يتصاعد التوتر على تخوم روسيا، والكرملين ما فتئ يرفع من تحذيراته، منذ أن نشر حلف الناتو صواريخ متطوِّرة في بحر البلطيق والبحر الأسود، كما تتوعّد بيلاروسيا بنشر أسلحة بإيعاز من فلاديمير بوتين، الشيء الذي يُنذر بأن المخاوف في طريقها إلى التحقُّق، أي تحول أزمة المهاجرين على الحدود البيلاروسية البولندية إلى مواجهة مسلحة، في مشهد يعيد إلينا أجواء الحرب الباردة.
المجال متاح لسباق التسلُّح
لم تكن المباحثات الرفيعة المستوى بين روسيا وحلف شمال الأطلسي منتظمة، بل ظلت قليلة وعلى فترات متباعدة، إلى أن جاء قرار إغلاق مكاتب بعثة الحلف في موسكو بدءًا من نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، كردٍّ على قيام الناتو بطرد 8 أعضاء من البعثة الروسية لديه في بروكسيل، متّهمًا إياهم بأنهم يعملون سرًّا بصفتهم ضباط مخابرات.
وترى موسكو أن الظروف غائبة لإجراء الأنشطة الدبلوماسية مع الناتو، لكن فيما يبدو أنها أقدمت على خطوة من شأنها إنهاء انخراطها في العالم الغربي، الذي كان يراهن على أن تغيّر روسيا من سياستها، لكن هذا لم يحدث أبدًا، كما أنها ليست المرة الأولى التي يجري فيها تجميد التعاون العسكري بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، بل حدث هذا في أبريل/ نيسان 2014 بمبادرة من الناتو، كردِّ فعل على ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا.
في الوقت الحالي، بات المجال متاحًا لسباق التسلُّح بين روسيا ودول حلف الناتو، لا سيما بعدما أعلنت واشنطن وموسكو انسحابهما من معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى، في أغسطس/ آب 2019، وهي معاهدة تعود إلى فترة الحرب الباردة، إذ تحظر المعاهدة على الطرفَين وضع صواريخ قصيرة أو متوسطة المدى تُطلَق من البرّ في أوروبا، يتراوح مداها بين 500 و5500 كيلومتر، ما يقلِّل من قدرتهما على توجيه ضربات نووية مباغتة.
تهديدات مباشرة ونشر العتاد
صراع خشن يدور بين روسيا وحلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة، إذ يعكس حالة من التوتر وانعدام الثقة حيال كل خطوة يقدم عليها أحد الأطراف تجاه الآخر، ذلك أن روسيا ترى في تحركات الحلف خطرًا عليها لأنه يطوقها عسكريًّا، خاصة مع زيادة نشره للعتاد الحربي الثقيل بالقرب من الحدود الغربية لروسيا.
يتبادل الجانبان تهديدًا مباشرًا، حيث توعّد حلف الناتو موسكو بدفع ثمن باهظ إذا هاجمت أوكرانيا، وفي الوقت نفسه تحذّر روسيا الحلف من مغامرة عسكرية شرقي أوكرانيا، خاصة بعدما دعت كييف حلفاءها إلى الإسراع في التحرك لمواجهة الحشود العسكرية الروسية على الحدود الأوكرانية، محذّرة من أن روسيا قد تشنُّ هجومًا في أي لحظة.
تصاعدت مخاوف موسكو بعدما دعت واشنطن حلفاءها إلى بيع أسلحة دفاعية فتّاكة لأوكرانيا، وهي التي حصلت على حزمة من المساعدات العسكرية من الولايات المتحدة، كأنظمة مضادة للمدفعية وأخرى مضادة للطائرات دون طيّار، فضلًا عن معدات اتصالات آمنة وتكنولوجيا حرب إلكترونية ومعدات عسكرية للإخلاء الطبي، كما عاهدت واشنطن كييف بتوفير التدريب العسكري وتحسين قواعد القوات الجوية الأوكرانية.
أسلحة الجيل القادم
ما يدعو للقلق هو قيام روسيا والولايات المتحدة الأمريكية باختبار أسلحة فرط صوتية، وهي صورايخ يمكنها الانطلاق بسرعة “5 ماخ” أي أسرع بـ 5 مرات من سرعة الصوت على الأقل، يمكن أن تحمل رؤوسًا تقليدية أو نووية، وتُعتبر الجيل القادم من الأسلحة التي يصعب رصدها.
قال بوتين إن تطوير بلاده لهذه الأسلحة يأتي ضمن ردّها على إجراءات الحلف، وهدّدَ بأن روسيا ستضطر لاتخاذ خطوات مماثلة ردًّا على التهديدات الغربية، وأن بلاده لا تهدد أحدًا وخاصة أوكرانيا، بينما قال الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، إن وجود الحلف في البحر الأسود وبحر البلطيق يهدف لردع روسيا عن أي اعتداء ضد أوكرانيا.
اللاجئون كذخيرة حرب هجينة
قال الرئيس البيلاروسي، ألكساندر لوكاشينكو، إنه سيقترح على بوتين نشر أسحلة نووية في بيلاروسيا إذا ظهرت أسلحة مماثلة في بولندا، على خلفية أزمة المهاجرين التي جرّت أوروبا إلى حرب “المنطقة الرمادية”، وتعني تلك المسافة الواقعة بين الحرب والسلام، والتي تنطوي على أعمال عدائية لكنها لا تُعتبر كذلك من الناحية القانونية، تمثلها الأنشطة التي تقوم بها دولة ما وتضرُّ بدولة أخرى.
لا تزال بولندا متخوِّفة من تدفُّق أعداد كبيرة من المهاجرين إلى أراضيها عبر بيلاروسيا، وفي حال ما استمرّت هذه الأزمة لسنوات، قد تكون وارسو عاجزة عن ضبط أنشطة اختراق حدودها.
لكن السيناريو الأكثر تشاؤمًا هو تطور هذه الحرب الهجينة، التي استخدمت اللاجئين كذخيرة، إلى مواجهة مسلحة، خاصة بعد خروج دعم موسكو لمينسك عن دائرة التصريحات، متّخذةً بُعدًا عسكريًّا مع بدء تدريبات مشتركة لإنزال المظليين بالقرب من الحدود البولندية.
إنها رسالة عسكرية واضحة لا تحتاج إلى تأويل وتنمُّ عن لغة تهديد، ليتزايد الخطر من انتقال التصعيد العرضي بين الجانبَين إلى نزاع مسلح، ومزيد من الأزمات الأمنية التي لا يمكن التنبؤ بها.
أخيرًا.. رغم التوصُّل إلى تسوية بعد أسابيع من الجهود الدبلوماسية الحثيثة، إلا أن أزمة المهاجرين لا تزال تثير مخاوف حدوثها مجددًا، بعدما وجدَ الرئيس البيلاروسي نفسه مجبرًا على التراجُع عن الحل الذي كان متمسّكًا به، وهو فتح معبر إنساني إلى ألمانيا، في حين أرسل الاتحاد الأوروبي الأموال واتخذ إجراءات لدعم المنظمات التي توفر الملجأ للمهاجرين في بيلاروسا.
يبدو أن مطامح لوكاشينكو قد فشلت، وهو الذي كان يسعى، مصطنعًا لهذه الأزمة ومستقويًّا بروسيا، إلى ابتزاز دول الاتحاد الأوربي ودفعها إلى طيّ ملف العقوبات، والاعتراف به كرئيس شرعي للبلاد التي يحكمها بقبضة من حديد منذ عام 1994.
ظاهريًا، يبدو أن الهدوء يخيّم على مختلف جبهات الصراع، لكنه لن يعود فعليًّا إذا لم تتوقف بلدان الغرب عن اعتبار نفسها المقرر الوحيد لمصير العالم.