ترجمة وتحرير: نون بوست
أطلقت خلية قتالية أمريكية سرية للغاية عشرات الآلاف من القنابل والصواريخ ضد تنظيم الدولة في سوريا. ولكن خلال استهداف هذا العدو الشرس، تجاوزت هذه الفرقة السريّة كل الحدود وقُتل مدنيّون بشكل متكرر في الهجمات التي نفّذتها، وذلك وفقًا للعديد من المسؤولين العسكريين والاستخباراتيين الحاليين والسابقين.
ما بين 2014 و2019، كانت هذه الخليّة السريّة التي تعرف باسم “تالون أنفيل” تعمل خلال ثلاث مناوبات وعلى مدار الساعة على تحديد الأهداف للقوات الجوية الأمريكية، على غرار القوافل والسيارات المفخخة ومراكز القيادة والقوات المعادية.
لكن من عملوا في صفوف هذه الخلية السرية أكدوا أن حماسها للقضاء على الأعداء جعلها تتحايل على قواعد حماية المدنيين وهو ما أثار قلق شركائها في الجيش ووكالة المخابرات المركزية بشأن احتمال قتل مدنيين لم يكن لهم أي دور في النزاع، مثل المزارعين الذين يحاولون جني المحاصيل والأطفال في الشوارع والعائلات الفارة من المعارك والقرويّون المحتمون بالمباني.
على الرغم من أن فرقة “تالون أنفيل” كانت صغيرة – أقل من 20 عنصرًا أحيانًا يعملون من غرف مجهولة الموقع تملأها شاشات مسطحة – إلا أنها لعبت دورًا كبيرًا في توجيه 112 ألف قنبلة وصاروخ استهدفت معاقل تنظيم الدولة، ويرجع ذلك جزئيًا إلى تبينها مفهومًا فضفاضًا لقواعد الاشتباك العسكرية.
في هذا السياق، أوضح ضابط سابق في المخابرات الجوية نفّذ مئات المهمات السرية ضمن “تالون أنفيل” من 2016 إلى 2018: “لقد كانوا يتمتعون بدرجة عالية من الكفاءة والخبرة في المهمات الموكولة لهم، لكن العديد من الضربات لم تكن موفّقة”.
وصف الجيش الأمريكي الحرب الجويّة ضد تنظيم الدولة بأنها الحرب الأكثر دقة وإنسانية في التاريخ العسكري، وقال إن القواعد الصارمة والرقابة من قبل كبار القادة أبقت الوفيات بين المدنيين عند الحد الأدنى رغم الوتيرة الشرسة للقصف. في المقابل، أقرّ أربعة مسؤولين عسكريين حاليين وسابقين بأن غالبية الضربات لم تصدر بأوامر من كبار القادة وإنما من قبل عناصر الكوماندوز في قوة دلتا بالجيش الأمريكي ضمن فرقة “تالون أنفيل” الأدنى رتبة نسبيًا.
في تقرير لها نُشر الشهر الماضي أشارت صحيفة “نيويورك تايمز” إلى أن تفجيرًا نفذته قوات العمليات الخاصة سنة 2019 أسفر عن مقتل العشرات من النساء والأطفال، وظلّ العدد الحقيقيّ مخفيًا عن الرأي العام وكبار القادة العسكريين. خلال شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، أصدر وزير الدفاع لويد ج.أوستن الثالث تعليمات بفتح تحقيق رفيع المستوى في هذه الضربة لتي نفّذتها خلية تالون أنفيل.
لكن الأشخاص الذين عملوا عن كثب مع الفرقة السرية أكّدوا أن ضربة 2019 كانت جزءًا من عدد الضربات المتهوّرة التي بدأت الخلية شنّها قبل سنوات.
عند مواجهتهم بالنتائج التي توصلت إليها صحيفة “نيويورك تايمز”، نفى العديد من كبار ضباط العمليات الخاصة الحاليين والسابقين تنفيذ هذه الخلية ضربات جويّة متهورة أو تجاهل الحد من الخسائر المحتملة بين صفوف المدنيين. وقد رفض النقيب بيل أوربان، المتحدث باسم القيادة المركزية للجيش التي تشرف على العمليات في سوريا، التعليق على هذه المزاعم.
مع تصاعد وتيرة الضربات الفاشلة، أوضح المسؤولون العسكريون الأربعة أن شركاء خلية تالون أنفيل في تنفيذ العمليات دقّوا ناقوس الخطر. في بعض الأحيان، رفض الطيارون المعنيون بإجراء الضربات الجوية في سوريا إلقاء القنابل لأن الأهداف المشتبه بها التي كانت تريد خلية “تالون أنفيل” ضربها كانت في مناطق مأهولة بالسكان.
أعرب كبار المسؤولين في وكالة المخابرات المركزية عن استيائهم لقادة العمليات الخاصة من المعايير المثيرة للقلق التي تتبعها هذه الخلية السرية أثناء تنفيذ ضرباتها العسكرية. عارضت فرق القوات الجوية المكلفة بمهام استخباراتية مع تالون أنفيل هذا الأسلوب خلال اتصالات هاتفية على خط مؤمّن يُعرف باسم “الخط الأحمر”. وحتى داخل خلية تالون أنفيل، رفض بعض العناصر أحيانا المشاركة في ضربات تستهدف أشخاصًا لم يبد أنهم منخرطون في القتال.
أشرف المسؤولون الأربعة على جوانب مختلفة من المهام القتالية، وجميعهم تفاعلوا بشكل مباشر مع فرقة تالون أنفيل في إطار تنفيذ مئات الضربات، وسرعان ما أعربوا عن امتعاضهم من طريقة عملها. وقد أبلغوا الرؤساء المباشرين والقيادة المشرفة على الحرب الجوية بما لاحظوه، لكنهم أكدوا أنه وقع تجاهلهم.
صرّح ضابط مخابرات جوية سابق، عمل عن كثب مع هذه الفرقة من 2016 إلى 2018، بأنه أبلغ مركز عمليات القوات الجوية الرئيسي في المنطقة بالخسائر المسجلة في صفوف المدنيين في عدة مناسبات، لا سيما خلال الغارة التي جدت في شهر آذار/ مارس 2017 عندما أسقطت خلية تالون أنفيل قنبلة تزن 500 رطلا على مبنى كان يحتمي به حوالي 50 شخصًا. وصرح هذا الضابط أن القادة بدوا مترددين بشأن فتح تحقيق مع هذه الفرقة التي قادت الهجوم في ساحة المعركة.
اعتبر الخسائر بين صفوف المدنيين من أهوال الحرب وتبعاتها” وليست نتيجة “عدم اكتراثهم
وفقًا للاري لويس، المستشار السابق في البنتاغون ووزارة الخارجية الذي كان أحد مؤلفي تقرير وزارة الدفاع لسنة 2018 حول الأضرار المدنية، فإن معدل الخسائر المدنية في سوريا كان يرتفع بشكل كبير مع تنامي معدل الهجمات السنوية التي تنفذها هذه الخلية. وأضاف لويس، الذي اطلع على بيانات الخسائر المدنية السرية للبنتاغون في سوريا، أن المعدل كان 10 أضعاف ما سُجّل في العمليات المماثلة التي نُفّذت في أفغانستان،”لقد كان أعلى بكثير مما كنت أتوقعه من وحدة أمريكية”، مؤكدا أنه صدم من حقيقة أن “المعدل ارتفع بشكل كبير وبوتيرة ثابتة على مدار سنوات”.
قال لويس إن القادة أكدوا فعالية هذه التكتيكات مقابل التغاضي عن أهمية التقليل من حجم الخسائر المدنية، في حين أن الجنرال ستيفن تاونسند، الذي قاد الهجوم على تنظيم الدولة في 2016 و2017، نفى تقارير وسائل الإعلام الإخبارية ومنظمات حقوق الإنسان التي سلطت الضوء على الحصيلة المتزايدة للقتلى من المدنيين.
خلال مكالمة هاتفية، صرّح الجنرال ستيفن تاونسند، القائد الحالي للقيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا، بأن المنظمات الخارجية التي تتبعت الخسائر المزعومة في صفوف المدنيين لا تجري في كثير من الأحيان تحقيقًا كافيًا في هذه الادعاءات. لكنه نفى بشدة مسألة عدم أخذ الخسائر المدنية بعين الاعتبار. وأضاف الجنرال تاونسند: “لا شيء أصعب من معرفة الحقيقة”، مشيرا إلى أنه بصفته قائدا عسكريً أمر بنشر التقارير الشهرية عن عدد الضحايا المدنيين في كل من العراق وسوريا. كما اعتبر الخسائر بين صفوف المدنيين من “أهوال الحرب وتبعاتها” وليست نتيجة “عدم اكتراثهم”.
في ظل وجود عدد قليل من القوات الأمريكية في ميدان الحرب، كان من الصعب الحصول على إحصائيات موثوقة لقتلى المدنيين، وذلك وفقًا للجنرال جوزيف ل. فوتيل، رئيس القيادة المركزية للجيش في ذلك الوقت والرئيس المباشر للجنرال تاونسند.
وقد أكد الجنرال فوتيل خلال مكالمة هاتفية: “قدرتنا على الخروج والتثبت من فعالية الضربات كانت محدودة للغاية – لقد كان نظامًا معيبًا. لكنني أعتقد أننا دائمًا ما أخذنا وجود المدنيين في الحسبان وحاولنا بذل قصارى جهدنا لحمايتهم”.
الأوامر والضربات
رسميًا، لم تكن هناك أي خلية باسم “تالون أنفيل”، فكل ما فعلته كان سريا للغاية، وتم استقاء أنشطتها في سوريا من تقارير سرية للغاية ومقابلات مع مسؤولين عسكريين حاليين وسابقين تعاملوا معها، واشترطوا عدم ذكر أسمائهم.
تمت إدارة الخلية الهجومية من قبل وحدة عمليات خاصة سرية تسمى الوحدة القتالية 9، والتي أشرفت على الهجوم البري في سوريا، وكان للوحدة مهام متعددة. أشرفت الوحدة على قوات “القبعات الخضر” الأمريكية التي قامت بتدريب القوات الكردية والعربية السورية الحليفة، وضمت مجموعات صغيرة من قوة دلتا المدمجة مع القوات البرية، وفريق هجومي من كوماندوز دلتا الذي كانت مهمته شن عمليات برية على أهداف استراتيجية مهمة، بما في ذلك الهجوم على زعيم تنظيم الدولة الإسلامية، أبو بكر البغدادي.
صرح أعضاء سابقون في الوحدة أن العمليات كانت تُدار في معظمها من قبل “تالون أنفيل”. بدأت الوحدة عملها في مكتب صغير في أربيل بالعراق، ثم امتد نشاطها إلى سوريا في مصنع أسمنت مغلق في الشمال، وفي مجمع سكني بالقرب من الحدود العراقية يسمى القرية الخضراء.
كانت الخلية تستقي معلوماتها من القوات البرية الحليفة، وعمليات الاختراق الإلكترونية السرية، وكاميرات الطائرات المسيرة، وغيرها من المصادر لتحديد أهدافها، ثم استهداف العدو بالطائرات المسيرة، أو إرسال تعليمات إلى طائرات التحالف الأخرى للقيام بالمهمة. كما قامت بتنسيق الدعم الجوي للقوات الكردية والعربية الحليفة المقاتلة برا.
تغيرت التكتيكات في أواخر سنة 2016 عندما تولى الجنرال “تاونسند” القيادة
يقول عضو سابق عمل في الوحدة خلال ذروة الحرب سنة 2017، أن المشرفين على الخلية نادراً ما يظهرون برتبهم العسكرية، ويستخدمون الأسماء الأولى فقط، ولم يكن لديهم رتب أو زي رسمي، وكان العديد منهم ملتحين، ويتظاهرون بالعمل في صناعة الأحذية والسراويل القصيرة في مصانع شركتي “كروكس” و”بيركنتسوك”، لكن عملهم الفعلي كان في غرفة العمليات، حيث كانوا يديرون أسطولا من طائرات “بريداتور” و”ريبر” المسيرة التي تحمل صواريخ “هيلفاير” الدقيقة والقنابل الموجهة بالليزر.
كان لدى الوحدة خلية هجومية ثانية تعمل مع وكالة المخابرات المركزية لمطاردة كبار قادة تنظيم الدولة الإسلامية، بنفس الآلية المتبعة في الخلية الأولى، لكنها غالبًا ما كانت تتتبع هدفاً معيناً لأيام أو أسابيع، وتقوم بجزء بسيط من الضربات.
تم إنشاء الخليتين سنة 2014، عندما اجتاح تنظيم الدولة الإسلامية أجزاء كبيرة من العراق وسوريا، وهاجم حلفاء الغرب في الشرق الأوسط وشن هجمات إرهابية في أوروبا. كانت الولايات المتحدة في حاجة ماسة إلى قوة تستطيع تحديد الأهداف للهجوم على العدو، وتم إنشاء وحدة دلتا لتتولى المهمة.
في بداية الهجوم الذي قادته الولايات المتحدة، والذي عُرف باسم “عملية العزم الصلب”، وجد الجيش صعوبة في القيام بمهامه لأن الموافقة على الضربات كانت تتم فقط من قبل جنرالات رفيعي المستوى من خارج دلتا، وفقًا لتقرير مؤسسة “راند” حول العمليات الجوية. يُذكر أن 74 بالمئة من الطلعات الجوية كانت تعود دون تنفيذ أي ضربات، ويتم تعليق الهجوم.
تغيرت التكتيكات في أواخر سنة 2016 عندما تولى الجنرال “تاونسند” القيادة، وفي محاولة لمواكبة توسع الهجمات، قام بنقل سلطة الموافقة على الضربات إلى القادة الميدانيين.
يقول مسؤول كبير داخل الوحدة القتالية رقم 9 يتمتع بخبرة واسعة في العراق وسوريا، إنه تم نقل السلطة فعليًا إلى مستوى أدنى، حيث يتخذ الضابط المناوب في غرفة العمليات قرار القيام بالضربة.
لكن وفقا للتكتيكات الجديدة، كان يتعين على الخلية جمع المعلومات الاستخباراتية وتقليل المخاطر للحد من الضرر اللاحق بالمدنيين قبل شن أي هجوم. غالبًا ما كانت الطائرات المسيرة تحلق فوق الأهداف لساعات لتحديد أماكن الأعداء بدقة والتأكد من عدم وجود مدنيين في المنطقة.
ويقول العضو السابق في الوحدة إن المشرفين على قوة دلتا كانوا يتعرضون لضغوط هائلة لحماية القوات البرية المتحالفة وإحراز تقدم في الهجوم، إلى جانب العوائق بسبب ضمانات عدم استهداف المدنيين. في أوائل سنة 2017، وجدت الوحدة طريقة للهجوم بسرعة أكبر، وهي اتباع أسلوب الدفاع عن النفس.
تم تطبيق معظم قيود “عملية العزم الصلب” على الضربات الهجومية، فيما كانت القيود المفروضة على الضربات الدفاعية، التي تهدف إلى حماية قوات الحلفاء في حال وجود تهديد جدي، أقل صرامة. لذلك بدأت “تالون أنفيل” تنفذ معظم ضرباتها بذريعة الدفاع عن النفس، الأمر الذي مكنهم من التحرك بسرعة مع القليل من المساءلة والتدقيق، حتى لو كان الهدف على بعد أميال من أي هجوم، وذلك وفقاً لعضوين سابقين في الوحدة.
وبحسب ضابطين مطلعين على تلك العمليات، حذر مسؤولون كبار من أنه لا ينبغي استخدام ذريعة الدفاع عن النفس للالتفاف على قواعد الاشتباك. ووفقاً لعضو سابق في الوحدة، لم يكن تفسير “تالون أنفيل” لسبب استخدام هذا التكتيك منطقيا، حيث كانت تبرر كل ضربة تقريبًا بأنها دفاعية. فإذا سُمح لـ “تالون أنفيل” بمهاجمة الأهداف بهذه الطريقة، ربما يصبح هدف ما على بعد 10 أو حتى 100 ميل ضمن الخطوط الأمامية.
يقول مستشار البنتاغون السابق، لاري لويسن إن “اللجوء إلى تكتيك الدفاع عن النفس كان أنسب وأسهل طريقة للحصول على الموافقة”.
لكن سرعة القيام بالضربات يعني وقتًا أقل في جمع المعلومات الاستخبارية وتحديد أماكن العدو والمدنيين. يقول العسكريون الأربعة السابقون الذين عملوا مع “تالون أنفيل” إن الخلية اعتمدت في كثير من الأحيان على معلومات استخبارية واهية من القوات البرية الكردية والعربية، أو سارعت بالهجوم دون التأكد بشكل كاف من وجود مدنيين بالقرب من المنطقة المستهدفة.
ويؤكد عضو سابق في الوحدة إن أغلب ضربات “تالون أنفيل” استهدفت مقاتلي العدو فقط، لكنه يوضح أن المشرفين في قوة دلتا كانوا يميلون في كثير من الأحيان إلى اتخاذ قرار الهجوم حتى عندما لا يكون هناك ما يكفي من الأدلة على وجود هدف مشروع.
ويضيف العضو السابق أن جزءا من المشكلة يكمن في أن المشرفين على قوة دلتا، الذين يتغيرون كل أربعة أشهر تقريبًا، تم تدريبهم كقوات نخبة، لكن لم تكن لديهم خبرة كافية في طريقة إدارة الوحدات الهجومية، مؤكدا أن الإشراف اليومي على الضربات كان يشكل تحديا إنسانيا يقض مضاجع المسؤولين عن الخلية.
وصرّح الضابط السابق في مخابرات القوات الجوية أنه رأى الكثير من القتلى المدنيين نتيجة تكتيك الدفاع عن النفس الذي طبقته “تالون أنفيل”، وأُنهك بسبب تلك العمليات، لكنه تغاضى عن ذلك بحكم وظيفته.
ويقول الضابط السابق إنه في إحدى العمليات في خريف 2016، رصدت “تالون أنفيل” ثلاثة رجال يحملون أكياساً من القماش، ويعملون في بستان زيتون بالقرب من مدينة منبج، ولم يكن لديهم أسلحة، ولم يكونوا قريبين من أي عمليات قتالية، لكن المشرفين على الطائرة المسيرة اعتبروهم من مقاتلي العدو وتم تصفيتهم بصاروخ.
ويضيف أنه في عملية أخرى، بينما كان مدنيون يحاولون الفرار من القتال في مدينة الرقة في حزيران/ يونيو 2017، واستقل العشرات منهم قوارب لعبور نهر الفرات، زعمت الوحدة أن من بينهم مقاتلين أعداء. ويؤكد الضابط السابق أنه شاهد فيديو بجودة عالية يُظهر استهداف عدة قوارب، ما أدى إلى مقتل 30 مدنيا على الأقل.
حسب مسؤول عسكري رفيع المستوى على دراية مباشرة بعمل هذه الفرقة العسكرية السريّة، فإن ما اُعتبر “تهديدًا وشيكًا” لم يكن قائمًا على أسس موضوعية، كما مُنح كبار العناصر في قوة دلتا في “تالون أنفيل” سلطةً واسعة لشن غارات جوية دفاعية. وأقر هذا المسؤول العسكري بأن من تسببوا في تنفيذ غارات جوية فاشلة وأولئك الذين أظهروا سوء تقدير قد عُزلوا. لكنه أكّد في المقابل نُدرة هذه الحالات.
مقاتلون أم أطفال؟
مع تصاعد الغارات الجوية في سنة 2017، انزعجت مجموعة واسعة من شركاء الولايات المتحدة من تكتيكات هذه الخلية السريّة.
زرعت وكالة المخابرات المركزية ضباطًا ضمن الوحدة القتالية رقم 9 لتزويدها بمعلومات استخبارية عن قادة تنظيم الدولة وتنسيق الغارات. كانت الوكالة تلاحق أفرادًا مهمين للغاية، وغالبًا ما كانت تتعقبهم لأيام باستخدام العديد من الطائرات المسيّرة، في انتظار الوقت المناسب لشنّ الغارة من أجل تقليل الوفيات بين المدنيين.
أفاد ضابطان سابقان من وكالة المخابرات المركزية بأن هذه الوحدة لم تكن ترغب دائمًا في الانتظار. وقد صُدم موظفو وكالة المخابرات المركزية عندما تبيّن لهم أن الوحدة كانت تشن غارات متكررة دون أدنى اهتمام بالمدنيين. وقد أبلغوا المفتش العام بوزارة الدفاع بمخاوفهم، وناقشت قيادة الوكالة هذه المسألة مع كبار الضباط في قيادة العمليات الخاصة المشتركة.
قال أحد الضباط إنه لم ير قط دليلًا على أن هذه المخاوف أُخذت على محمل الجد. وتجدر الإشارة إلى أن متحدثا باسم وكالة المخابرات المركزية امتنع عن التعليق.
في بعض الأحيان، نشبت خلافات بين عناصر فرقة “تالون أنفيل” وفرق المخابرات الجوية المتمركزة في الولايات المتحدة التي ساعدت في تحليل اللقطات التي سجلتها الطائرات المسيّرة. وقال ضابط مخابرات جوية سابق إن عناصر قوة دلتا كانوا يضغطون على المحللين من أجل تأكيد رؤيتهم لأدلة من شأنها أن تبرر الغارة الجوية قانونًيا مثل وجود أسلحة، حتى إن لم يكن ذلك صحيحًا. وإذا كان تقرير أحد المحللين مخالفًا لما تريده قوة دلتا، كانت تطلب تغييره.
وحسب أحد الأعضاء السابقين في هذه الفرقة، كان عناصر قوة دلتا والمحللون يتجادلون حول ما إذا كان ما يظهر في مرمى الطائرات المسيّرة مقاتلين أم أطفال.
يُخزن الجيش جميع اللقطات التي توثّقها الطائرات المسيّرة أثناء الغارات الجوية. وحسب ما أفاد به ضابط سابق في المخابرات الجوية وأحد الأعضاء السابقين في الخلية السرية، فإنه في محاولة واضحة للحد من الانتقادات وتقويض التحقيقات المحتملة، كانت وحدة “تالون أنفيل” تقوم بتحويل اتجاه كاميرات الطائرات المسيّرة بعيدًا عن الأهداف قبل وقت قصير من تنفيذ أي غارة، مما حال دون جمع لقطات الفيديو التي قد تستخدم كأدلة ضدهم.
قال ضابط آخر في القوات الجوية، راجع العشرات من الغارات الجوية لوحدة تالون أنفيل التي قُتل فيها مدنيون، إن أطقم الطائرات المسيّرة تدرّبت على إبقاء الكاميرات موجّهة نحو الأهداف حتى يتسنى للجيش تقييم الضرر. مع ذلك، كثيرًا ما كان يرى انحراف اتجاه الكاميرات بعيدًا عن الهدف في اللحظات الحاسمة، كما لو عصفت بها الرياح. وبعد ملاحظة تكرر هذا النمط، بدأ يشك في أن ما حدث كان متعمدا.
مطاردة الأهداف
أرسلت فرقة “تالون أنفيل” في فجر أحد الأيام في أوائل آذار/ مارس 2017، طائرة مسيّرة من طراز بريداتور لتحلّق فوق بلدة زراعية سورية في ناحية الكرامة لتحديد مواقع العدو في المنطقة استعدادًا لاستهدافه من قبل الحلفاء بعد أسبوع.
بالنسبة لضابط المخابرات الجوية السابق، تقدّم هذه المهمة مثالا عن طريقة العمل المعيبة لوحدة “تالون أنفيل”، وتُظهر كيفية تجاهل القادة العسكريين لذلك.
وحسب ما أفاد به المصدر ذاته، كانت الطائرات المسيّرة في حدود الساعة الرابعة صباحًا تحلّق فوق أسطح منازل البلدة. ومن مركز عمليات آمن في الولايات المتحدة، كان فريقه ضمن المخابرات الجوية يهتم بالمراقبة. وكتب أحد عناصر وحدة “تالون أنفيل” رسالة في غرفة الدردشة شاركتها الخلية مع محللي المخابرات: “لقد فرّ جميع المدنيين من المنطقة، أي شخص بقي هو مقاتل عدو. اعثروا لنا اليوم على الكثير من الأهداف لأننا نريد اليوم إطلاق جميع صواريخ الطائرات المسيّرة والقنابل الـ 500 رطل.
قال الضابط السابق، بدا أن سكان البلدة نائمون أثناء تحليق الطائرة المسيّرة في سمائها. وحتى بوجود مستشعرات الأشعة تحت الحمراء، لم يلاحظ الفريق أي حركة. ركّزت خلية “تالون أنفيل” على أحد المباني وكتبت في غرفة الدردشة أن القوات البرية تشير إلى أنه كان مركز تدريب للعدو. وأظهرت أجهزة الاستشعار وجود هاتف خلوي أو راديو تابع للعدو قد يكون في الجوار، بيد أنه لم يكن بإمكانها تحديد موقع الحي فما بالك المبنى الذي تصدر منه الإشارة.
أضاف المصدر ذاته أن وحدة “تالون أنفيل” لم تنتظر التأكيد، وأمرت بشن غارة جوية دفاعية حيث ألقت طائرة بريداتور قنبلة تزن 500 رطل عبر السقف.
مع تلاشي الدخان، قال الضابط السابق إن فريقه قد حدّق في الشاشات بذهول، إذ أظهرت كاميرات الأشعة تحت الحمراء نساءً وأطفالا في حالة هلع يخرجون من المبنى المنهار جزئيًا، بعضهم كانت أطرافه مبتورة، والبعض الأشخاص كانوا يجرّون الموتى.
بدأ محللو المخابرات بأخذ لقطات فيديو وإحصاء عدد الضحايا، وأرسلوا تقييمًا أوليًا إلى “تالون أنفيل”، أكدوا فيه أن 23 شخصا قُتلوا أو أصيبوا بجروح بليغة، وأصيب 30 شخصا بجروح طفيفة، ومن المرجح جدًا أن يكونوا من المدنيين.
وقال الضابط السابق إن “تالون أنفيل” توقفت لفترة قصيرة ثم توجهت نحو الهدف التالي، مضيفا أنه أبلغ على الفور عن الخسائر المدنية إلى مركز العمليات في “عملية العزم الصلب”، ثم اتصل بضابط الاتصال في المركز عن طريق الخط الأحمر. وأكد الضابط أنه لم يسمع أي رد ولم يشاهد أي خطوات لاتخاذ أي إجراء على الإطلاق.
تعهدت عملية العزم الصلب بالتحقيق والإبلاغ عن كل حالات استهداف المدنيين، لكن تقاريرها لم تتضمن أي إشارة إلى هذا الهجوم، ولا تزال الخسائر البشرية في الكرمة غير مؤكدة.
أقرت عملية العزم الصلب في أوائل آذار/ مارس، بأنها شنت 47 غارة في المنطقة. منذ ذلك الوقت، تُظهر صور الأقمار الصناعية أضرارًا جسيمة لعشرات المباني على الأقل، بما في ذلك المبنى الذي قال الضابط السابق إنه شاهده وهو يُقصف. أفادت وسائل إعلام محلية حينذاك أن الغارات الجوية التي شُنت على الكرمة يومي 8 و9 آذار/ مارس تسببت بمقتل ما بين 7 و14 شخصا وجرح 18 آخرين.
بعد الضربات، وعلى مدى سنتين، قال المسؤولون عن عملية العزم الصلب إنهم لا يستطيعون تأكيد وقوع أي خسائر في صفوف المدنيين في البلدة. وسنة 2019، أقر المسؤولون بإصابة مدني واحد فقط عندما قصف التحالف موقعًا للعدو. أظهرت الإحداثيات جزءا من المبنى الذي قال ضابط المخابرات الجوية السابق إنه شاهده مدمرًا.
لم يحقق أي طرف محايد في الغارة السرية، كما أن الخطوات التي اتخذها الجيش الأمريكي لتحديد المسؤوليات ليست واضحة.
ويقول الضابط السابق إنه لم يتلق أي اتصال من المحققين العسكريين، مضيفا أن الأدلة، سواء كانت سجلات دردشة أو إحداثيات أو مقاطع فيديو، بقيت سرية.
ورداً على أسئلة صحيفة “ذا تايمز” هذا الشهر، اعترف مسؤول في العمليات الخاصة بأن خليته الهجومية ضربت أهدافاً في البلدة في 8 آذار/ مارس وقتلت 16 مقاتلاً، ونفى مقتل أي مدني في الهجوم.
المصدر: نيويورك تايمز