ترجمة وتحرير نون بوست
منذ اكتشاف الغاز على شواطئ إسرائيل عام 2009 وكلٌ من اليونان وقبرص تتطلعان إلى تشييد منفذ بديل للطاقة في أوربا، التي تحاول التحرر من براثن الطاقة الروسية، وهو أمر تعزز بعد الأزمة الأوكرانية، والتي دفعت بهؤلاء للاعتقاد بأن شرق المتوسط سيكون البديل الوحيد لأوربا، وسيتيح لقبرص تحقيق حلمها في أن تكون مركزًا للطاقة بالمنطقة، ولليونان في أن تكون ممرًا هامًا. بيد أن أحلام تصدير الغاز تلك، بالنظر للواقع المالي والطبوغرافي بين البلدين، يبدو مجرد أضغاث أحلام.
تُبدي قبرص حماسًا شديدًا تجاه مسألة الطاقة في المتوسط. ففي مايو فقط، صرّح الرئيس القبرصي نيكوس أناستاسيادِس، ووزيرا الاتصالات والأعمال، والزراعة والموارد والبيئة، بشكل علني في مناسبات مختلفة، أن احتياطي الغاز القبرصي قد يتيح لأوربا تنويع مصادرها بعيدًا عن روسيا. علاوة على ذلك، وأثناء زيارته الأخيرة لقبرص، أعرب نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن عن أمله أن تكون قبرص معقلًا للغاز الطبيعي في المنطقة، أثناء حديثه عن ضرورة حل الأزمة اليونانية-التركية وتوحيد الجزيرة سياسيًا، وهو ما زاد مسؤولي قبرص ثقة بحلم تصدير غاز بلادهم، وغاز إسرائيل، إلى أوربا.
تحاول اليونان أيضًا أن تلعب دورًا في ملعب غاز شرق المتوسط ونقله لأوربا. ففي مارس الماضي، قامت أثينا بإطلاق مناقصة دولية لدراسة جدوى مُقترح خط أنابيب يصل حقل ليفياثان الإسرائيلي بأوربا عبر اليونان. كان الاتحاد الأوربي قد أبدى تأييده لمشروع خط شرق المتوسط العام الماضي حين اختارته المفوضية الأوربي كمشروع ذي أهمية، غير أن إدراجه على القائمة لا يعني أن المشروع سيتلقى أي تمويل، ناهيك عن أن يبدأ تنفيذه.
على الرغم من قرار المفوضية المبدأي، تشير الحقائق على الأرض أن المشروع بعيد المنال. تلك الحقائق هي: أولًا، أن الأنشطة الزلزالية في المياه اليونانية تمثل مخاطرًا كبرى في البناء والنقل؛ ثانيًا، أن هناك جزءًا من خط الأنابيب بطول 675 كيلومتر سيُبنى تحت الماء وبأعماق تتراوح بين 800 و2000 متر، وهو أمر عديم الجدوى اقتصاديًا، ناهيك عن أن بناء خط بين قبرص وكريت فقط سيكلّف 20 مليار دولار، وهي تكلفة غير مبررة “إلا في حالة ثبوت اكتشافات غاز أخرى في شرق المتوسط تجعلها ذات جدوى”، كما جاء على لسان أحد المختصين؛ ثالثًا، تأتي الظروف الصعبة التي يمر بها اقتصادا اليونان وقبرص إثر أزمة 2008 المالية، لتُضعِف من قدرتهما على اجتذاب المستثمرين. وأخيرًا، تأتي طبيعة سوق الغاز الطبيعي في أوربا لتُثبّط من قابلية الربح الممكنة، إذ ينبغي على غاز المتوسط أن يسوّق في أوربا بأسعار أقل من تلك التي تقدمها شركات كبرى (مثل غازبروم الروسية)، نظرًا لأن الطلب على الغاز الطبيعي ثابت تقريبًا. على العكس، سيتزايد في المستقبل الطلب على الغاز الطبيعي في الشرق الأوسط، وهي منطقة في طور النمو، نظرًا لتزايد الحاجة إلى مصادر طاقة رخيصة بديلة للنفط والغاز المُسال، وهو ما يعني أن الغاز الإسرائيلي يمكن أن يعود بالأرباح أكثر إذا ما بيع في الشرق الأوسط كسوق من المتوقع أن يزداد طلبه مستقبلًا، مقارنة بأوربا.
صورة (1)
توضّح تلك الخريطة الأعماق المختلفة في البحر المتوسط، والتي تصل لـ2000 و3000 متر بين قبرص واليونان، في حين لا تتجاوز 1000 متر بين قبرص وتركيا، وهو الخيار الأوقع لخط شرق المتوسط.
لا تلوح في الأفق أي علامات على أن مالكي ومشغلي حقل ليفياثان الإسرائيلي يدرسون بالفعل تصدير الغاز إلى أوربا عبر خط أنابيب، فرُغم أن الشركات أعربت بشكل عام أنها تفضّل نقل الغاز وتصديره عبر خطوط أنابيب بدلًا من محطات غاز مُسال، إلا أن شركة نوبل إنرجي الأمريكية، ومقرها هيوستن بولاية تكساس، والتي تشغّل حقلي ليفياثان وتمار على شاطئ إسرائيل، وشركاءها الإسرائيليين، اتجهوا إلى عقد صفقات مع الدول المجاورة لإسرائيل، وهو ما يشي باتجاهها نحو أرباح سوق الشرق الأوسط النامي. فقد تم توقيع اتفاقيات لتصدير الغاز من حقل تمار إلى الضفة الغربية والأردن في مطلع هذا العام، كما بدأت مفاوضات بين شركة تسغيل خطوط الأنابيب التركية توركاس في أبريل لشراء الغاز الطبيعي من حقل ليفياثان، رُغم التوتر في العلاقات التركية الإسرائيلية.
تُعَد هذه التوجهات صوب الجوار المباشر لإسرائيل أكثر قابلية للتنفيذ وأكثر ربحًا من خط أنابيب شرق المتوسط، فكما قال تشاك ديفيدسون، المدير التنفيذي لشركة نوبل إنجري، “بالطبع هناك اهتمام في أوربا، ولكننا نجد من شركائنا في الشرق الأوسط اهتمامًا أكبر بكثير.”
صورة (2)
صورة لحقول الغاز المكتشفة حديثًا على شواطئ إسرائيل
بالإضافة لذلك، تبدو فكرة مد خط أنابيب إلى أوربا، إن وضعتها نوبل إنرجي وشركاؤها في الحسبان، أكثر واقعية إذ تم مد خط أنابيب من إسرائيل، وعبر قبرص، إلى تركيا، ومن ثم إلى أوربا، فالأنابيب في المياه ستكون أقصر، كما ستكون المياه أقل عمقًا (كما يبدو في الصورة 1). هذا الخط سيتطلب بالطبع حل المسألة القبرصية العالقة بين تركيا وقبرص اليونانية، العضوة في الاتحاد الأوربي، وكذلك تحسّن العلاقات التركية الإسرائيلية بشكل جديّ.
تبدو فكرة ممر الطاقة المتوسطي البديل براقة وممكنة في أذهان مسؤولي اليونان وقبرص، ولكن تحقيق هذا حلم لا يبدو ممكنًا في المستقبل القريب، فقد اختارت مجموعة لفياثان الجوار المباشر، وليس من المنطقي أن تتجه نوبل إنرجي وشركاؤها صوب مشروع خطوط أنابيب يصل إلى أوربا، وهي توجهات تعني أن حلم اليونان وقبرص، بوضعهما الاقتصادي الحَرِج، والتكاليف الباهطة لخط غاز من قبرص إلى اليونان، وإمكانيات سوق الشرق الأوسط المتنامية مقارنة بأوربا، ستنتظر طويلًا، وربما إلى الأبد. على مسؤولي البلدين أن يضعا أقدامهما على الأرض إذن، ويعيدا النظر في طموحاتهما لتناسب الواقع.
المصدر: ناشونال إنترست