تنشط حكومة نظام الأسد في محافظة دير الزور خلال الأسابيع الماضية بشكل مكثّف، بالتزامن مع تحركات عسكرية لـ”قسد” في مناطق سيطرتها شرقي الفرات، وبحثهما، أي النظام و”قسد”، إمكانية تطبيق التفاهمات السياسية التي ترعاها روسيا، في خضمّ التهديد التركي للمنطقة بشنّ عملية عسكرية.
ويحاول نظام الأسد إثبات وجوده العسكري والإداري في محافظة دير الزور غرب الفرات، التي تشتهر بسيطرة الميليشيات الإيرانية والعراقية على كامل النشاطات الخدمية والعسكرية ووصولها المباشر للعشائر، إذ أظهرت النشاطات الأخيرة في المدينة السعي والاهتمام الزائد من قبل نظام الأسد في إحكام قبضته على كامل الملفات الأمنية والإدارية على حدّ سواء.
وكانت آخر النشاطات زيارة رئيس وزراء نظام الأسد، حسين عرنوس، في 12 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، على رأس وفد وزاري، محافظةَ دير الزور، حيث التقى عددًا من وجهاء المدينة وممثلين عنها في مجلس الشعب التابع لنظام الأسد، للاطِّلاع على بعض المشاريع التنموية والخدمية التي تنفَّذ في المحافظة، بينما أشاد بعمليات التسوية التي تجري هناك منذ منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
التسوية.. عنوان عريض
أطلق نظام الأسد في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني مشروع التسوية في محافظة دير الزور، شمال وشرقي سوريا، عقب انتهاء المشروع في محافظة درعا الواقعة في الجنوب السوري، حيث بدأ العمل في المركز الأول داخل الصالة الرياضية، بينما افتتح مركزًا آخر في مدينة الميادين الواقعة في ريف دير الزور الغربي، حيث بلغ عدد الذين أجروا التسوية نحو 2500 شخص.
في حين ما زال مركز مدينة البوكمال الواقعة على الحدود السورية-العراقية يستقطب أشخاصًا لتسوية أوضاعهم الأمنية، وبلغ عددهم نحو 3 آلاف شخص، بحسب ما نقلت وسائل إعلام نظام الأسد التي ادّعت أن التسوية “تشمل كل من لم تتلطّخ يداه بالدماء من المدنيين المطلوبين والعسكريين الفارّين والمتخلفين عن الخدمتَين الإلزامية والاحتياطية”.
وتُعد هذه التسوية، الأولى من نوعها التي تشهدها محافظة دير الزور، واللافت أنها تجري بحضور ضبّاط أمنيين وعسكريين في نظام الأسد، أبرزهم اللواء حسام لوقا، رئيس إدارة المخابرات العامة، وقد أشرف في السابق على التسويات التي شهدتها محافظة درعا جنوبي البلاد، وقبل ذلك في ريف حمص الشمالي والمناطق المحيطة بريف العاصمة دمشق.
الصحفي في موقع “نهر ميديا”، الذي يغطي أخبار الجزيرة السورية، عهد الصليبي، قال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “الأشخاص الذين أجروا تسوية هم من الذين تجاوزت أعمارهم الـ 50 عامًا، ومن الطبيعي أنه ليس لديهم أي عداء مع نظام الأسد، حيث كانوا نازحين إلى مناطق في الضفة الشرقية من الفرات وتقع تحت سيطرة “قسد”، ومع افتتاح التسوية عادوا إلى مناطق النظام بهدف العودة إلى منازلهم”.
وأضاف: “طلب نظام الأسد منهم في مراكز المصالحة البطاقة الشخصية وتعريفًا بسيطًا عنهم، بينما يأتي مندوب من الميليشيات يعرض عليهم الانضمام إلى صفوف ميليشياته، بعد خسارة العديد من العناصر في المنطقة بسبب تركهم لصفوف الميليشيات في وقت سابق وعلى وجه الخصوص الفوج 46”.
وكانت قد اعتقلت القوات الأمنية التابعة للنظام عددًا من مراجعي مبنى الصالة الرياضية في دير الزور من المقبلين على تسوية أوضاعهم الأمنية، بينما يسعى إلى استقطاب الشبّان ووضعهم ضمن الخدمة الإلزامية أو انضمامهم إلى صفوف الميليشيات الموجودة في المنطقة.
وخضعت عدة شخصيات تنتمي إلى تنظيم “داعش” لمشروع التسوية المقام في محافظة دير الزور، ويسعى نظام الأسد إلى زعزعة عناصر تنظيم “داعش” وإزالة الثقة بينهم والحصول على معلومات منهم، في حال كان بعضهم على اتصال مباشر بعناصر التنظيم، بحسب ما أوضح الصحفي الصليبي.
ومن أبرز الشخصيات العشائرية التي خضعت للتسوية ولها صلة مع تنظيم “داعش”، أبو علي البلد، أحد قادة دوريات الحسبة التابعة للتنظيم، إضافة إلى 3 آخرين في ريف دير الزور الغربي كانوا يمثلون المكتب العشائري في تنظيم “داعش”.
وفي السياق، رصد “نون بوست” صورًا يظهرُ فيها أشخاص يرتدون ملابس عسكرية، ويقومون بتسوية أوضاعهم الأمنية، بينما هم فعليًّا يعملون ضمن صفوف الميليشيات الموالية للنظام، أي لا يمكن لجهة أخرى أن تجري التسوية بلباسها العسكري.
أهداف قريبة للتسوية
تهدف عمليات التسوية في محافظة دير الزور إلى عودة نشاط حكومة نظام الأسد برعاية روسية، في المحافظة التي تعدّ عاصمة الوجود الإيراني في سوريا، لا سيما أن المنطقة باتت تتحكّم بها الميليشيات الإيرانية وتجري اجتماعات واتفاقات مع عشائر المحافظة التي تحظى بمكانة جيدة بين الأهالي.
تعمّد نظام الأسد استغلال ملف عناصر تنظيم “داعش” والأشخاص الذين على صلة معهم، في إطار الحصول على دعم محلي يركّز وجود مؤسساته التي استعادت نشاطها في المنطقة خلال الفترة الأخيرة بحسب ما أفادت مصادر محلية لـ”نون بوست”.
ويرى الصحفي عبد اللطيف الخليفة خلال حديثه لـ”نون بوست” “أن هدف نظام الأسد من عملية استقطاب عناصر تنظيم “داعش” كسب ودّ العرب، لأنه فعليًّا يخاطب من يقيم في مناطق سيطرة “قسد”، خاصة أن معظم هؤلاء عادوا من مناطق تقع تحت سيطرتها، في محاولة لإيجاد دور لقواته في مناطق سيطرة “قسد” في حال نجحت المفاوضات السياسية”.
وأكّد “أن عمليات التسوية لا يوجد فيها عناصر من الجيش السوري الحر، ولا حتى نشطاء، وفي حال وجود معارضين فإنهم ليسوا بحاجة إلى الكشف عن موقفهم لإجراء مصالحة مع نظام الأسد، وإنما الموجودن هم من الميليشيات التابعة للنظام”.
واعتبرَ الخليفة أن نظام الأسد لا يستطيع تمرير أي تحرك دون الاستفادة من عمليات التسوية اقتصاديًّا، بالإضافة إلى الأبعاد السياسية، ومن المرجّح حصوله على مال من عناصر تنظيم “داعش”.
ترويج.. وأهداف بعيدة غير معلنة
يسعى نظام الأسد تحقيق مكاسب فعلية من خلال عمليات التسوية ونشاطاته في محافظة دير الزور، محاولًا تسويقه إعلاميًّا لعودة الحياة الطبيعية في المحافظة التي باتت تتصدّر اهتمامه.
وحول الموضوع، يرى الصحفي همام عيسى أن نظام الأسد يهوّل إعلاميًّا ملف ما يُسمّى المصالحات التي يجريها، حيث يسعى إلى تصدير صورة مغايرة تمامًا للواقع لأنه لا يوجد مطلوبين للنظام في أماكن سيطرته، وغايته إعلامية لا أكثر لاستعراض عودة الحياة الطبيعية في المحافظة.
وقال عيسى خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن مراكز المصالحات لا يوجد فيها إقبال كبير من الأهالي، لأن النظام استقدم نحو 300 عنصر من صفوف الدفاع الوطني وميليشيات أخرى إلى الصالة الرياضية بدير الزور، وذلك لإظهارهم أمام عدسات الإعلام على أنهم مدنيون قدموا لتسوية أوضاعهم، بينما غالبيتهم شبيحة وموالين لنظام الأسد”.
واعتبر أن تحركات نظام الأسد تهدف إلى سعي روسيا في تركيز دور النظام في المنطقة التي تسيطر عليها الميليشيات الإيرانية، وباتت تعرقل الأهداف الروسية في الشمال الشرقي من سوريا، وهو الهدف الفعلي من ذلك لأن الميليشيات الإيرانية تراقب بحذر ما يجري في عمليات التسوية.
وأشار إلى هدف آخر يسعى نظام الأسد إلى تحقيقه من خلال التسويات، هو “توسيع سيطرته على الريف الشرقي الخاضع لسيطرة “قسد” المدعومة أميركيًّا، بدعم من روسيا التي تتواصل مع وجهاء العشائر لجذب تلك القوى نحو النظام”.
يأتي ذلك في وقت تشهد الأجزاء الواقعة تحت سيطرته في محافظة دير الزور انفلاتًا أمنيًّا، وسيطرة كاملة للميليشيات الشيعية من جنسيات مختلفة عربية وأجنبية.
تسيطر تلك الميليشيات على مختلف الملفات الأمنية والإدارية في ظل تردٍّ أمني متواصل، إلا أن التحركات العسكرية التركية ضد “قسد” في شرقي الفرات دفعت نظام الأسد إلى توجيه نشاطاته الميدانية إلى محافظة دير الزور بدعم روسي، لقاء أهداف محتملة يبحث عنها الحليفان.