يروى أنه في الوقت الذي كانت جيوش المسلمين بقيادة السلطان العثماني محمد الفاتح تضرب أسوار القسطنطينية، منتصف القرن الخامس عشر، كان علماء بيزنطة ونبلاؤها يجتمعون في الكنائس من بزوغ الشمس إلى غروبها يجادلون بعضهم “الجدل البيزنطي”، حول “البيضة والدجاجة أيهما وجدت أولًا”، بدل الانشغال في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أمجاد دولتهم.
حدث ذلك في وقت شهدت فيه الأرض على علو كعب الحضارة العربية الإسلامية، مقابل أفول نجم الأمة الأوربية، ولم تكن القارة الأمريكية قد تمَّ اكتشافها بعد.
دارت الدنيا دورتها فتقلّبت موازين الحضارات وتغيّرت مواقع القوة والضعف في تخليد لسنّة كونية قوامها “وتلك الأيام نداولها بين الناس”، تخلّى المسلمون عن مبادئهم وانشغلوا بقتال بعضهم وتفكيك أمجادهم بأيديهم، بدل التماسُك والاتحاد في وجه أعدائهم للدفاع عن أرضهم وحفظ مكتسبات حضارتهم.
وعلى أكتافهم نهضت الحضارة الأوروبية الغربية، مستلهمة من تجارب أسلافها اليونان والرومان، ومستفيدة ممّا حقّقه المسلمون العرب ذاتهم في عصرهم الذهبي سالف الذكر، فخسرَ العرب المسلمون أمجادهم في الأندلس وتمَّ احتلال أرضهم في المغرب والمشرق وتقسيمها بين القوى الأوروبية الصاعدة على أُسُس قومية لزرع الفتنة بينهم، فأضحى المسلم يخاف من أخيه أكثر ممّا يخاف من عدوه.
لم تنتهِ الحكاية هنا، ولأن الإنسان مجبول بطبعه على كُنه الأحداث وطرح التساؤلات والبحث عن أجوبة معقولة لها، جاء أحفاد المسلمين بعد وعيهم بهول ما حلَّ بهم ليطرحوا هذا السؤال: “لماذا تخلّفنا وتقدّمَ غيرنا؟”، وفي هذا الصدد يحاول الأستاذ مهنا الحبيل في كتابه “حوارات في الأفكار والمعرفة” تقديم أجوبة منطقية لهذا السؤال، توضِّح الطريق الذي أدّى بنا إلى هذه المرحلة.
إذ يبدأ الأستاذ حديثه في هذا الكتاب عن تعريف “المثقف والمعرفة”، أهم عاملَين في عملية البناء الحضاري، فالمثقف هو الإطار البشري والمعرفة هي الوسيلة التي يمكن للإنسان من خلالها بناء عالمه، لذلك يبيّن الأستاذ أهم وسيلة لتكوين الوعي لدى المثقف وتسهيل اغتنائه بالمعرفة، وهي وسيلة عرفها الأجداد وأهملها الأحفاد، والحديث هنا عن “القراءة” التي كانت كلمة سرّ الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي.
بعد ذلك يمرُّ بنا الأستاذ وفي الفصل الأول من الكتاب دائمًا على مجموعة من المعايير المؤثرة في عملية بناء شخصية المثقف بشكل عام، والعربي المسلم في الوقت الراهن بشكل خاص، مؤكدًا تارة على أهمية بعضها، محذّرًا تارة أخرى من خطورة بعضها، كما يبيّن الأستاذ في هذا الفصل حال شباب الأمة العربية الإسلامية هذه الأيام، مؤكدًا على انبهار بعضهم بالحضارة الغربية الراهنة وتجاهلهم لماضي أجدادهم المجيد.
في الفصل الرابع والأخير يتحدّث الأستاذ عن الجاليات الإسلامية في الدول الغربية، مستشرفًا مستقبلًا غامضًا لها بناءً على صعود الأصوات الشعبوية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية متمثلة في حركات اليمين المتطرف المعادية للمهاجرين والإسلام.
وممّا لا جدال فيه ما للشباب من تأثير بالغ في نهوض الأمم أو هدم أمجادها، فالشباب طاقة فائقة الأهمية وسلاح ذو حدَّين، فإن تمسّك الشباب بالجانب الإيجابي كانت الأمة تسير على النهج الصحيح، وإن اتجه إلى الضفة الأخرى من نهر الحياة كانت طاقة الأمة سالبة فتتعثر نهضتها، وبناء على ذلك لا بدّ لشباب هذه الأمة أن يعي الدور المنوط به، وأن يتحمل المسؤولية في سبيل تحقيقه، ولا يكون تحقيق ذلك الدور إلا من خلال فهم الواقع والسعي إلى تغييره، إذ “لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.
وفي الفصل الثاني من الكتاب الذي عنونه المؤلف بـ”شخصيات وأفكار”، نمرُّ على مجموعة قيّمة من الأفكار المتزاحمة في المجال العربي الإسلامي، لنطّلع على تجارب شخصيات فكرية سامقة من أمثال جمال الدين الأفغاني والحسن الترابي ومحمد عمارة على سبيل المثال لا الحصر، كما يقصُّ علينا الأستاذ في هذا الفصل أيضًا نماذج من الأفكار والشخصيات الغربية متحدِّثًا عن تعثُّرها الأخلاقي.
وأورد أيضًا في هذا الفصل مقارنة بالغة الأهمية توضِّح زيف المعايير الغربية، وذلك بوضعه حادثة اغتيال مالكوم إكس وقتل جورج فلويد في قالب واحد، خلاصته أن نظرة الغرب العنصرية لا تزال قائمة رغم تجريم العبودية وادّعاء الديمقراطية.
أما الفصل الثالث من الكتاب فقد خصّصه الأستاذ للحديث عن السلفية، تحت عنوان “السلفية بين الشرق والغرب”، حيث أوردَ مقارنة موضوعية بين التجارب السلفية الإسلامية والشرقية عامة في مقابل التجربة السلفية الغربية، مبرزًا دور شخصيات إسلامية بارزة في هذا المجال، كشيخ الإسلام ابن تيمية على سبيل المثال لا الحصر، ومن المعلوم أن السلفية هي الفكرة الأهم -بغضّ النظر عن ماهيتها الأيديولوجية-.
في الطريق إلى إحياء أي تراث قديم، اعتمدت النهضة الأوروبية إبّان نشأتها على التراث الإغريقي-الروماني في المرتبة الأولى، إلى جانب الاستفادة من الحضارة العربية الإسلامية طبعًا كما أسلفنا الذكر، والأمر نفسه نجده في النهضة التي عرفها الأدب العربي مطلع القرن الماضي مع المدرسة الكلاسيكية، إذ اعتمد شعراؤها على التراث الأدبي للعصور الذهبية من الجاهلية إلى نهايات العصر العباسي، وبالنظر إلى هذه الأمثلة وكما ذكر الأستاذ فإن السلفية كفكرة مرحلية لا استغناء عنها لأي حضارة تريد النهوض من جديد.
هذا الكتاب وثيقة مهمة في طريق التعرُّف إلى الأسباب التي جعلت الأمة العربية الإسلامية هذه الأيام على ما هي عليه
و في الفصل الرابع والأخير يتحدث الأستاذ عن الجاليات الإسلامية في الدول الغربية، مستشرفًا مستقبلًا غامضًا لها بناءً على صعود الأصوات الشعبوية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية متمثلة في حركات اليمين المتطرف المعادية للمهاجرين والإسلام، ما يعني إمكانية حدوث مأساة لمسلمي المهجر قد تضاهي في بشاعتها مأساة المورسكيين التي واجهها مسلمو الأندلس إبّان سقوطها.
ولا يخفى علينا في هذا الإطار ما كشفته الأمم الأوروبية التي تدّعي الإنسانية والتسامح من قبيح فعلها المنافي للقيم التي تُظهرها، ولعلّ ما يعانيه اللاجئين هذه الأيام على أبواب الاتحاد الأوروبي قد يكون أقرب وأجدر دليل على ذلك.
فها هي الأمة الأوروبية المفعمة بالإنسانية تضعُ العوائق أمام من يطلبون حمايتها، فتبني الجدران على حدودها وتضع الأسلاك الشائكة لصدّهم، وفي الداخل الأوروبي تكال الإساءة لكل من يختلف لونه أو فكره أو معتقده عن الأوروبي، وإن كان ذلك لا يزال خفيًّا بعض الشيء مع وجود أمثلة خرجت من قمقم الزجاجة، كما هو حال الأحزاب اليمينية المتطرفة التي يحميها القانون الأوروبي ويخوِّلها حق الإساءة إلى الآخرين في معتقداتهم وأفكارهم وأعراقهم.
وعلى العموم، إن هذا الكتاب وثيقة مهمة في طريق التعرُّف إلى الأسباب التي جعلت الأمة العربية الإسلامية هذه الأيام على ما هي عليه من تخلُّف وجهل، كما أعتقد أنه سيكون لبنة مهمة في إطار إعادة إحياء الأمل الإسلامي العربي باتجاه النهوض من جديد، إذا ما وجدَ من يمنحه حقه من المطالعة في الوسط الشبابي في المنطقة العربية الإسلامية.