رغم غياب الإحصاءات الرسمية وصعوبة الوصول إلى أرقام دقيقة، إلا أن الكثير من التقارير الحقوقية والصحافة المحلية والقصص الاجتماعية تكشف عن أن ظاهرة إزالة أرحام ذوات الإعاقة لا تزال منتشرة بقوة في الكثير من الدول العربية، لا سيما في المناطق المهمَّشة والفقيرة، رغم التحذيرات الطبّية من خطورة الظاهرة والإدانات الحقوقية الواسعة.
وبحسب التقارير الحقوقية والقصص الاجتماعية، فإن نسبة كبيرة من الإناث من ذوي الإعاقة يقعن ضحية عمليات جراحية لإزالة الرحم لدوافع مختلفة، أبرزها ما يتعلق بالمعتقدات الاجتماعية والخشية من تعرُّضهم للاغتصاب وبالتالي الحمل، أو دوافع اقتصادية للعائلات الفقيرة التي تحاول تقليل تكاليف ومصاريف ذوات الإعاقة، لا سيما ما يتعلق بالمتطلبات الصحية الشهرية للفتيات.
وبينما ترى العائلات التي تلجأ لاستئصال أرحام ذوات الإعاقة أنها “مجبرة” على القيام بذلك لـ”مصلحة بنتهم”، سواء لحمايتها من الحمل أو ما تعتبره “فضيحة اجتماعية” أو لأسباب مادية، حتى أن البعض يعتبر ذلك بمثابة “حماية طبّية” لذوات الإعاقة غير القادرات على الالتزام بمعايير نظافة صحية آمنة، إلا أن قوانين جميع الدول تُجرِّم هذه الممارسات إلا في حال وجود توصية طبية علمية تجيز استئصال الرحم، كما يحرِّمها دين الإسلام شرعيًّا فيما تعتبرها المؤسسات الحقوقية “انتهاكًا لحقوق ذوات الإعاقة”.
الإفلات من العقاب
وعلى سبيل المثال، في الأردن تقدَّر المعدلات السنوية لعمليات إزالة الأرحام لذوات الإعاقة نحو 65 عملية، بحسب ما أوردته إحصاءات جمعية معهد تضامن النساء الأردني، والتي صنّفتها في إطار ممارسات “التمييز ضد النساء”.
مادة 30 من قانون الأشخاص ذوي الإعاقة تعتبر إزالة الأرحام شكلًا من أشكال العنف الممارَس ضد ذوات الإعاقة، ما لم يكن جرى ذلك لدواعٍ طبّية تؤثر على صحتهن وحياتهن
ويشير معهد تضامن إلى أن العنف المرتكب ضد النساء والفتيات ذوات الإعاقة العقلية قد يكون على شكل تدابير وتدخُّلات طبية، يجبرن عليها أو تكون دون وعيهن الكامل، كما هو الحال في حالة إزالة أرحام النساء والفتيات ذوات الإعاقة المنتشرة في العديد من الدول.
وذكر معهد تضامن أن المادة 30 من قانون الأشخاص ذوي الإعاقة تعتبر إزالة الأرحام شكلًا من أشكال العنف الممارَس ضد ذوات الإعاقة، ما لم يكن جرى ذلك لدواعٍ طبّية تؤثر على صحتهن وحياتهن.
وتشير عدة تقارير حقوقية، ومنها تقرير معهد تضامن الأخير، إلى مجموعة من الأسباب تؤدي إلى تزايد الانتهاكات بحقّ ذوات الإعاقة، وأبرزها سكوت النساء عند تعرّضهن إلى الاغتصاب وضعفهن بعدم الإبلاغ عن هذه الجرائم، ما يساهم في إفلات مرتكبي العنف من العقاب.
من الأسباب أيضًا الخوف من فقدان استقلاليتهن أو الانتقام، ووجود حواجز تتعلق بالحركة والمواصلات للوصول الى مراكز الأمن أو المؤسسات الحكومية وغير الحكومية التي تقدِّم لهن المساعدة القانونية والاجتماعية والنفسية، واعتماد الكثيرات منهن على مساعدة وخدمات مرتكب العنف إذا كان أحد أفراد الأسرة، وقلّة برامج التوعية والتثقيف بحقوقهن أو صعوبة الوصول إليها.
تكتُّم ومحاذير اجتماعية
وفي فلسطين المحتلة تكشف بعض الناشطات الفلسطينيات في مجال حقوق الإنسان عن بعض الحالات لأسر أقدمت على استئصال أرحام بناتهن من ذوات الإعاقة من دون علمهن بنوع العملية، وذلك بطرق التفافية وغير رسمية، وذلك في ظلّ حظر القانون لهذه التصرفات رسميًّا.
وتشير العديد من القصص إلى أن العائلات لجأت إلى ذلك بدوافع الوضع الاقتصادي ومحاولة تقليل مصاريف ابنتهم من المستلزمات الصحية، حيث تحتاج ذوات الإعاقة إلى رعاية واهتمام صحّي دائم ونفقة مالية تفوق قدرة هذه الأسر، وبالتالي تلجأ إلى تقليل هذه الأعباء من خلال إزالة الرحم لبناتهن من ذوات الإعاقة.
أما الدافع الثاني الأكثر شيوعًا فهو المحاذير الاجتماعية والخشية من الآثار الصعبة التي قد يخلّفها وقوع حمل، خاصة للفتيات المعاقات ذهنيًّا في حال تعرضهن لاعتداء جنسي، وسط خشية من وقوع ما تعتبره العائلات “فضيحة اجتماعية”.
بعض العائلات التي يتعذّر عليها إجراء عملية إزالة الرحم، تلجأ إلى إعطاء ذوات الإعاقة عقاقير وحقن غير مصرَّح بها طبيًّا، بهدف تأخير الدورة الشهرية وحتى وقفها لتقليل الأعباء المتعلقة بالنظافة والصحة
ورغم عدم وجود إحصاءات رسمية أو حتى غير رسمية سنوية موثَّقة، حول أعداد الحالات التي يجري استئصال أرحامها من ذوات الإعاقة الذهنية، إلا أن الصحافة المحلية والعديد من القصص الاجتماعية التي تتسرّب على نطاق ضيّق تؤكد أن هذه الظاهرة ما زالت موجودة في بعض المناطق بقطاع غزة والضفة الغربية.
تقول باحثة حقوقية فلسطينية، رفضت الكشف عن اسمها، إن قصصًا يصعب توثيقها تشير إلى أن بعض العائلات ترغب في استئصال أرحام بناتهم من ذوات الإعاقة، لكن القانون الفلسطيني ورفض المستشفيات القيام بهذه العملات يدفعاهم للقيام بذلك في عيادات صغيرة بشكل غير قانوني، أو من خلال معارف أو طبيب منزل بشكل سرّي، ما يشكّل تهديدًا حقيقيًّا على حياة الفتيات.
كما تشير الباحثة الحقوقية إلى أن عائلات تلجأ إلى طرق أخرى عندما يتعذّر عليها إجراء عملية إزالة الرحم، ومنها إعطاء ذوات الإعاقة عقاقير وحقن غير مصرَّح بها طبيًّا، بهدف تأخير الدورة الشهرية وحتى وقفها لتقليل الأعباء المتعلقة بالنظافة والصحة التي تمرُّ بها الفتيات ذوات الإعاقة فترة الدورة الشهرية.
وتنظِّم مؤسسات حقوقية فلسطينية حملات توعية للتحذير من مخاطر استئصال أرحام الفتيات ذوات الإعاقة من دون ضرورة طبية، وتستند إلى الفتاوى الدينية التي تحرِّم القيام بذلك، واعتبارها حرمانًا من أبسط حقوق الحياة، إلى جانب أنها مخالفة للقانون الفلسطيني والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وفي ورقة حقائق بعنوان “مؤشرات العنف ضد النساء الفلسطينيات في الضفة الغربية وغزة للعام 2019″، أظهر مسح العنف المجتمعي في آخر إحصاءاته للمركز الفلسطيني للأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية، أن 27% من النساء ذوات الإعاقة (18-64 سنة) اللاتي لم يسبق لهنّ الزواج، تعرّضن للعنف لمرة واحدة على الأقل من أحد أفراد الأسرة، كما أظهر المسح أن 85% من النساء ذوات الإعاقة تعرّضن لأشكال متعددة من العنف: نسبة 65.3% تعرّضن للعنف الجسدي، و92.3% للعنف النفسي، و13.3% للعنف الجنسي، بينما 85.3% يتعرّضن للعنف الاقتصادي.
تجنُّب الحمل
وفي مصر ترى بعض الأسر المصرية أن استئصال رحم ذوات الاحتياجات الخاصة حماية لهن من حدوث “جرائم الشرف” التي لا يتقبّلها أي مجتمع عربي، وعندما تبدأ الفتاة بظهور علامات الأنوثة لديها، يتخوف الأهالي من أن تكون ابنتهم مصدر جذب للمعتدين.
كما يسود اعتقاد أن إزالة الرحم سوف يحافظ على ابنتهم من الحمل إذا تعرّضت للاغتصاب، كما تعاني الأمهات من صعوبة وحرج في التعامل معهن أثناء فترة الدورة الشهرية، وجهلهن بتوجيه ابنتهن بالنظافة الشخصية وكيفية الاهتمام بنفسها، وقد وصلت بعض الأسر إلى تقييد بناتهم وحبسهن في البيت خوفًا من اختطافهن واغتصابهن ومعاملتهن بالتمييز.
وأظهر المجلس القومي لشؤون الإعاقة في تقرير له، أنه يتم إجراء 400 عملية استئصال في السنة للبنات ذوات الإعاقة بمستشفيات القاهرة والأرياف، وذلك رغم تجريم القانون المصري للتمييز، حيث ينصُّ القانون رقم 10 لسنة 2018 على حماية ذوي الإعاقة والحثّ على مناهضة التمييز والعنف القائم ضدهم.
ونرى أبعاد هذه الظاهرة الخطيرة في المسلسلات والأفلام المصرية التي ساهمت في تكوين صورة الواقع، وخوف المجتمعات من ذوات الاحتياجات الخاصة والإعاقات الذهنية، بل ساعدت في تكون خلفية مسبقة لدى الأهالي في تصوُّر الأحداث، حيث تراوحت بين صور الضحية للإساءة والسخرية والاستغلال الجنسي، ونظرة الناس المصاحبة للشفقة والعطف عليهن.
ومن الصور التي تضمّنتها السينما المصرية لذوات الاحتياجات الخاصة فليم” توت توت”، حيث يُظهِر المخرج صورة التسول والضعف لفتاة اسمها كريمة، ظهرت بدورها الممثلة نبيلة عبيد، وهي متسوِّلة لديها إعاقة عقلية ويستغلها البعض في أعمال شاقة، ثم يُعجب بها رجل ثري جاء لزيارة المولد في الحي الشعبي الذي تسكنه، فيستغلّ جسدها ثم تحملُ طفلًا منه ليهرب ويتركها تعيش مع طفلها بالشارع.
أضرار جسدية ونفسية
أظهرت دراسة جديدة أن استئصال الرحم قد يزيد من خطر إصابة النساء بالخرف بعد سن الـ 60، وتؤدّي عملية استئصال الرحم إلى انقطاع الطمث، وبعد العملية ينجم عن ملاحظة تغيُّر الكثير من الفتيات في إدراكهن، أو بما يُعرَف بـ”ضباب الدماغ”.
استئصال الرحم للنساء ذوات الإعاقة الذهنية محرَّم شرعيًّا وقانونيًّا وإنسانيًّا وفيه إهانة للمرأة، سواء كان بدافع التخلص من المشكلات التي تعاني منها المعاقة وذويها بسبب الدورة الشهرية
كما حذّرت دراسة أخرى من إجراء استئصال للرحم والمبيضَين في عملية جراحية واحدة، لأن ذلك يزيد خطر إصابتهن بالسكتات الدماغية والأزمات القلبية، ووجدت الدراسة التي أعدّها فريق من الباحثين الألمان ونُشرت بمجلة “داتشيز ارزتبلات” الدولية، أن 4% من النساء اللواتي لا يتخطى عمرهن الـ 50 عامًا وأجريت لهنّ جراحة استئصال للرحم لسبب غير السرطان مع استئصال المبيضَين، زاد خطر إصابتهن بالسكتات الدماغية ومرض القلب التاجي.
كما يتسبّب استئصال الرحم في مجموعة من الآثار الجانبية الجسدية على المدى القريب، وتشملُ هذه التأثيرات التي يمكن حدوثها بعض الأعضاء الأخرى، مثل المثانة، والأمعاء إلى أسفل، وقد ينتج عن ذلك مشكلات في التبول ثم إجراء جراحة أخرى، وإزالة الرحم يعني عدم القدرة على الحمل مجددًا، وهذا أمر صعب لدى أغلب النساء، وخاصةً في حالة إجراء هذه العملية في سن صغير.
وفي النهاية، استئصال الرحم للنساء ذوات الإعاقة الذهنية محرَّم شرعيًّا وقانونيًّا وإنسانيًّا وفيه إهانة للمرأة، سواء كان بدافع التخلُّص من المشكلات التي تعاني منها المعاقة وذويها بسبب الدورة الشهرية، أو بدافع قلق الأهل لمنع حدوث الاغتصاب مسبقًا ومنع استغلال ابنتهم جنسيًّا، إذ يعدّ عضوًا مهمًّا للمرأة ولا يجوز استئصاله إلا في الحالات المرضية التي لا يكون علاجها إلا بالاستئصال، ويُضاف أن هذه العوامل جميعها تؤثر على الصحة النفسية للمرأة وتجعلها دائمة العصبية والتوتر، ما يتطلب بعد ذلك معالجتها نفسيًّا.