لم تتوقع شينيري، تلك الفتاة التي لم تتجاوز الـ 16 عامًا من عمرها، أنها ستتحول إلى سلعة تُباع وتُشترى وقت الحاجة، وأنها ستُوضع يومًا على ميزان المقايضة، إما أن تقبل الزواج من رجل ستيني وإما تُحبس عائلتها المدانة بقرابة 300 يورو لأحد الجمعيات الخاصة في لاغوس بنيجيريا.
لم تأخذ الفتاة النيجيرية -التي غيّرت اسمها إلى عائشة عقب انتقالها إلى مصر- وقتًا طويلًا في التفكير، فكانت معاناة أسرتها ليل نهار شبحًا أصاب عقلها بالشلل، فما كان لها إلا القبول، لتدفع 3 سنوات من عمرها أسيرة رجل لا يعرف عن الحياة سوى الشهوة الجنسية، تعرّضت فيها لأبشع أنواع الانتهاكات والمعاناة، كانت فيها الضحية والمنقذ -في آن واحد- لأهلها من ألم السجن.
ليست شينيري الحالة الوحيدة التي ضُحّى بها لإنقاذ عائلتها، فهناك مئات الحالات من هذا النوع تواجه المعاناة ذاتها ليل نهار، حيث تحول الزواج القسري في نيجيريا إلى ظاهرة أثارت حفيظة الداخل والخارج، ودفعت الأمم المتحدة للتحرُّك لإنقاذ الملايين من القابعين على قوائم الانتظار قبل فوات الأوان.
الجسد مقابل الدَّين، الزواج نظير كلفة الحياة، الفتاة قشة إنقاذ الأهل من وحل الدَّين… كلمات وعبارات تشير من قريب أو بعيد إلى ظاهرة “الزواج المبكر” للفتيات في نيجيريا، عبودية بشكل جديد، رقّ حديث في أقبح صوره، وهو ما تفضحه الأرقام الرسمية التي تذهب إلى احتلال نيجيريا المرتبة الـ 11 في زواج الأطفال، إذ تُزوج نحو 43% من الفتيات قبل إتمامهن سن الـ 18، في حين تتزوج 17% منهن قبل الخامسة عشر عامًا، وفي الشمال فهناك 3 من كل 4 فتيات تتزوج قبل الـ 18 عامًا.
يُذكر أن هناك أكثر من 12 مليون فتاة تحت سنّ الـ 18 يتزوجن سنويًّا في العالم، وأن هناك نحو 650 مليون امرأة موجودة حاليًّا قد تزوجن في سنّ الطفولة، بحسب البيانات الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، التي حذّرت من أنه إذا استمرَّ زواج الأطفال بالمعدل الحالي، فإن أكثر من 150 مليون فتاة في جميع أنحاء العالم سيتزوجن قبل عيد ميلادهن الـ 18 بحلول عام 2030.
عبودية مقنَّنة
“ذات يوم وأثناء عودتي من المدرسة، فوجئت بشقيق والدتي يخبرني أني سأتزوج، في البداية توقعت أنه يمازحني لكن سرعان ما كشف لي عن هوية الشخص المتقدم للزواج… هو رجل تجاوز عمره الـ 60 عامًا، ولديه من الأولاد أكثر من 5، بعضهم أكبر مني سنًّا”.. بهذه الكلمات تستدعي عائشة تجربتها المريرة خلال حديثها مع “نون بوست”.
كانت تحلم الفتاة النيجيرية بإكمال دراستها في جامعة الأزهر، والعودة لبلادها للعمل في إحدى المدارس أو الكتاتيب الخاصة بتحفيظ القرآن وتعليم اللغة العربية، لأجل مساعدة أسرتها الفقيرة في تدبير نفقاتها المتزايدة عامًا بعد الآخر، لكن حلمها تعثّرَ أمام ضائقة مالية مرّت بها والدتها الأرملة، لتجد نفسها مُدينة بمئات الدولارات لبعض الجهات التي بدأت تلحُّ في طلبها وإلا فلا سبيل إلا السجن.
هنا لم تستطع الأم أن تواجه ابنتها بما تنتوي عمله، فتحدثت مع شقيقها (خال عائشة) لعرضها للزواج، وهو طقس متعارَف عليه في الكثير من المناطق النيجيرية، حيث تُعرَض الفتيات صغيرات السن على الرجال الباحثين عن صغيرات للزواج، ويكون مقابل ذلك مبلغًا ماليًّا يُدفع لأسرة الفتاة نظير قبولها الزواج من كبار السن.
قدّمت عائشة العديد من النماذج التي تجرّعت من الكأس نفسه من بين بنات عائلتها، منها روزا التي قدمتها والدتها للزواج من رجل سبعيني من أجل تسديد ثمن دفنها، وشراء خروفَين لإعانتها على الإنفاق على الأسرة الفقيرة.
وبنبرة تكسوها الحسرة والألم معًا تقول عائشة: “أمام دموع أمي وإلحاح شقيقها لم أجد بدًّا من الرضوخ لقوانين البلدة، وقبلت الزواج بعدما وضعت حلمي في إكمال دراستي في ثلاجة مؤقّتة لحين أن تستجدَّ الأمور بما يدعو لإخراجه مرة أخرى”، وكان ذلك إيذانًا بدخول الفتاة النيجيرية نفقًا مظلمًا من المعاناة اليومية.
إهانات ليل نهار من الزوج الذي بات عصبيًّا بصورة غير متوقعة، وتنكيل مستمر من الأبناء، ومعاملة قاسية من بقية الأهل، 3 سنوات كاملة قضتها عائشة داخل سجن أقل ما يوصف بأنه “معقل للجرائم ضد الإنسانية”، وبعد هذه السنوات شعرَ الزوج بالملل ليقرِّرَ ودون سابق إنذار الانفصال.
وهنا بدأت الحياة تعود للفتاة المكلومة، التي ما أن خرجت من بيت الزوجية حتى عادت إلى روحها المفقودة مرة أخرى، لتخرج حلمها المجمّد من ثلاجته وتبدأ رحلة البحث عن الذات من القاهرة، حيث الأزهر الشريف الذي تدرسُ به حتى اليوم.
وقبل إنهاء حديثها، قدّمت عائشة العديد من النماذج التي تجرّعت من الكأس نفسه من بين بنات عائلتها، منها روزا التي قدّمتها والدتها للزواج من رجل سبعيني من أجل تسديد ثمن دفنها، وشراء خروفَين لإعانتها على الإنفاق على الأسرة الفقيرة التي ما عادت تجدُ من ينفق عليها بعد وفاة العائل الوحيد لها.
انتقادات أممية
أثارت ظاهرة الزواج القسري والمبكّر التي بدأت تنتشر بصورة كبيرة في دول غرب أفريقيا تحديدًا، حفيظة المنظمات الدولية المعنية بحقوق المرأة والإنسان على حد سواء، خاصة بعدما تحوّلَ الأمر إلى “استثمار” يتمحور حول لجوء بعض الجماعات المسلحة لاختطاف الفتيات صغيرات السن لتقديمهن لكبار السن على سبيل الزواج، وإن كان بالأحرى على سبيل الرقّ والعبودية.
وفي السنوات الأخيرة نشطت جماعة بوكو حرام في مجال خطف الفتيات وبيعهن في سوق النخاسة، ما دفع الأمم المتحدة لإصدار عشرات البيانات والتحذيرات لوقف تلك الانتهاكات الجسيمة، حيث أدانت المقرِّرة الخاصة المعنية بمسألة بيع الأطفال واستغلالهم في البغاء وفي المواد الإباحية، السيدة نجاة معلا أمجيد، ممارسات الجماعة المسلحة، مضيفة: “يشكّل بيع الأطفال لأغراض الاستغلال الجنسي والزواج القسري والاسترقاق الجنسي جريمة لا تطاق ويحظرها القانون الدولي”.
أما المقرِّرة الخاصة المعنية بأشكال الرق المعاصرة، غولنارا شاهينيانن، فترى أن الزواج المبكر القسري يؤدّي إلى زيجات تشبه الاستعباد المنزلي والاسترقاق الجنسي، وهي من أشكال العبودية، محذّرة من “أن الاسترقاق، بما في ذلك الاسترقاق الجنسي، يمكن أن يشكّل جرائم ضد الإنسانية”.
حمّل المجتمع الدولي الحكومة النيجيرية مسؤولية تفاقم تلك الظاهرة وخروجها عن السيطرة، حيث حثت الأمم المتحدة السلطات هناك على بذل قصارى الجهد لوقف زواج الفتيات الصغيرات.
وهو الرأي ذاته الذي أكّدت عليه الحقوقية فرانسيس راداي، التي ترأسُ حاليًّا الفريق العامل المعني بمسألة التمييز ضدّ المرأة في القانون والممارسة، حين كشفت أن “زواج الأطفال المخالف للقانون الدولي لحقوق الإنسان يعرّض الفتيات للاعتداء البدني والجنسي والنفسي، ويخلق مخاطر صحية كبيرة، ويدمِّر فرصهن في التعليم والعمل. يقع على عاتق دولة نيجيريا مسؤولية توفير إنصاف الضحايا ومحاكمة ومعاقبة الجناة”.
وقد حمّل المجتمع الدولي الحكومة النيجيرية مسؤولية تفاقم تلك الظاهرة وخروجها عن السيطرة، حيث حثت الأمم المتحدة السلطات هناك على بذل قصارى الجهد لوقف زواج الفتيات الصغيرات، من خلال تشجيعهن على الاستمرار في الدراسة من أجل مصلحتهن ومصلحة أسرهن أيضًا.
وفي بيان لمكتب المنظمة الأممية في أبوجا في أكتوبر/ تشرين الأول 2012، أكّد على أن الفتيات يستطعن تكوين مستقبل أفضل في حال السماح لهنّ بالاستمرار في التعليم ومنعهن من الزواج المبكر، وأضاف: “على الحكومة الفيدرالية في أبوجا وحكومات الولاية المختلفة بذل المزيد من الجهود للتأكُّد من عدم زواج القاصرات، وذلك من خلال تشجيعهن على الذهاب إلى مدارسهن”.
القوانين تصطدم بالتقاليد
ضغوط كثيرة تمارَس على الحكومة لوأد تلك الظاهرة من جذورها، سواء عبر تدشين منظومة من القوانين المجرِّمة لتلك الممارسات، أو تحسين أوضاع المرأة المعيلة وتهيئة المناخ الملائم لتعليم الفتيات ومنع التسرب، وسدّ كافة الثغرات التي يمكن أن تتسلل من بين ثناياها تلك الممارسات التي تضع مستقبل الملايين من الفتيات النيجيريات على المحك.
اللافت للنظر انتشار تلك الظاهرة بين المسلمين أكثر من غيرهم، حيث تبلغ نسبة الفتيات المتزوجات قبل بلوغهن سن الـ 15 قرابة 50% من إجمالي عدد الفتيات في البلاد، وفي الناحية الأخرى يجرَّم زواج الأطفال على المسيحيين، استنادًا إلى قوانين الأحوال الشخصية التي فرضها المستعمر البريطاني قبل عقود.
ورغم تغيير قرابة 29 مادة ضمن قانون الأحوال الشخصية، إلا أن التقاليد الاجتماعية والعادات المتوارثة لها الكلمة العليا، فلا تزال الظاهرة تواصل الانتشار لا سيما في المناطق الشمالية ذات الأغلبية المسلمة، والتي تعاني من أوضاع معيشية صعبة تدفع سكانها إلى الزواج المبكر لفتياتهم، إما للحصول على مال لسداد ديونهم وإما لتدشين مشروع ينفق عليهم وإما على أقل تقدير التخلُّص من نفقاتهن وكلفتهن. والعدد قابل للزيادة في ظل الأوضاع المتردية اجتماعيًّا، والتقاعُس عن فرض القانون على الجميع، لتواصل المرأة النيجيرية نزيف حقوقها المسلوبة على صخرة العادات البالية والتقاليد العفنة التي جارَ عليها الزمن.