انتشرت في الفترة الأخيرة العديد من القصص لإسرائيليين رفضوا التجنيد في جيش الاحتلال الإسرائيلي، بحجّة ما ينفّذه الجيش من جرائم وانتهاكات بحقّ الفلسطينيين، الأمر الذي لاقى احتفاءً من بعض الفلسطينيين والمدافعين عن القضية الفلسطينية في الأوساط الغربية، ورأوا فيه “صحوة إنسانية” لدى رافضي التجنيد وانتصارهم للحق الفلسطيني.
وقد ارتفعت نسبة العزوف عن الالتحاق بالجيش خلال الجيل الأخير بشكل متسارع، فبينما بلغت عام 1980 قرابة 12%، ارتفعت النسبة إلى 32% عام 2020، وفي بداية العام الجاري وقّع 60 إسرائيليًّا لم يدخلوا سنّ التجنيد بعد على عريضة أعلنوا فيها رفضهم الخدمة في الجيش، بسبب “احتلال أراضي الفلسطينيين وطردهم منها، وانتهاك حقوق الإنسان في الضفة الغربية وقطاع غزة، وسياسة الأبارتايد؛ وعنصرية المجتمع الإسرائيلي، والخطاب التحريضي”.
في أثناء ذلك، تصاعدت بعض الأصوات التي تدعو إلى التفكير مرتين قبل الاحتفال بعزوف الإسرائيليين عن التجنيد في الجيش، وأن الأمر وإن كان يبرز جرائم الاحتلال من قلب الاحتلال نفسه، لكنه لا يعني بالضرورة الاحتفاء وتسجيل نصر للقضية الفلسطينية، وأن بعض أسباب العزوف قد تكون غير مرتبطة بأي حال بالصراع مع الاحتلال.
ظاهرة قديمة.. أسباب متعددة
بعد الهزيمة التي مُنيَ بها جيش الاحتلال في أعقاب حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973، بدأ ينكشف الستار عن توجُّه لدى الإسرائيليين الشباب في العزوف عن التجنيد، وذلك تبعًا لما مثّلته الهزيمة بتراجُع رصيد الجيش في عيون الإسرائيليين.
وقد أكّد على ذلك الهزات -إن لم نقل الهزائم- الكبيرة التي لحقت بالاحتلال في حروبه ومعاركه اللاحقة، مثل الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، والانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، والانتفاضة الثانية المندلعة عام 2000، وحرب لبنان الثانية أو حرب تموز عام 2006، و4 حروب في غزة عام 2008، 2012، 2014، 2021.
إلى جانب ذلك كله، أسهمت في تعزيز هذه الظاهرة عمليات أسر الجنود الإسرائيليين التي نفّذتها المقاومة الفلسطينية في تاريخ نضالها، والتي كان آخرها عملية أسر 4 جنود إسرائيليين، منهم شاؤول آرون وهدار غودلن اللذين أسرتهما المقاومة خلال الحرب على قطاع غزة عام 2014، بينما أسرت الجنديَّين الآخرَين في ظروفٍ لم يفصح عنها الجانب الإسرائيلي.
ولم يقف الأمر عند هاجس الأسر فحسب، بل يتعدّاه إلى الانتقادات التي وجّهتها عائلات الجنود الأسرى إلى حكومة الاحتلال، وتقاعسها عن اتخاذ إجراءات جدّية لاستعادة أبنائهم، الذين بلغوا الآن أكثر من 7 سنوات في “ضيافة” المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، فضلًا عن “توجيه حنبعل” الذي يقضي بـ”كيفية ردّ الوحدات الميدانية عندما يؤسر جندي من قبل قوات معادية، ويسمح هذا التوجيه باستخدام الأسلحة الثقيلة في حالة أسر أي جندي إسرائيلي لمنع الآسرين من مغادرة موقع الحدث”، وما يحمله التوجيه من قتل الآسر والأسير معًا، الأمر الذي أفقد ثقة الجنود الإسرائيليين بجيشهم.
كما أن العزوف عن الخدمة في جيش الاحتلال تصاعد في الوحدات القتالية فيه، وهو ما لوحظ في دفعة التجنيد من شهر أغسطس/ آب، حين كان فقط 67% من المجندين الجدد يرغبون بالانضمام إلى هذه الوحدات، أي أنهم يفضّلون الالتحاق بوحدات غير قتالية.
وتعقيبًا على هذه الظاهرة، يقول أحد المسؤولين في جيش الاحتلال لصحيفة “إسرائيل هيوم” العبرية، إن “هذه الظاهرة مثيرة للقلق، فالمقاتلون يفضّلون الالتحاق بالدفاع الجوي على الالتحاق بلواء جولاني، ويفضّلون الالتحاق بالجبهة الداخلية على الالتحاق بلواء جيفعاتي، ويفضّلون الانضمام الى حرس الحدود بدلًا من الالتحاق بلواء كفير، وتنتشر هذه الظاهرة بشكل أوسع في المجتمع الإسرائيلي وهي ظاهرة ينبغي الانتباه إليها وإيجاد طريقة لمعالجتها”.
وعلى صعيد آخر، فإن من الأسباب التي تؤدّي إلى العزوف بعيدًا عن الصراع الفلسطيني مع الاحتلال، إذ يلفت المحلل العسكري الإسرائيلي الكبير روني دانييل، إلى أن هذه الموجة المقلقة من التراجع مرتبطة بأمرَين؛ الأول هو التمييز لصالح الجنود المتديّنين، والذين ينالون إجازات تصل لـ 4 أضعاف المجند غير المتديّن، أما السبب الثاني فهو النظرة للجيش على أنه مؤسسة اقتصادية، ما يدفع المجنّد للتساؤل: “ماذا سأستفيد من الجيش؟”، على عكس الأجيال الأولى التي كانت تتساءل: “كيف بإمكاني إفادة جيشي ومجتمعي؟””.
قد تكون من الأسباب الرئيسية للعزوف عن التجنيد في جيش الاحتلال، شهادات جنود الاحتلال المشاركين في معارك ضد الفلسطينيين، والكوابيس التي عاشوها حينها
وعلى غرار المحلل العسكري، يرى اللواء السابق في جيش الاحتلال جرشون هكوهين، أن وجود فئات لا تخدم داخل الجيش، في إشارة للمتدينين “الحريديم” وبعض الفئات الأخرى، ساهم في انتشار ظاهرة عدم وجود تحمُّل متساوٍ للأعباء، الأمر الذي انعكس على الكثيرين، لرفضهم الوحدات القتالية والتجنيد ككل من منطلق عدم وجود مساواة.
وفي تقرير لمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، فإنه من الممكن ربط التراجع في الحافزية إلى “فقدان الروح، وتراجع الإيمان في صدق الطريق، حيث باتت محبّة الأرض مصطلحًا سياسيًّا أكثر منه قيميًّا، كما باتت تفتقَد الروح حتى في جوانب الأسطورة، وكبار وعظماء الشعب الذين بتنا نفتقد وجودهم، الأمر الذي حوّل الجيش لمنظومة تفتقد أسطورة وتاريخًا، وبالتالي تفتقد الروح”.
العزوف عن التجنيد لا يغير الحقيقة
قد تكون من الأسباب الرئيسية للعزوف عن التجنيد في جيش الاحتلال، شهادات جنود الاحتلال المشاركين في معارك ضد الفلسطينيين، والكوابيس التي عاشوها حينها، وحقيقة مثول كثير من الجنود للعلاج النفسي أعقاب مشاركتهم في التصعيدات خاصة البرّية منها، والتي كانوا فيها على مسافة صفر من الفلسطيني المقاوم، وهو أمر يدعو إلى الفخر بالرعب الذي بثّته المقاومة الفلسطينية في نفوس “الجيش الذي لا يقهر” كما يروِّج لنفسه.
وفضلًا عن ذلك، قد تسهم التقارير التي نشرتها منظمات حقوق الإنسان الدولية، عن جرائم الحرب الإسرائيلية بحقّ الفلسطينيين، وعن “إسرائيل” كدولة فصل وتمييز عنصرية، في تغذية هذا الحافز لدى الإسرائيليين في إشاحة أنظارهم عن الخدمة في الجيش، خاصة إن كانوا من أبناء اليسار الإسرائيلي الذي يؤمن بحلّ الدولتَين وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967.
في بعض الأحيان، قد يكون تصاعد العزوف عن الخدمة في جيش الاحتلال نصرًا للفلسطينيين، وأمرًا يدعو للاحتفاء إذا ما ارتبط بقدرة الفلسطينيين على إرعاب عدوهم، وممارسة حرب نفسية عليهم لاحقًا، لكن الأمر الذي قد يدفع للتفكير مرتين في الاحتفاء أن الإسرائيليين الذين يبررون عدم التحاقهم بالمجازر التي ارتكبها الجيش بحقّ الفلسطينيين، هم ذاتهم مستوطنون يحتلون الأرض الفلسطينية، ويؤمنون بالصهيونية وإقامة دولة “إسرائيل” على حدود 1948، لذلك قد يكون من الأجدر الاحتفال بفكرة أن جنود “الجيش الذي لا يقهر” يهربون منه.