ترجمة وتحرير: نون بوست
في مكتب كبير ومشرق بالطابق الأرضي من مبنى حديث، يطل على شارع صغير بإحدى ضواحي برلين، يجلس موظفون لم يتجاوزوا الثلاثينيات من العمر أمام شاشات كمبيوتر. يبدو المكان أقرب إلى شركة ناشئة أو مكتب للهندسة المعمارية. في هذا المكتب المنزوي الذي لا يحمل أي لافتة أو شعار، توجد إحدى أكبر قواعد البيانات عن ضحايا الحرب الأهلية التي تدمر سوريا منذ أكثر من عشر سنوات. أصبح “الأرشيف السوري”، وهو منظمة أسسها ناشطون سوريون في المنفى، جزءا محوريا من الجهود الرامية إلى تحقيق العدالة في هذا البلد.
يقول مؤسس المنظمة، هادي الخطيب، الذي وصل إلى برلين سنة 2014: “الهدف الرئيسي هو الحفاظ على الأدلة لتوثيق جرائم الحرب وتشكيل ذاكرة رقمية للأحداث”. ويضيف: “بدأتُ مهمة أرشفة البيانات بنفسي حتى لا أفقد بعض المعلومات المهمة. بعد ذلك، التقيت هنا بخبراء من الأمم المتحدة ومنظمة هيومن رايتس ووتش والمحكمة الجنائية الدولية. حاليا، يوظف هذا الهيكل الذي يهدف إلى توثيق الجرائم، 20 شخصًا، وهو يعمل أيضًا على توثيق النزاعات في مناطق أخرى مثل السودان واليمن وبورما”.
هذه المهمة شاقة للغاية، حيث ينبغي عليهم جمع كل المصادر وحفظها وتحليلها والتحقق من صحتها، وإجراء بعض الأبحاث إن لزم الأمر. تعدّ الحرب في سوريا من أكثر الحروب توثيقًا في التاريخ، ولكنها أيضًا من أكثر الحروب التي تتعرض لمحاولات التضليل.
يؤكد هادي الخطيب أنه خلال عشر سنوات، تمت أرشفة وتخزين أكثر من مليون ونصف مليون فيديو، من 5000 مصدر مختلف، على خوادم المنظمة. تملك المنظمة في أقبيتها كنزا ثمينا عن الحرب السورية، حيث تم توثيق وتحليل عشرة آلاف مقطع فيديو تظهر جرائم النظام السوري والفصائل المعارضة. ويقول الخطيب في هذا السياق: “بالنسبة لي هي مسألة تتعلق بتحقيق العدالة، وعلينا أن نتأكد من أن مثل هؤلاء المجرمين لن يفلتوا من العقاب”.
إبادة جماعية
يمرّ الأمل في تحقيق العدالة حاليا عبر الدول الأوروبية. يوم الثلاثاء 30 تشرين الأول/ نوفمبر، تم الحكم لأول مرة على عنصر جهادي بتهمة “الإبادة الجماعية”. وجدت المحكمة الإقليمية العليا في مدينة فرانكفورت أن العراقي طه الجميلي، 29 سنة، “مذنب بارتكاب جريمة إبادة جماعية، وهي جريمة ضد الإنسانية نتج عنها الموت وجرائم حرب والمساعدة والتحريض على جرائم الحرب”.
كان طه متورطا في قتل طفلة إيزيدية تبلغ من العمر 5 سنوات بعد أن “اشتراها” مع والدتها. لمحاكمة الجميلي، وهو عراقي تم اعتقاله في اليونان سنة 2019، استخدمت ألمانيا ما يسمى بإجراء “الولاية القضائية العالمية”، والذي يسمح بمحاكمة مرتكبي مثل هذه الجرائم عند اقترافها خارج ألمانيا. تتيح هذه الآلية لضحايا الجرائم التي ارتكبت في سوريا خلال الحرب أن يتعلقوا بأمل تحقيق العدالة يومًا ما ومعاقبة جلاديهم.
تعدّ الهجمات الكيماوية ضد المدنيين القضية الأبرز التي تتشبث بها المعارضة السورية لملاحقة نظام بشار الأسد قضائيا على الصعيد الدولي. قدمت منظمات حقوقية سورية سنة 2021 شكاوى في ثلاثة دول، هي ألمانيا والسويد وفرنسا. في هذا الشأن، يقول مؤسس الأرشيف السوري: “لقد تعاونا على القيام بالتحقيقات في ألمانيا”. لا تزال هجمات 2013 على الغوطة جنوب دمشق، و2017 على خان شيخون قرب إدلب، قيد التحقيق.
يقود هذه الجهود المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، ومقره في باريس، ويقول مدير المركز مازن درويش: “لقد عملنا على هذا الملف لمدة أربع سنوات. تمكنا من تحديد 491 دليلا بالصور ومقاطع الفيديو والشهادات، وقد حددنا القيادات المسؤولة عن هذه الجرائم”.
في فرنسا، لا يوجد ما يسمى بالحكم الغيابي، ووجود المشتبه به أو الضحية على الأراضي الفرنسية شرط ضروري لبدء المحاكمة. يوضح الناشط السوري قائلا: “وجدنا ضحية فرنسية، عائلة سورية من دوما تحمل الجنسية الفرنسية، تعرضت لهجوم كيميائي سنة 2013. في الوقت الحالي، تعد القضية سارية وقد عُقدت الجلسات الأولى”.
على هذا النحو، يمكن تقديم منفذي الهجمات إلى العدالة. يتابع درويش: “طبعا لا نتوقع منهم أن يرسلوا بشار أو شقيقه ماهر الأسد [قائد الفرقة الرابعة المدرعة في الجيش السوري المشتبه في مسؤوليته عن هجمات غاز السارين في الغوطة سنة 2013]، وراء القضبان، لكننا نأمل بصدور حكم يدين النظام. من الضروري دحض الرواية الرسمية التي لا تزال حتى اليوم تنكر هذه الهجمات وترمي المسؤولية على عاتق وكالة المخابرات المركزية الأمريكية أو الموساد أو منظمة الخوذ البيضاء”.
فروع الموت
عاد الأمل في تحقيق العدالة وإنهاء مرحلة إفلات المجرمين من العقاب من خلال المحاكمة التي عُقدت في الأشهر الأخيرة في كوبلنتس، وهي بلدة صغيرة تقع غرب ألمانيا، ضد العقيد أنور رسلان ومساعده إياد الغريب. تُعتبر هذه أول محاكمة علنية في أوروبا ضد شخصيات تابعة للنظام السوري، وقد وُجهت أصابع الاتهام إلى رسلان، ضابط المخابرات والرئيس السابق للفرع 251 لأمن الدولة بين سنتي 2011 و2012، بالإشراف على تعذيب أكثر من أربعة آلاف معتقل، بينهم 58 على الأقل لقوا حتفهم بسبب التعذيب وسوء المعاملة.
انشق الضابط السوري رفيع المستوى في شهر أيلول/ سبتمبر سنة 2012 ثمّ فر إلى برلين. كشف ضحايا سابقون عن التجاوزات التي قام بها رسلان، وتم فتح تحقيق فرنسي ألماني مشترك ضده، قبل أن يتم اعتقاله سنة 2019. تقدّم سبعة عشر مدعيا، من بينهم اثنا عشر ضحية مروا بسجون الفرع 251 من أجل الإدلاء بشهاداتهم. وقد طالب مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا بتسليط عقوبة السجن مدى الحياة على رسلان.
من المتوقع أن يصدر الحكم بتاريخ 13 كانون الثاني/ يناير 2022، وقد اعتبر المحامي والناشط السوري في مجال حقوق الإنسان، أنور البني، أنها “محاكمة من أجل التاريخ”. رفع البني القضية على رسلان بعد أن التقى صدفة مع جلاده السابق في سوبر ماركت بالعاصمة الألمانية. يضيف البني أن “النيابة تطرقت إلى جرائم ضد الإنسانية ارتكبتها الدولة السورية، وذُكر اسم عائلة الأسد خمس مرات ولم يعد بإمكانهم الهروب من العدالة”.
وُلد المحامي أنور البني في حضن عائلة شيوعية في حماة، التي كانت مسرحا لمذابح ارتكبها نظام الأسد الأب ضد الإخوان المسلمين سنة 1981، وأسفرت عن مقتل حوالي 40 ألف سوري. عُرف البني في سوريا بدفاعه عن السجناء السياسيين، وقد هرب منها عبر بيروت صيف 2014 بعد مضايقات من النظام، ثم لجأ إلى برلين. بدأ على الفور في إعداد ملفات تتطرق إلى ما يسميه “فروع الموت”، أي أقسام الأجهزة الأمنية 215 و227 و235 و251، وقدم ملف الشكوى إلى المحكمة سنة 2017.
يقول البني “تلقيت مئات الرسائل على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد شجعت الشهادات الأولى الضحايا الآخرين الذين كانوا يخشون الإفصاح عما تعرضوا له”.
الولاية القضائية العالمية
يقول أمجد أيوب (32 سنة) “كنت مستعدا للصفح، لكنني قررت سنة 2020 اتخاذ إجراء ضد الضابط رسلان”. سنة 2012، اتهمت السلطات السورية هذا الشاب الأنيق ذو اللحية السوداء الطويلة المشذبة بتهريب المخدرات إلى لبنان. لكن أيوب يقول إنه كان في تلك الفترة يساعد المنظمات الإنسانية التي تزود المستشفيات الميدانية السرية بالأدوية والمعدات.
طُلب أمجد من أجل أداء الخدمة العسكرية، لكنه غادر دمشق سنة 2014 ووصل إلى تركيا، ثم إلى اليونان بالقارب، واجتاز مقدونيا وصربيا ووصل إلى ألمانيا بالقطار. التقى هناك بالمحامي أنور البني الذي قدم له يد المساعدة.
يقول البني وهو يبتسم متحدثا عن شارع سونينالي في برلين: “تجد سوريا بأكملها هنا”، ويضيف: “حوالي ألف مجرم حرب سوري فروا كلاجئين ويختبئون في دول أوروبا”.
يتعلق ثلثا التحقيقات المفتوحة في القارة الأوروبية بمسؤولين مرتبطين بالنظام، أما بقية المتهمين، فهم جهاديون من تنظيم الدولة ومتمردون ومقاتلون أكراد، أي أنه لم ينج من الملاحقة أي طرف من أطراف النزاع في سوريا. ويقول البني “إن تحقيق العدالة هو كل ما نريده بغض النظر عن العرق أو الدين أو الانتماء السياسي للمتهمين”.
يسير مازن درويش رئيس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير على نفس الخطى في باريس، ويقول: “يجب معاقبة كل مرتكبي الجرائم بلا استثناء”. تتعلق إحدى القضايا التي رفعها المركز أمام العدالة الفرنسية بالمدعو مجدي نعمة، المتحدث السابق باسم تنظيم جيش الإسلام السلفي، المتهم بارتكاب جرائم حرب والمشاركة في إعدامات خارج إطار القانون وممارسة التعذيب.
بعد أن أصبح “محللا سياسيا” في مؤسسة فكرية في إسطنبول، وصل نعمة إلى مرسيليا في نهاية 2019 بتأشيرة ضمن برنامج إيراسموس ودعوة من جامعة “أكس أون بروفانس”. لكن نشطاء سوريين كشفوا هويته بسرعة طالبوا باعتقاله، ومازال إلى الآن رهن الحبس الاحتياطي.
تشهد الدول الأوروبية بشكل مستمر إجراءات جديدة لملاحقة مرتكبي الجرائم في سوريا منذ اندلاع الحرب سنة 2011، بفضل جهود عدد من المحامين والمدافعين عن حقوق الإنسان. في فرنسا على سبيل المثال، يُدعى المركز السوري للإعلام وحرية التعبير بانتظام إلى التعاون مع وحدات التحقيق المختصة.
تم فتح أكثر من 80 تحقيقا في جميع أنحاء أوروبا، وهناك 11 محاكمة جارية حاليا، أربعة منها في فرنسا، وثلاثة في ألمانيا، وواحدة في هولندا وأخرى في النمسا واثنتان في السويد. ويقول مازن درويش إن “السويد هي الأكثر انفتاحا على الورق، حيث تسمح للمدعي العام بفتح تحقيقات غيابية”.
وتؤكد رينا ديفغون، المدعية السويدية المسؤولة عن الجرائم ضد الإنسانية أنه “منذ تعديل القانون سنة 2014، لم يعد من الضروري أن يكون المشتبه به موجودا على الأراضي السويدية”.
بين سنتي 2016 و2017، تم رفع ثلاث دعاوى في ستوكهولم ضد سوريين متهمين بالتعذيب أو سوء المعاملة، كما تم إنشاء لجان خاصة بشأن جرائم الحرب في سوريا، وجرائم الإبادة ضد الأيزيديين، وقال قاض سويدي إن “هناك خمسة تحقيقات جارية بشأن سوريا والعراق”.
يتم اتخاذ خطوات جماعية في هذا الاتجاه، ويؤكد البني أن ذلك ” قد يشجع الدول الأخرى على تغيير قوانينها واعتماد الولاية القضائية العالمية”.
وأصدرت الغرفة الجزائية التابعة لمحكمة النقض في باريس بياناً في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي أكدت فيه أنها غير مخوّلة بالنظر في جرائم ارتكبها عناصر أجهزة النظام السوري، مبررة قرارها بأن سوريا لم تصدّق على نظام روما الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية، وأن التهم غير معاقب عليها في القانون السوري، وبالتالي فإن العدالة الفرنسية غير مخولة بالنظر في هذه الجرائم.
واعتبر محامون ونشطاء سوريون الحكم الصادر عن محكمة النقض مثيرا للسخرية، وقال أنور البني في هذا السياق: “العدالة تصب في مصلحة جميع الدول الأوروبية، ونجاح الأسد في الإفلات من العدالة، يعدّ تبرئة لجميع الحكام الديكتاتوريين في العالم. إن عدم مقاضاة الجناة يبث مشاعر اليأس والإحباط في نفوس الضحايا، ويدفعهم للانتقام بأيديهم. بشكل عام، لا يمكن بناء حضارة على الظلم والخوف”.
بفضل تنسيق الجهود بين عدة دول، رُفعت دعاوى ضد كبار المسؤولين في الجيش والشرطة والمخابرات السورية في ألمانيا وفرنسا وبلجيكا والسويد خلال الأشهر الأخيرة. يتصدر رئيس جهاز المخابرات السورية، علي مملوك، قائمة المطلوبين للعدالة، لكن الكثير من العراقيل مازالت موجودة في أوروبا.
يُستخدم الاشتباه في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية مبررا لرفض طلبات اللجوء، لكن لا يتم اتخاذ الإجراءات الضرورية ضد المشتبه بهم. وقد عززت عودة شقيق الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، رفعت الأسد، إلى سوريا بعد غياب دام سنوات طويلة، هذا الانطباع في نفس أنور البني. وقد عاد رفعت الأسد (84 سنة) إلى سوريا من منفاه في باريس دون أي مشاكل.
يُلقب رفعت الأسد بـ”جزار حماة” نظرا لدوره المحوري في قمع انتفاضة الإخوان المسلمين ضدّ الحكومة سنة 1981، ومذبحة سجن تدمر. أصدرت محكمة الاستئناف بباريس في 9 أيلول/ سبتمبر حكما يقضي بسجن رفعت الأسد لمدة أربع سنوات جراء تورطه في قضايا غسيل أموال وتهرب ضريبي. جمع “جزار حماة” خلاله إقامته في فرنسا ثروة تتجاوز 90 مليون يورو عن طريق الاحتيال.
أمهات مكلومات
يسبب الانتظار الكثير من الألم للاجئة السورية مريم (64 سنة)، التي تعيش في شقة صغيرة بضواحي برلين. تزين صورة ابنها هيام -الذي كان في الرابعة والعشرين من عمره عندما اختفى عن الأنظار في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 بعد اعتقاله داخل الجامعة – جدار غرفة جلوسها.
تقول مريم: “تم اقتياده إلى الفرع 215. بحثت عنه لمدة ثلاثة أشهر إلى حين إطلاق سراح أحد أصدقائه الذي كان محتجزا معه وأخبرني بوفاته بعد خمسة أيام من الاعتقال. ولم تعلن السلطات عن وفاته إلا بعد مرور ما يقارب سنة ونصف”.
وأضافت: “لم أر جثة ابني، ولم أحصل على أغراضه الشخصية”. بسبب عدم حصولها على الجثة، لم تكن مريم متأكدة من وفاة ابنها، غير أنها سنة 2015، أثناء إقامتها في لبنان، شاهدت صور “قيصر”، وهو مصور عسكري سوري منشق، نجح في تسريب صور تكشف عن ممارسات التعذيب والجرائم في سجون النظام السوري التي أودت بحياة كثيرين.
عندما كانت تتصفح صور قيصر، انتبهت إلى وجود صورة ابنها من بين الضحايا. تقول مريم: “لطالما رغبت في الحصول على دليل ملموس، كان ابني يحمل رقم 320/215. منذ ذلك الحين، أدركت أن من واجبي الكشف عن هذه الممارسات حتى تتحقق العدالة”. أسست مريم مع العديد من النساء جمعية خاصة بأمهات الضحايا الذين وثقهم تقرير قيصر. إلى حد الآن، تمكنت 200 عائلة من التعرف على أقاربها من خلال هذه الصور.
من مكتبه في برلين، يعبّر هادي الخطيب عن أسفه بسبب تقلص الدعم لأنشطة المجتمع المدني وشح التمويل الذي تحصل عليه منظمته. يقول الخطيب: “تشهد العلاقات مع النظام السوري تحوّلا كبيرا. كان يمكن لأوروبا أن تلعب دورا مهما في تحقيق العدالة، لكن على عكس التوقعات، اختارت بعض الدول إعادة اللاجئين إلى سوريا، فيما يُجري البعض الآخر مفاوضات مع الأسد. بشكل عام، كلما تقدمت الدول الأوروبية باتجاه تطبيع علاقاتها مع النظام السوري، كلما تضاءل أمل تحقيق العدالة وتعزيز المساءلة”.
المصدر: لوبوان