أمام المتحف، يصطفّ الزوار في طابور منظَّم، ويوزِّعُ عليهم أحد العمال بطاقتَين، واحدة مكتوب عليها كلمة “أبيض” والأخرى “غير أبيض”، وليس شرطًا هنا أن يكون التوزيع بحسب لون بشرة الزائر، وهو ما يثير الكثير من التساؤلات، أبرزها: لماذا أحصل على تلك البطاقة؟ ولماذا توزَّع عليّ بطاقة “غير أبيض” رغم أن لون بشرتي بيضاء؟
وبعد أقل من دقائق وقبل التيه في الإجابة عن تلك الأسئلة الجدلية غير المجاب عنها، يخرج مرشد سياحي من داخل المتحف ليجيب عن كافة التساؤلات: أعطيناكم تلك البطاقات لنقدِّم لكم صورة عملية تمثيلية لما كان عليه الوضع في السابق، حيث التمييز بين البيض وغير البيض في مجتمع كان السود فيه يدفعون الثمن غاليًا.
“متحف التمييز العنصري” (الأبارتهايد) واحد من أشهر المعالم السياحية في جنوب أفريقيا، يقع في قلب العاصمة جوهانسبرغ ويوثّق تلك الحقبة السوداء من التمييز العنصري التي عاشتها البلاد قرابة أكثر من نصف قرن تقريبًا، يستقبله الزوار من كافة أنحاء العالم للوقوف على حجم المعاناة التي كان يعانيها أبناء أفريقيا على أيدي حفنة قليلة من البيض.
ولم يجد القائمون على المتحف أفضل من الصور كوسيلة سهلة الفهم وذات تأثير فعّال لتوثيق تلك المعاناة، عبر عشرات اللقطات التي كانت فيها الكاميرا أصدق حديثًا من الميكروفون، وأبلغ تعبيرًا من المقالات البلاغية ذات النسج الأدبي المحكم، لتأخدك تلك الصور على جناح السرعة في جولة خاطفة لأكثر من 70 عامًا مضت، حين بدأ العهد العنصري تشريعيًّا مع تولي الحزب الوطني الحكم عام 1948، وصولًا إلى إنهاء تلك الحقبة سيّئة السمعة بدايات تسعينيات القرن العشرين.
نصف قرن من كراهية الآخر
يعتمدُ المتحف في فلسفة عرض مقتنياته والرسالة التي يودّ إيصالها على الصور الفوتوغرافية الملتقطة لتوثيق جرائم الفصل العنصري، مكتفيًا بما تقدِّمه تلك اللقطات من رمزيات ودلائل ومؤشرات لما كان عليه الوضع خلال الفترة التي سُجنت فيها جنوب أفريقيا في معاقل العنصرية.
الصورة الأولى التي حرص المتحف على تصديرها للزائرين كانت عبارة عن مستوى المنازل التي كانت لمخصَّصة للسود في البلاد، في الأماكن المتطرفة بعيدًا عن البقاع المتمدّنة، والتي كان يعاني سكانها من حرمان كامل من التعليم والرعاية الصحية والمستوى المعيشي الآدمي.
وهناك أيضًا مجموعة الصور التي فضحت ممارسات الأبارتهايد وتقسيماته للأحياء السكنية وفقًا للانتماء العرقي، ومن أشهر اللقطات تلك التي وثقت عملية هدم بيوت حي صوفيا تاون المختلط عرقيًّا، والذي كان يشكّل المركز الثقافي للأغلبية السوداء، حيث بُنيَ فوق أنقاضه حي تريومف (النصر) الذي كان مخصّصًا فقط للسكان البيض.
ومن بين الصور كذلك تلك التي توثق لتظاهرات منظمة “الأوشحة السوداء”، وهي إحدى المنظمات الحقوقية التي كانت تتظاهر ضد نظام الفصل العنصري، تأسّست من قبل بعض النساء البيض ووصفها نيلسون مانديلا عام 1990 بـ”ضمير جنوب أفريقيا البيضاء”، حيث التقط أحد المصوِّرين صورة لتلك التظاهرات الاحتجاجية، والانتهاكات التي تعرّضوا لها على أيدي قوات الأمن.
وهناك صورة للمصوِّر الجنوب أفريقي الشهير الذي تعرّض للاعتقال، بيتر ماغوبانه، وقد بدأ حياته سائقًا وساعي بريد لإحدى المجلات، غير أنه تعلّم التصوير وبدأ يحارب بكاميرته الخاصة من خلال توثيق الانتهاكات التي ترتكبها سلطات الفصل العنصري بحقّ أبناء شعبه، وتحول إلى واحد من أشهر مصوِّري العالم عبر تصويره لانتفاضة السود في الأحياء العشوائية الفقيرة.
ومن أشهر الصور التي تتزيّن بها جدران المتحف، تلك التي وثّقت لمحاكمة 156 شخصًا، معظمهم من الصحفيين (من بينهم نيلسون مانديلا) الذين كانوا يقومون بنشر “وثيقة الحرية” التي تدعو إلى إلغاء نظام الفصل العنصري، كان ذلك عام 1956، وعُرفت تلك المحاكمة بـ”محاكمة خيانة الوطن”.
وفي وسط المتحف، هناك واحدة من أكثر الصور شهرة، تلك الموضوعة كنصب تذكاري، وتوثِّق انتفاضة تلاميذ المدارس ضد سياسة التمييز العنصري خلال التظاهرة الاحتجاجية التي قاموا بها عام 1976، والتي تعتبر رمزًا للكفاح من أجل الحرية، وفي تلك التظاهرة لقيَ التلميذ هيكتور بيترسن مصرعه بعد إطلاق النار عليه، وقد وثّق المصور سام نزيما هذه اللحظة في صورة جابت شتى أنحاء العالم.
ثم تأتي صورة التأبين، التي تعبِّر عن حالة الحزن الجماعي التي خيّمت على أرجاء البلاد، عند مراسم تشييع بعض ضحايا السياسة العنصرية ممّن تعرضوا للاختطاف ثم القتل عام 1985، تلك المراسم التي تحولت إلى تظاهرات سياسية كبيرة، وتبيّن بعدها أن ضباط من قوة الدفاع الجنوب أفريقية هم من كانوا يقفون وراء العملية.
وفي الختام تأتي صورة النصر، صورة تخلُّص البلاد من ربق العبودية والعنصرية في 3 مايو/ أيار 1994، صورة المناضل مانديلا الذي انتُخب كأول رئيس لجنوب أفريقيا، وهنا يتذكر المصوِّر الشهير جورج هاليت (الذي قضى 20 عامًا من حياته يصوِّر السياسيين المنفيين، قبل أن يعود إلى بلاده لينقل بعدسته وقائع أول انتخابات حرة في بلاده) تفاصيل هذا اليوم قائلًا: “لقد كانت لحظة لا تصدَّق!”.
شبح الإغلاق
يواجه المتحف، رغم ما يمثّله من قيمة فنية وحقوقية غير مسبوقة في تاريخ البلاد، شبح الإغلاق، وذلك لسببَين، الأول قهري يتعلق بجائحة فيروس كورونا العالمية، والتي أغلقت معظم متاحف العالم، والثاني الإهمال وعدم وجود التمويل اللازم لاستمرار عمل المتحف بمعدلاته نفسها.
ومنذ مارس/ آذار 2020 أُغلق المتحف عندما فرضت سلطات جنوب أفريقيا أول إغلاق لها بسبب الوباء، ليرقد بعدها هذا البنيان الإنساني الهام تحت طبقة سميكة من الغبار، فيما كست أبوابه الأتربة حتى أوصدته بصورة شبه كاملة، بعدما تحول إلى كهف مظلم لا حياة ولا روح فيه.
مدير المتحف، كريستوفر تيل، أشار في تصريحات صحفية له عن تخلي المتحف عن جميع الموظفين العاملين به خلال العام الماضي، والبالغ عددهم قرابة 30 موظفًا، حتى وصل الأمر إلى عدم وجود من يضيء أنواره ومن يطفئها، وحين كان يريد دخوله كان يستخدم مصباح هاتفه المحمول لإظهار دروبه وسراديبه.
كان لموقع متحف التمييز العنصري في قلب العاصمة دلالة بالغة، تذكيرًا بما تمَّ في تلك الحقبة السوداء.
ويضيف تيل أن المتحف الذي كان يستقبل يوميًّا أكثر من ألف زائر، معظمهم من الأجانب، باتَ اليوم خارج نطاق الخدمة، ورغم إعادة افتتاحه مرة أخرى في يناير/ كانون الثاني الماضي إلا أن عدد الزوار انخفض كثيرًا، ليواجه المتحف أزمة مالية خانقة، إذ لم يعد قادرًا على تأمين نفقات التشغيل الأساسية والضرورية، فعاد للإغلاق مجددًا في شهر مارس/ آذار، أي بعد أقل من شهرَين على إعادة افتتاحه.
نصف قرن من العنصرية
ويستمدُّ هذا المتحف أهميته وقيمته كونه يوثِّق لواحدة من أظلم الحقب التاريخية على المستوى الإنساني، حين تحول الملايين من أبناء جنوب أفريقيا من أصحاب البشرة السوداء (أصحاب الأرض) إلى عبيد في خدمة حفنة قليلة من البيض (المستعمرين وأبنائهم)، فيما مورس بحقهم كافة أنواع الانتهاكات التي عرفتها البشرية منذ وطأة أول إنسان ثَرَى الأرض.
رسميًّا، يؤرِّخ الكثير من الباحثين بداية الفصل العنصري في جنوب إفريقيا في عام 1948، حين تولى الحزب الوطني السلطة هناك، لكن على المستوى الميداني فقد سبق هذا التاريخ حزمة من التشريعات العنصرية التي أقرّتها الحكومات المستعمرة للبلاد قبل ذلك، على رأسها الحكومة البريطانية التي سنّت عشرات القوانين (أبرزها قانون غلين غراي الذي صدر عام 1894 في مستعمرة كيب، وسحب الأراضي من يد السود) التي سلبت أبناء البلد حقوقهم وحوّلتهم إلى خدم في بلاط المحتل.
ومن أبرز القوانين التي فرضتها حكومة الحزب الوطني على السود، قانون تسجيل السكان والفصل الصادر عام 1950، والذي كان يصنِّف كل مواطن في البلاد بناء على أصوله العرقية، وعليه كان يحدَّد لمن تقدَّم الخدمات، فالبيض لديهم كافة المرافق العامة، فيما حُرم منها السود، وكان يُفصَل بين أصحاب البشرة السوداء والبيضاء في الأماكن العامة والمواصلات وحتى في المحال التجارية.
كذلك كان هناك قانون “الفجور” المحدِّد للأحوال الشخصية، إذ كان يُمنع على السود بناء أي علاقة مع البيض، كما حُرِّم الزواج بين أصحاب البشرتَين، ومن كان يجرؤ من السود على التفكير في الزواج من أي من البيض كان يواجه أحكامًا قاسية تصلُ للجلد وأحيانًا للإعدام.
ومن بين القوانين الأكثر قبحًا قانون امتلاك الأراضي، الذي كان يحدِّد ملكية الأراضي من قبل السود بنسبة 8% فقط من مساحة البلاد، فيما يُمنح الباقي للبيض وذويهم، كما قسّم ملكية الأراضي إلى مجموعات، يحدَّد بناءً عليها الأماكن المخصصة لسكن السود، والتي في الغالب تكون على النطاقات الحدودية النائية حيث لا خدمات ولا مرافق.
وعلى المستوى السياسي، هناك قانون تمثيل السكان في الانتخابات الصادر عام 1936، والذي سلبَ من الناخبين السود حقهم الدستوري في اختيار نوابهم وحكّامهم، حيث أُزيلوا من قوائم الانتخابات ووُضعوا في قوائم منفصلة، وسُمح لهم بانتخاب 3 أعضاء فقط في مجلس النواب.
وأمام تلك المرحلة الفجّة من تاريخ البلاد، كان لوجود متحف التمييز العنصري في قلب العاصمة دلالة بالغة، تذكيرًا بما تمَّ في تلك الحقبة السوداء، مذكّرًا الجميع، الداخل من أبناء الوطن والخارج من أصحاب الفكر الاستعماري، أن ما حدث لن يتكرر، وأن التضحيات التي خاضها المناضلون السود قديمًا كانت البوابة الكبرى نحو تحويل جنوب أفريقيا من دولة عنصرية إلى واحدة من واحات الديمقراطية في العالم.