لا تزال الأزمة التونسية غير المسبوقة بعد 5 أشهر من الاضطراب تراوح مكانها، في ظلّ تسارع الأحداث وتشكُّل تغيُّرات جديدة في خارطة التموقعات من الانقلاب الدستوري الذي نفّذه الرئيس سعيّد في 25 يوليو/ تموز الماضي؛ فأغلب القوى السياسية والوطنية التي ساندت الإجراءات الاستثنائية في البداية بدأت تنقلب عليه تدريجيًّا، حتى لم يبقَ معه إلّا النزر القليل الذين لم يتحصّلوا في الانتخابات الماضية على مقعد واحد في البرلمان، وما زالوا يمنون النفس ببعض مناصب أو امتيازات.
لكن تغيُّر خطاب أكبر المنظمات النقابية ممثَّلة في اتحاد الشغل، وأحد أكبر الأحزاب في البلاد حركة النهضة وحتى حركة الشعب الأكثر تأييدًا للرئيس، هل ينذر ببداية تبلور رؤية للخروج من الانسداد؟ ومع أي قوى مدنية وسياسية؟
انقلاب وحّد الخصوم
لم ينجح الرئيس قيس سعيّد منذ إعلانه الأحكام الاستثنائية إلّا في توحيد خصومه وفضّ الناس من حوله، بسبب غموضه وتشنُّج خطاباته ومضيّه قدمًا في تطبيق برنامجه السياسي، الذي يرفضه أغلب مكونات الشعب وحساسياته من مجتمع مدني وسياسي.
فبعد حزب التيّار الذي أعلن معارضته له علانية بعد المرسوم 117، بدأت حركة الشعب في انتقاد الرئيس سعيّد بسبب تفرُّده بالسلطة وعدم تشاوره مع السياسيين من مسانديه.
أضف إلى ذلك الانتقادات الواضحة من اتحاد الشغل للوضع الحالي للبلاد، وحالة الغموض التي أصبحت عليها، وغياب برنامج ورؤية واضحَين للمستقبل في ظل أزمة سياسية واقتصادية واحتقان اجتماعي متصاعد وغير مسبوق.
“الخيار الثالث” والحسم
لكن التغيُّر الواضح كان في موقف اتحاد الشغل، وتصريحات أمينه العام المتصاعدة بدأت تنبئ بأزمة حقيقية لحقت بالانقلاب، بعد ظهور كل مؤشّرات فشله وعدم قدرته على حلّ وإدارة أزمات البلاد السابقة التي تسبّب فيها منذ نحو 5 أشهر.
أشدّ هذه التصريحات قال فيها نور الدين الطبوبي، أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل، إنّه لا يعطي صكًّا على بياض لأحد، وأن هناك بوادر عصيان في البلاد يهدِّد بانفجار غير مسبوق العواقب، حيث أعلن عمّا أسماه “الخيار الثالث” بعد توجيه سهام انتقاداته للحكومة ورئيستها، التي وصفها بـ”المسكينة”، ورئيس الدولة الذي طالبه بتوضيح الرؤية.
ما يعني أنّ اتحاد الشغل قد اتخذ فعلًا قراره بمعارضة الرئيس سعيّد وخطواته المزمع القيام بها مستقبلًا، لا سيما بعد التأكُّد من أن الرجل لا يبحث إلا عن مزيد التفرُّد بالسلطة والقرارات وتطبيق برنامجه السياسي بالقوة، حيث يلقى رفضًا من أغلب الطيف السياسي والمجتمعي في البلاد.
هذا التغيُّر في مواقف اتحاد الشغل، أكبر منظمة شُغلية في البلاد، وتُعتبر شريكًا واضحًا وقويًّا في تحديد وتشكيل مسار البلاد منذ الثورة وإلى اليوم؛ يؤكّد مدى فداحة الخطأ الذي ارتكبه الانقلاب عبر مضيّه قدمًا لتطبيق كل طموحات الرئيس، وضرب باقي مكوّنات البلاد عرض الحائط، ما أدّى إلى اتِّساع رقعة المعارضة وتوسُّع أزمات البلاد ودخول الانقلاب في أزمة جديدة، ما أدّى أيضًا إلى مزيد من تراجع شعبية الرئيس سعيّد رغم كل محاولات الالتفاف والمغالطات التي يسوِّق لها مؤيّدوه.
بوادر تنسيق بين النهضة واتحاد الشغل
اللافت أيضًا، في الأحداث الأخيرة، أنّ هناك بوادر عمل مشترك وتنسيق بين حركة النهضة واتحاد الشغل، حيث تزامنت تصريحات زعيمَيهما مؤخرًا ضدّ الوضع الراهن في البلاد والرئيس سعيّد.
ففي الوقت نفسه الذي عبّر فيه الطبوبي عن عدم استعداد الاتحاد مساندة حالة الغموض، متسائلًا: “هل من الممكن مساندة رجل يمشي في الظلام؟”، جاء تصريح الغنوشي اللافت للنظر والذي اعتبر تصعيديًّا وسابقةً منذ إجراءات 25 يوليو/ تموز، عندما قال إن البرلمان سوف يعود للعمل “أحبّ من أحبّ وكره من كره”.
لتتوسع منذ ذلك الوقت دائرة معارضة الرئيس وانتقاده لدى العديد من الأطراف النافذة والفاعلة في البلاد، ولم تبقَ في دائرته غير بضعة حزيّبات يسارية متطرِّفة فاشلة انتخابية أغلبها بلا مقرّات ولا حتى مؤتمرات انتخابية، لا تقدر على مَلء حافلة ركّاب مجتمعة، منها حزبا تونس إلى الأمام والتيار الشعبي.
ولا يخفى على المتابعين أن التغيُّر الملحوظ في مواقف وتصريحات اتحاد الشغل، جاء بعد سلسلة من اللقاءات مع بعض الأحزاب المعارضة للانقلاب، على غرار أحزاب التيار والجمهوري وآفاق تونس وغيرها، وكذلك بعد لقاءات مع سفيرَي كل من فرنسا وأمريكا، حيث من الممكن أن تكون لتحركات منظمة الشغيلة اليوم قراءات لمواقف الدول الكبرى ممّا يحدث في تونس، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا.
وفي هذا السياق كشفَ النائب عن حركة أمل وعمل، ياسين العياري، قبل أيام، أن القوى الدولية الكبرى لم تعد مقتنعة بالرئيس سعيّد، ومنها فرنسا وأمريكا وبريطانيا، وأن حركة النهضة واتحاد الشغل يعملان معًا من أجل إسقاط الانقلاب في البلاد.
مفاجآت عيد الثورة
تأتي هذه التغيُّرات في خارطة التحالفات والتموقعات في المشهد السياسي التونسي، وسط انتظارات وترقُّب لما يمكن أن تحمله الأيام القادمة من مفاجآت وأحداث، لا سيما بعد بدء بعض المواقع المساندة للرئيس سعيّد بالتحشيد من أجل مساندة القرارات المنتظرة لسعيّد يوم 17 ديسمبر/ كانون أول القادم، الذي أعلنه قبل أيام بأنه يوم عطلة وأنه عيد وطني للثورة بدل يوم 14 يناير/ كانون ثاني.
يأتي ذلك وسط تكهُّنات باعتزام سعيّد إعلان حلّ المجلس الأعلى للقضاء وإدارته عبر المراسيم الرئاسية، كما سبق أن لمّح لذلك من قبل، وكذلك عزمه إعلان موعد إجراء استفتاء من أجل تغيير النظام السياسي إلى رئاسي، تمهيدًا لتولي النصيب الأوفر من السلطة بيده “قانونيًّا”، وربما الخروج من دائرة الانقلاب الذي بدأ يتآكل يومًا بعد يوم، وتتآكل معه آمال فئة من تونسيين عقدوا آمالهم على انقلاب فاشل، فيما هو غير قادر حتى على الخروج من أزماته الداخلية التي تسبّبَ فيها، حيث بدأت الانشقاقات بالظهور بين بعض أقطابه وكذلك القفز من سفينته بعد التأكُّد من فشل مشروعه الشعبوي “الانتحاري”.
فشل لم تعد تحمد عقباه من أقرب الموالين، إذا ما واصل رئيس الدولة تعنُّته ومضيّه نحو مزيد التفرُّد بالسلطة وتطبيق مشروعه السياسي المجالسي المتناقض مع كل المبادئ التي يرفعها الرجل، وعلى رأسها نظافة اليد ومقاومة الفساد، إذ يفتح هذا المشروع الباب لكل الفاسدين والنافذين كي يتربّعوا على كراسي السلطة في كل المجالس والمحليات.