إذن هي جمهورية جنوب السودان منذ انفصالها يوم التاسع من يوليو عام 2011 لتصبح دولة مستقلة بعد تصويت أغلب الجنوبيين من أجل الانفصال في استفتاء أُقيم في مطلع عام 2011.
المعروف عن السودان أنها تتألف من عدة ممالك قديمة كالفونج وكرفان والفور، كذلك عرف جنوب السودان بالقبائل الزنجية التي تسكنه كما عرف الشمال بقبائل البجا.
لم تمثل القبائل الزنجية في الجنوب أي فارق في الشمال نظرًا لانعزال السكان هناك الذين امتهنوا الزراعة في جنوب كردفان، ولكنهم لم يعرفوا أي حضارة حقيقية في ذلك الحين، حتى إن الديانة الوثنية كانت هي الغالبة على الشعب الجنوبي المعقد في تركيبته، حيث إن هناك عدة تصنيفات للمجتمع هناك تقوم على أساس قبلي، فهناك قبائل البونجو كمثال على القبائل التي يطلق عليها أنها سودانية، وهناك قبائل يطلق عليها أنها نيلية حامية مثل الباريا والتبوسا وهناك النيلية فقط كالدينكا والنوير، هذا التصنيف اعتمده الدكتور “عبد مختار موسى” في كتابه مسألة الجنوب ومهددات الوحدة في السودان، ويُستشف من هذا حجم التعقيدات القبلية التي يشهدها مجتمع جنوب السودان، وهو ما يفسر الصراع الدائر فيه الآن رغم كل محدداته ونوازعه السياسية.
كان الشمال ولايزال الأغنى ثقافيًا وحضاريًا بالرغم من كونه أفقر من جنوب السودان من حيث الموارد، حيث إن الولايات الشمالية أغلب أراضيها صحراوية ماعدا أراضي وادي النيل وهي ضيقة ومحدودة، أما إذا نظرت إلى الجنوب فإن ولاياته تكسوها الأعشاب والغابات الاستوائية فضلاً عن كميات النفط الهائلة المحفوظة في باطن الأرض الجنوبية.
تبلغ مساحة جنوب السودان حوالي 700 ألف كم مربع أي ما يعادل قرابة 30% من مساحة السودان، كما أن حدوده البرية تمتد إلى قرابة 2000 كم مع السودان شمالاً، جنوبًا أوغندا وكينيا، شرقًا إثيوبيا، وغربًا الكونغو الديمقراطية وجمهورية أفريقيا الوسطى.
كما أنه مقسم إداريًا إلى عشر ولايات ضمن ثلاثة أقاليم رئيسية: إقليم أعالي النيل – إقليم بحر الغزال – إقيلم بحر الجبل.
لا تستطيع في القرن الـ 21 إعداد إحصاء دقيق عن عدد السكان بجنوب السودان نظرًا لعدم اهتمام الجنوبيين بقضية تسجيل المواليد، إلى أن هناك أرقامًا غير رسمية وغير معترف بها كثيرًا تتحدث عن أن عدد سكان الجنوب يتجاوز الثمانية ملايين نسمة مقسمين إلى أكثر من 500 قبيلة يتحدثون أكثر من 100 لغة محلية، إلا أنه لا توجد لغة فرضت نفسها كلغة رسمية حتى الآن فيما تعد اللغة الإنجليزية الأساس، حيث تتعامل بها الحكومة لعدم صلاحية أي من اللغات الأفريقية للتعاملات السياسية وذلك بعد أن فرضت بريطانيا في عصر الاستعمار حظرًا على تحدث اللغة العربية بين الجنوبيين مما يوحي بأن قضية الجنوب لها أبعاد تاريخية أخرى.
أبرز القبائل الحاكمة في الجنوب والتي يدور بينها الآن حرب طاحنة أدت إلى تشريد ملايين الجنوبيين وإلى وجود أكثر من مليون جائع في الجنوب السوداني هما قبيلتا: “الدينكا” و”النوير”.
قبيلة “الدينكا” هي الأكثر تماسكًا في الجنوب وتتمتع بأغلبية عددية وقوة مسلحة تجعلها مؤهلة للسيطرة على الحكم في الجنوب ومنها مؤسس الحركة الشعبية لتحرير السودان “جون جارنج”.
على الجانب الآخر تأتي قبيلة “النوير” في المرتبة الثانية من حيث العدد ولكنها في خصومة قبلية مع الدينكا بخصوص مسائل الحكم في الجنوب ومن أبرز أبناء هذه القبيلة “رياك مشار” نائب الرئيس الجنوبي السابق.
تنتشر الحركات المسلحة الموالية لهاتين القبيلتين فيما تنقسم القبائل الأصغر في ولائها بينهما أيضًا.
أما على الصعيد الديني فالجنوب مركز خصب للتبشير نظرًا لشدة الفقر هناك جراء النزاعات القبلية والسياسية، فالمسيحية هي الأسرع انتشارًا في الجنوب بعد الدخول في صراع مع حكومة الإنقاذ الإسلامية في الشمال؛ ما أدى إلى حسياسية الجنوبيين تجاه التوجه الإسلامي، فالأغلبية الدينية هي ذات طابع مسيحي يليها المجموعات المسلمة في الجنوب، ولكن هناك أغلبية طبقًا لعدد السكان لا ينتمون لأي دين أو يعتنقون ديانات أفريقية وثنية قديمة.
إلا أن قضية الدين في الجنوب ليست قضية ذات بعد هوياتي، حيث إن الجنوبيين لديهم انفتاح فيما يتعلق بقضية الدين، فعلى سبيل المثال: الولاء للقبيلة كحاضنة ولا دور كبير للأمر الأسري هناك، فالعلاقات الجنسية منفتحة للغاية في الجنوب بدون أُطر الزواج، كما يرى أحد سفراء ألمانيا السابقين في السودان الذي يعبر عن التباين بين الشمال السوداني والجنوبي من حيث المجتمع بقوله “إن هناك خلافًا في الأبعاد الثقافية والمفاهيم الدينية للدولة والإرث الحضاري لدى الشمال والجنوب؛ الأمر الذي يجعل الجنوب أقل حدة من ناحية الصراع الديني مما يستبعد احتمال أن أي اقتتال قد يكون بسبب طائفي ديني وإنما السبب الأساسي هو العرقي الإثني”.
فالصراعات القبيلة على أساس الأفضلية العرقية ما زالت تسيطر على الجنوب والرغبة في احتكار السلطة والثروة هي أحد أهم أسباب القتال الدائر في الجنوب، فوفقًا لتقديرات غير رسمية يوجد بالجنوب أكثر من 40 فصيل مسلح تابع لقبائل مختلفة؛ ما جعل الجنوب ليس أفضل حالاً بعد الانفصال مما كان عليه قبله.
جنوب السودان عانى كثيرًا من التهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي من الحكومة المركزية في الخرطوم طوال عقود؛ ما جعل الجنوبيين يشعرون بالمظلومية والاضطهاد، كما عقَّد من عملية اندماجهم في المجتمع الشمالي بسبب عاداتهم ونمط حياتهم القبلية التي لا يعرفها الشمال بحكم الذي يدخل طور المدنية بالتدريج، هذا الأمر الذي أشارت إليه دراسات عن مدى قوة واندماج الجنوبيين مع غيرهم من الشمال العربي فكانت النتيجة سيئة للغاية، حيث إن هناك فروقات ثقافية واجتماعية جعلت نوعًا من الاحتقان يسود داخل المجتمع الجنوبي تجاه الشمالي، كذلك النظرة الاستعلائية من سكان العاصمة المركزية للجنوبيين حتى إن النكات الفكاهية كانت لا تخرج إلا سخريةً من الجنوبيين وعاداتهم.
ما زاد الأمر في المجتمع الجنوبي أن استغلال الشمال لمواردهم دون أدنى رعاية أو اهتمام بالجنوب من خدمات وإمكانيات؛ جعل الأمر يزداد صعوبة، حيث شعر الجنوبيون بضرورة الانفصال عن الحكومة المركزية وهو ما تم بعد ذلك.
انفصل الجنوب بأكثر من 75% بالمائة من موارد السودان الحقيقية من البترول، الذي أثبتت دراسات غربية كثيرة أن مناطق بالجنوب تعوم على آبار من النفط، كذلك المراعي والثروة الحيوانية هي الأغلب في الجنوب، والأراضي الزراعية الخصبة جميعها تنتمي إلى الجنوب، لكن كل هذا لم يكن كافيًا لتدعيم الحياة في الجنوب حيث ما زال الجنوب يعاني من الفقر والفشل السياسي والاقتصادي بسبب النزاعات القبيلة، فلا توجد مدارس ولا مستشفيات ولا طرق ولا خدمات كهرباء أو شبكات للمياه والصرف وإنما نمط الأكواخ ما زال يسيطر على الشكل البنائي للجنوب، فلا يوجد أي كوادر فنية في الدولة من أطباء أو مهندسين أو مدرسين أو غيرهم لتأسيس تلك الخدمات لأن كل التركيز من الحركة الشعبية انصب على الصراع من حكومة الإنقاذ بالإضافة للصراع القبلي الدائر من الدينكا والنوير والشلك، ما دعى مجلة الايكنوميست أن تقول في عنوان لها إن “دولة جنوب السودان تدمر نفسها من الداخل” حيث استبعدت التوصل لاتفاق في النزاع الداخلي الدائر بين الرئيس “سيلفا كير” المنحدر من قبيلة الدينكا ونائبه السابق “رياك ماشر” المنحدر من قبيلة النوير والمتهم بتدبير انقلاب على كير في الآوانة الأخيرة؛ ما دعى سلفا كير لعزله واشتعلت الأوضاع في الجنوب، وتقول المجلة أيضًا إن الصراع يتجه إلى التطهير العرقي بعد نزوح هائل لآلاف السكان من مناطق الصراع خشية القتل الانتقامي وذلك بعد انتشار ما سمته الأمم المتحدة بالعنف الجنسي الانتقامي الممارس من الفصائل المتصارعة ضد بعضها البعض، حيث عبرت عن ذلك “هاوا بانجورا” ممثلة المنظمة الدولية لمكافحة العنف الجنسي في حالات النزاع قائلة إن جرائم الاغتصاب ازدادت بشكل ملحوظ في جنوب السودان بعد اشتعال الحرب الأهلية الأخيرة، وأكدت أن هناك أوامر صدرت من القيادة العسكرية للأطراف المتصارعة بتنفيذ عمليات اغتصاب على أساس عرقي؛ ما اضطر الجنوبيين القادرين إلى الهجرة مرة أخرى إلى الشمال وهو ما لاحظته الحكومة في الخرطوم.
ومما يقوض من فرص وقف الاقتتال الداخلي أن الفريقين المسلحين المتنازعين يمتلكان خبرة كافية في حروب العصابات والمليشيات والتي خاضوها ضد الحكومة المركزية في الشمال لسنوات؛ لذلك من غير المتوقع أن يقضي فصيل على الآخر وأن الشعب الجنوبي هو من سيدفع الثمن كله بعد المجاعة التي حدثت نتيجة عدم توافر المواد الغذائية بشكل كاف لأكثر من مليون مواطن بسبب الحرب الدائرة.
إن للجنوب وجه آخر غير معروف لدى وسائل الإعلام كثيرًا، فالداخل الجنوبي أكثر تعقيدًا مما يُصور، خاصةً وأن منطقته أصبحت تسمى بمناطق نفوذ وتصارع لدى قوى عالمية مستغلة حالة التشرذم الداخلي للسيطرة على ثروات الجنوب، وهو الصراع الملحوظ بين شركات النفط الصينية والأمريكية والإسرائيلية للسيطرة على مخزون النفط الجنوبي المتروك لصراعات على السلطة لا يُرجى أن تنتهي قريبًا.