تتسارع وتيرة الأحداث والتطورات على الساحة السودانية بصورة لافتة، فلا يكاد يمرُّ يوم دون تطور لافت يضع مسمارًا جديدًا في نعش الانقلاب، ويثبّت أقدام الثورة، ويؤكّد على إصرار لا مراء فيه من قبل الشارع لعدم العودة إلى العصور الظلامية مرة أخرى، حيث عسكرة الدولة وإجهاض مساعي دمقرطتها.
دعوة جديدة أطلقتها القوى الثورية المدنية للخروج في مواكب مليونية الاثنين 13 ديسمبر/ كانون الأول، للمطالبة بإسقاط حكم العسكر وتعزيز المسار الانتقالي الديمقراطي، وتسليم السلطة للمدنيين، ورفض التحاور أو الشراكة مع الجنرالات، مع التأكيد على ضرورة تقديم الانقلابيين إلى المحاكمات العاجلة.
تتزامن تلك الدعوات مع مشاورات مكثّفة خلف الكواليس بين القوى السياسية المختلفة، لتدشين اتفاق سياسي أو ميثاق جديد خلال الأيام القليلة القادمة كخارطة طريق للمرحلة المقبلة، يستهدف تجميع كافة التيارات على مسار واحد لدعم المسار الديمقراطي واستعادة مكتسبات ثورة ديسمبر المسلوبة على يدَي قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، ورفاقه.
إسقاط حكم العسكر.. عقيدة لا شعار
من الواضح أن هتاف “إسقاط حكم العسكر” الذي يهزّ أرجاء شوارع وميادين السودان خلال المواكب والتظاهرات المختلفة منذ 18 ديسمبر/كانون الثاني 2018، والذي تعزّزَ بعد انقلاب البرهان في 25 أكتوبر/تشرين 2021، تحول من مجرد شعار ثوري إلى عقيدة لا يمكن النكوص عنها، لا سيما بعدما سقط في سبيلها عشرات القتلى وأضعافهم من الجرحى والمصابين.
عشرات المليونيات قامَ بها الثوار خلال الأشهر القليلة الماضية، في الوقت الذي كان يراهن فيه العسكر على سياسة النَّفَس الطويل، وإصابة المحتجّين بالإحباط واليأس جرّاء الأمر الواقع الذي يحاول الجنرالات فرضه بين الحين والآخر، لكن وعلى النقيض كان الزخم الثوري يتصاعد يومًا تلو الآخر، في متوالية هندسية أربكت البيت العسكري من الداخل وأفقدته أقوى أسلحته.. الترهيب وعامل الوقت.
وعلى صفحته على فيسبوك، دعا “تجمع المهنيين الثوريين” لمليونية الغد، لتحقيق عدد من الأهداف الرئيسية، هي إسقاط حكم العسكر والميليشيات المأجورة، وتقديمهم الانقلابيين والمجرمين للعدالة في محاكم خاصة، وانتزاع السلطة الوطنية المدنية الانتقالية الكاملة للقوى الثورية القاعدية المؤمنة بالتغيير الجذري لإنجاز مهام الانتقال الديمقراطي، وتنزيل أهداف ثورة ديسمبر المجيدة وفق شرعية الشعب الثورية.
مع انزواء الحاضنة السياسية لحمدوك، لم يعد أمامه سوى إثبات حسن نيته في قبول الاتفاق الذي أعاده لمنصبه بعد وضعه قيد الإقامة الجبرية من قبل العسكر.
وسبقت الدعوة لمليونية الثالث عشر من الشهر الجاري العديد من الوقفات الاحتجاجية في بعض المناطق اللوجستية الهامة، منها الوقفة التي شارك فيها المئات، أمس السبت، أعلى كوبري شمبات بأم درمان، للتنديد بما أسموه “الجرائم ضد الإنسانية” من تهجير وقتل، التي تمارَس ضد المواطنين العزّل في دارفور.
هدفت الوقفة، بحسب المركز الإعلامي لتجمع المهنيين، إلى إيصال صوت الثوار والغاضبين ضد الانتهاكات والجرائم واستباحة الدم بحق المدنيين العزّل، وتحميل حكومة الانقلاب الحالية وحكومة الإقليم كامل المسؤولية المترتّبة على هذه الانتهاكات، لافتين أن الميليشيا المسلحة ارتكبت خلال الأيام الماضية العديد من المجازر والهجمات بحقّ المدنيين.
وتعكسُ تلك الجرائم، بحسب البيان الإعلامي، “حالة الفراغ الأمني المهول الذي يعيشه الإقليم ويعكس الفشل الذريع للمجلس العسكري الانقلابي في توفير الأمن والحماية للمواطنين، ويشير لتواطؤ هذا المجلس العسكري المجرم والميليشيات والحركات المسلحة لخلق هذا الوضع المفجع”.
ميثاق جديد
منذ انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي والساحة السودانية تشهد سيولة سياسية غير مسبوقة، عشرات الاجتماعات واللقاءات عقدتها شتى الفصائل من مختلف الأيديولوجيات، تسعى جميعها لوضع حدّ لهذا الانهيار التدريجي للوضع الداخلي الذي ينذر بأحد الخيارَين، أحلاهما مرّ، إما حرب أهلية وإما العودة إلى العصور الظلامية حيث عسكرة الدولة مرة أخرى.
وأمام تلك الوضعية الحرجة التي عززت حالة الفوضى في شتى أنحاء البلاد، ودفعت إلى خسارة مكتسبات الثورة يومًا تلو الآخر، لا سيما على المستوى الأمني والسياسي، فضلًا عن البُعد الأمني والذي تجسّده الانتهاكات الميليشياوية في دارفور بحق المدنيين العزّل، مع الأخذ بالاعتبار الوضع الاقتصادي المتردّي، وجدت القوى السياسية نفسها مدفوعة للجلوس على مائدة واحدة لوضع خارطة طريق سريعة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.
تدور في كواليس الساعات الماضية أخبار عن مشاورات تجرى بين عدد من الأطياف السياسية، أبرزها أحزاب من الحرية والتغيير والمجلس المركزي والجبهة الثورية وميثاق التوافق الوطني، لوضع اتفاق سياسي جديد، يكون ملائمًا للمرحلة الانتقالية الحالية ويخرج البلاد من عنق الزجاجة الذي وضعها فيه البرهان بانقلابه الأخير.
ومن المقرر أن يستند هذا الاتفاق، الذي ربما يرى النور خلال الأيام القادمة، في مرجعيته إلى الوثيقة الدستورية المبرَمة في أغسطس/ آب 2019، هذا بخلاف التكهُّنات التي تشير إلى احتمالية إجراء تغييرات في مجلس السيادة الجديد الذي شكّله البرهان، على أن تكون الأغلبية للمكون المدني، وأنباء أخرى عن تسليم السلطة للمدنيين خلال يونيو/ حزيران 2022.
حمدوك في مهمة صعبة
وفي مسار آخر، يواجه رئيس الحكومة، عبد الله حمدوك، مأزقًا جديدًا، إثر العزلة السياسية التي تعرّض لها منذ إبرامه مع البرهان اتفاق 21 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، هذا الاتفاق الذي أثار موجة غضب عارمة ضدّه، وسط اتهامات بالعمالة والرضوخ لإملاءات العسكر والعمل لأجل ترسيخ وشرعنة انقلابهم عبر هذه الخطوة.
ومع انزواء الحاضنة السياسية لحمدوك، لم يعد أمامه سوى إثبات حسن نيته في قبول الاتفاق الذي أعاده لمنصبه بعد وضعه قيد الإقامة الجبرية من قبل العسكر، وهو ما حاول توضيحه قبل ذلك في تصريحات سابقة، أشار فيها إلى أن حقن الدماء والإبقاء على مسار الانتقال الديمقراطي والمضي قدمًا نحو تسليم السلطة للمدنيين وإبعاد الجنرالات عن الحكم قدر الإمكان، وراء هذه الخطوة التي فتحت النار عليه وحوّلته من دائرة الثوار إلى الانقلابيين.
يبدو أن رهان الجنرالات على عامل الوقت قد فشل أمام إصرار غير مسبوق من قبل الشارع على عدم مراوحة مكانه قبل تحقيق مطالبه التي على رأسها إسقاط حكم العسكر.
وعليه، وحتى يتبرّأ حمدوك من تلك التهم وينقذ سمعته، لا بد من اتخاذ خطوات تبرهن تصريحاته وتترجم مبرراته السابقة إلى قرارات وإجراءات عاجلة، أبرزها تشكيل حكومة تضمن للمدنيين القيام بدور في مرحلة الانتقال العاصفة من حكم الفرد إلى الديمقراطية، وتنتصر لأهداف الثورة بعيدًا عن أجندة العسكر.
يمتلك رئيس الوزراء السوداني العديد من أوراق الضغط التي يمكن استخدامها ضد البرهان وفريقه لتعزيز المسار الديمقراطي، أبرزها دعم المجتمع الدولي والثقة التي يتمتّع بها لدى المؤسسات الاقتصادية العالمية، التي يمكن أن يكون لها دورًا في تحديد هوية الاقتصاد السوداني المترنّح ومستوياته مستقبلًا، وهي الورقة التي ربما تجبر الجميع على العودة خطوة للخلف، نظرًا إلى ما تحمله من إرهاصات حرب أهلية حال توظيفها بصورة سلبية.
يعلم حمدوك كما البرهان أن فشله في مهمته كرئيس للوزراء في تلك المرحلة السياسية الحرجة، سيؤدّي إلى مزيد من الاضطرابات والفوضى وتأجيج الداخل، خاصة لو اضطر حينها لتقديم استقالته، معلنًا تعنُّت العسكر في الوفاء بالتزاماتهم، الأمر الذي قد يدفع به إلى صف الثوار مرة أخرى، وحينها ستدخل البلاد في أتون من المواجهات الساخنة بين المدنيين والقوات المسلحة.
تصاعد الضغوط على البرهان
الأحداث المتعلقة بمصير البرهان تتسارع بوتائر متلاحقة، فبعيدًا عن الزخم الشعبي الذي يمثل ضغطًا متصاعدًا عليه ورفاقه، هناك الكثير من المؤشرات التي تسير في اتجاه المزيد من تضييق الخناق عليه، من أبرزها العقوبات الفردية التي أعلن الكونغرس الأمريكي عنها، والتي ربما ستكون عاملًا مهمًّا في إثناء الجنرال عن مخططه.
ومن المتوقع أن تنعكس تلك العقوبات على الفريق الداعم لانقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول، على رأسه حركات دارفور مثل مني مناوي وجبريل إبراهيم، وقادة بعض الأحزاب التي تدور في هذا الفلك، وهو ما يمكن أن يكون له صداه مستقبلًا حول حجم الحاضنة السياسية الخاصة بالجنرال المنقلب، والتي من المتوقع أن تنسحب تدريجيًّا من تحت أقدامه.
وفي مسار تقليص حاضنة البرهان السياسية والعسكرية على حد سواء، ما تعانيه حركتا جبريل ومناوي الداعمتان للانقلاب من عزلة واغتراب، تحت ضغط المواقف الوطنية لأبناء إقليم دارفور الداعمين للثورة والتحول المدني، وهو ما يمكن قراءته بعمق أكثر من خلال الانشقاقات التي بدأت تخترق جسدَي الحركتَين مؤخرًا.
إضافة إلى ذلك، حثَّ المجتمع الدولي القوى السياسية السودانية على عدم تفويت ما هو متاح من إمكانية شراكة، حيث بدأت تتصاعد لغة خطابه المستخدَمة إزاء الانقلاب، أبرزها تصريحات أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش، قائلاً: “ينبغي عليّ أن أدعو إلى الحسّ السليم. أمامنا وضع غير مثالي، ولكن بإمكانه أن يتيح انتقالًا فعّالًا إلى الديمقراطية”.
وفي الأخير، يبدو أن رهان الجنرالات على عامل الوقت قد فشل، أمام إصرار غير مسبوق من قبل الشارع على عدم مراوحة مكانه قبل تحقيق مطالبه التي على رأسها إسقاط حكم العسكر، هذا بالتزامن مع حزمة الضغوط الاقتصادية والسياسية والأمنية الداخلية، بجانب الضغط الدولي المستمر، لتبقى الكرة الآن في ملعب الثوار لفرض كلمتهم باستمرار حالة الزخم الشعبي، ما يسرِّع من الإعلان عن الاتفاق السياسي الجديد الذي يبدو أنه سيكون علامة مرحلية فاصلة في مسيرة البلاد.