ترجمة حفصة جودة
سلّطت الحركة الدولية الشهيرة المناهضة للاستعمار الضوء على التساؤل بشأن فلسطين في المجتمع الدولي والإقليمي يومًا ما، أما اليوم فالحركة الوطنية الفلسطينية تعاني من زيادة اللامبالاة والتراجع الدراماتيكي، ويمزقها الاستقطاب والانقسام، كما استُبدلت بإستراتيجيتها الوطنية أجندات متنافسة لخدمة المصالح الذاتية.
يرجع ذلك بسهولة إلى آلية السلطة التي أنتجتها عملية أوسلو خاصة السلطة الفلسطينية التي تشارك بشكل بارز في الحركة والقيادة الفلسطينية، لكن أزمة الحركة الهيكلية تسبق أوسلو، فقد زرعت الفصائلية بذور التنافس بين الفلسطينيين.
وبدلًا من صبغ الجسد السياسي الفلسطيني بالتعددية النشطة، كانت هناك الفصائلية مدفوعة بالعقائدية الصلبة والسياسات الإقصائية، لقد دمرت النضال الفلسطيني ما قبل النكبة ضد قوات الاستعمار البريطاني والصهيوني، إذ هيمنت عليه الانقسامات العشائرية الموروثة من العصر العثماني، كما تفتقر الأحزاب إلى برامج سياسية واضحة وتدخل في منازعات متكررة على القوة والسلطة.
أدى تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 كإطار عمل جمعي لمختلف الحركات السياسية إلى بث روح جديدة في السياسات الفلسطينية، لكنها انقسمت سريعًا بأجندات الفصائل المتنافسة التي تقدم في بعض الأحيان رؤى متضاربة، وأدى غياب آلية ديمقراطية حقيقية داخل المنظمة إلى تدمير الحركة الوطنية.
تشكل الفصائلية أرضًا خصبةً للأنظمة العربية المتنافسة للتلاعب بالسياسة الفلسطينية من أجل مصالحهم الخاصة
يتعلق أحد الخلافات التاريخية الكبيرة ببرنامج “10 نقاط” عام 1974 الذي تبنته حركة فتح لكن رفضته الفصائل الأخرى لأنه يعطي الأولوية لقيام دولة على التحرير بإنشاء “سلطة وطنية”.
تلاعب خارجي
تشكل الفصائلية أرضًا خصبةً للأنظمة العربية المتنافسة للتلاعب بالسياسة الفلسطينية من أجل مصالحهم الخاصة، فعلى سبيل المثال: في سوريا والعراق أسست القوات البعثية منظمة “الصاعقة” و”الجبهة العربية الفلسطينية” على التوالي بهدف تمثيل مطالبهم المتنافسة داخل السلطة الفلسطينية، كان هذا الأمر عاملًا في تحول الحركة الوطنية من أهدافها المناهضة للاستعمار إلى مصالح الدول العربية المتنافسة.
قدمت الحركات الإسلامية ركيزةً فصائليةً إضافيةً للحركة الوطنية، فتأسيس حركة الجهاد الإسلامي عام 1981 ثم حماس عام 1987 تحدى الهيمنة التاريخية للسلطة الفلسطينية، قدمت حماس على وجه الخصوص نفسها كبديل متاح للسلطة الفلسطينية التي تمزقها الأزمات، وقدمت رؤية مختلفة تمامًا لكيفية عمل المجتمع والسياسات الفلسطينية من خلال نظام اجتماعي محافظ.
في الوقت نفسه، كان لحماس والجهاد الإسلامي منافسات فصائلية داخلية، إذ تحمل الحركتان وجهات نظر متباينة في مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية، فبينما كانت حماس فرعًا لجماعة الإخوان المسلمين، استُلهمت حركة الجهاد الإسلامي من الثورة الإسلامية في إيران عام 1979.
وعلى عكس حركة الجهاد الإسلامي التي تنأى بنفسها عن خلافات الدور الاجتماعي للإسلام، فإن عقيدة حماس تؤكد على أسلمة المجتمع كشرط سابق للتحرير، وبينما تنظر حماس إلى علاقاتها بإيران وحزب الله من خلال منظور عملي (براغماتي) فإن حركة الجهاد الإسلامي تراهما حليفين إستراتيجيين للنضال الفلسطيني.
السعي وراء السلطة
قادت سنوات أوسلو نحو مرحلة جديدة من السياسات الفلسطينية، هيمن فيها السعي وراء السلطة والامتيازات المادية على معظم الفصائل تحت التوسع الاستعماري الإسرائيلي، أدى تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994 – وهو الجهاز الذي يعتمد على المساعدات الدولية والشروط الأمنية الإسرائيلية – إلى تغذية السياسات الإقصائية على أساس من المصالح والولاء الفصائلي الضيق.
بلغت الأزمة ذروتها في 2007 وسط النزاعات بين السلطة الفلسطينية بقيادة فتح في رام الله وحكومة حماس في غزة، حشدت الاثنتان مواردهما ضد بعضهما البعض وقمعتا المعارضة وأحكمتا قبضتهما الفردية على السلطة، ما منح “إسرائيل” مساحة أكبر للتلاعب بالموقف لمنع أي مصالحة جادة بين قيادات الضفة الغربية وغزة.
تعتمد السلطة الفلسطينية بشكل كبير على الخطاب الشعبوي العقائدي لفرض هيمنتها على السياسات والمؤسسات الفلسطينية
هذه الفصائلية لها أبعاد اقتصادية أيضًا، حيث يعتمد التوظيف في القطاعات المدنية والأمنية للسلطة الفلسطينية في غزة ورام الله بشكل كبير على مدى القرب من الفصائل الحاكمة، استغلت فتح أيضًا امتيازاتها المالية لإضعاف المعارضين للسلطة الفلسطينية.
تعتمد السلطة الفلسطينية بشكل كبير على الخطاب الشعبوي العقائدي لفرض هيمنتها على السياسات والمؤسسات الفلسطينية، من أمثلة ذلك اغتيال الناشط نزار بنات مؤخرًا على يد القوات الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية.
وبينما خرج الفلسطينيون في الشوارع يطالبون بمحاسبة المتسببين في ذلك، صورت فتح الاحتجاجات على أنها مؤامرة تغذيها أجندة أجنبية تستهدف قيادتها الشرعية، وشنت حملة قمع وحشية ضدهم.
هذه الفصائلية الفلسطينية مسعى مدمر للذات في النهاية وتتعارض مع النضال الفلسطيني والمصالح الوطنية، إنها تهمش الأصوات والأفكار التي نحتاج إليها بشدة وتمنع التغير التقدمي داخل الحركة الوطنية، وإذا استمر هذا الشكل الصارم للفصائلية، فإن انحلال الحركة الوطنية الفلسطينية سيصبح أمرًا محتومًا.
المصدر: ميدل إيست آي