تقوم دعايتها وبرنامجها السياسي على العداء للاجئين العرب، كما هو الحال مع رئيس بلدية بولو الذي اتّخذ مجموعة من الإجراءات العنصرية بحقّ اللاجئين المتواجدين في نطاق بلديته، وبرز كذلك أوميت أوزداغ مؤسِّس حزب النصر، الذي يشبه في أطروحاته أحزاب اليمين المتطرفة في الدول الأوروبية، القائمة على توظيف قضايا الهجرة واللاجئين للحصول على مكاسب سياسية.
ورغم أن الحزب الأكبر في تركيا -العدالة والتنمية- ورئيسه ما زالا يتبنّيان أطروحات صديقة تجاه قضايا الوجود العربي في تركيا، إلا أنهما ليس بمعزل عن التأثُّر بدعاية وابتزاز الأحزاب الأخرى، وهذا ما ظهر في الإجراءات التي اتّخذاها في بعض المناطق والتي جاءت بعد حملات إعلامية، وفي مواجهة الخطاب السياسي لأحزاب المعارضة.
– التحدي الثقافي القادم من المجتمع التركي، الذي يحتفظ بصورة سلبية تجاه الوجود العربي في تركيا، تغذيها سنوات من القطعية ما بين الأُمّتَين العربية والتركية، وبموروث ثقافي يحمل صورة سلبية تجاه العرب والثقافة العربية؛ انعكس على قابلية المجتمع التركي لتقبُّل الوجود العربي في تركيا.
فوفقًا لدراسة أعدّها الباحث في مركز الهجرة والاندماج في الجامعة الألمانية التركية، البرفيسور مراد أردوغان، ارتفعت نسبة الأتراك الذين يرون وجود اختلاف ثقافي ما بينهم وبين السوريين من 70% عام 2014 إلى 82% عام 2020، وارتفعت نسبة من يرى أنه لا يمكن له أن يعيش بسلام في المكان نفسه الذي يعيش فيه السوريون من 75% عام 2014 إلى 87% عام 2020.
– التحدي القانوني؛ يتواجد العرب في تركيا تحت صيغ قانونية مختلفة، أكثرها انتشارًا بطاقة الحماية المؤقّتة الممنوحة للاجئين السوريين بصورة أساسية، وتكفل البطاقة الحصول على مجموعة من الخدمات المقدَّمة من قبل الدول التركية في نطاق المحافظة التي مُنحت فيها، كالتعليم والخدمات الصحية وخدمات أخرى، لكن صاحبها لا يمكن أن يحصل على أي من هذه الخدمات في حال كان خارج المدينة التي فُرز فيها.
هذا الأمر ولّدَ إشكالات كبيرة، ففرص العمل دائمًا ما تكون في المدن الكبرى التي تستقطبُ الجزء الأكبر من اللاجئين الذين يجدون أنفسهم محرومين من الاستفادة من الخدمات الصحية والتعليمية، نتيجة وجودهم في مدن أخرى غير المدن المسجّلين فيها. أما النوع الآخر فهو الإقامة قصيرة المدى، والتي تُعرَف باسم السياحية، وإلى جوارها توجد إقامة الطالب وإقامة العقار والإقامة الإنسانية وطويلة المدى وأخيرًا إقامة العمل.
ورغم سهولة الحصول على القسم الأكبر من الإقامات السابقة، إلا أنه توجد إشكالية مهمة، فوحدها إقامة العمل من تؤهّل صاحبها للحصول على الجنسية التركية، بالتالي إن الوضع القانوني لأغلب الوجود العربي في تركيا غير ثابت ومحصَّن على المستوى طويل الأمد، ما يجعله هشًّا أمام أي تغيُّر سياسي في السلطة أو تغيُّر في أشكال التعامل مع اللاجئين والأجانب.
ختامًا، تعاني بلادنا العربية من أزمات سياسية واقتصادية وأمنية دفعتها لتكون المصدر الأول للاجئين في العالم، وفي ظلّ انعدام الأفق بإمكانية الوصول إلى استقرار سياسي أو أمني في هذه البلدان، يبقى خيار المنفى هو الأفضل لملايين العرب في دول اللجوء، بالتالي تكمن المصلحة الأساسية في الحفاظ على وجودهم، ومع ذلك وجود العرب في تركيا لا يشكّل مصلحة عربية فقط، بل هو مصلحة تركية، فتركيا المجاورة لدولتَين عربيتَين والمحاطة بعالم عربي يؤثِّر على مصالحها القومية والاستراتيجية، يمكن أن يكون الوجود العربي فيها جسر تواصل مع هذا المحيط بدلًا من الانعزال والبُعد اللذين ميّزا السنوات الماضية.
هذه المصالح المشتركة تستلزم من العرب والأتراك العمل في عدد من المسارات، على رأسها تعزيز التواصل ما بين الوجود العربي في تركيا والمجتمع التركي، ومن الممكن أن يتمَّ التركيز بدايةً على التجمعات النخبوية كالسياسيين والأدباء والمثقّفين، مرورًا بالتجمعات الطلابية والمهنية وغيرها.
وأخيرًا، المطلوب الآن هو المرور بسلام بالجيل الأول من العرب في تركيا، فالتعويل الأساسي في الاندماج يقع على الأجيال الثانية منه، والتي بدأته بالفعل عبر الالتحاق بالمؤسسات التعليمية التركية، ما مكّنها من فهم المجتمع التركي وعاداته ولغته.