غالبا ما يُنظر إلى اليابان من زاويتين مختلفتين: الأولى أنه شعب يعاني التهرّم في ظل تقلص عدد السكان وارتفاع معدل الشيخوخة، والثانية أنه مجتمع حركي ونشيط مثير للإعجاب وغريب الأطوار إلى حد ما في نفس الوقت، إلى جانب كونه منشأ السوشي ومهد ثقافات فرعية غريبة. وكلا المنظورين يقودان الناس إلى صرف النظر عن اليابان، لكن الحقيقة عكس ذلك.
لا يعيش اليابان منفصلا عن العالم، بل إن ما يمر به من مشاكل يمثل نذيرًا لنا. يواجه اليابان العديد من التحديات التي تؤثر على بلدان أخرى، أو ستؤثر عليها قريبًا، بما في ذلك تسارع وتيرة الشيخوخة والركود المزمن والكوارث الطبيعية وخطر الانجرار إلى ساحة الصراع بين الولايات المتحدة والصين. وحقيقة أن بعض هذه المشكلات ضربت اليابان مبكرًا يجعلها مختبرًا مفيدًا لرصد آثارها وإيجاد طريقة للاستجابة لها.
التعايش مع المخاطر
من بين الدروس التي يعلمنا إياها اليابان أن البلدان يجب أن تتعلم كيف تتعايش مع المخاطر، وكيف تتعافى من الصدمات مع تغير المناخ وانتشار المخاطر الطبيعية. إن التجارب المؤلمة التي مرّ بها اليابان قادته إلى الاستثمار في “المرونة” من خلال إعادة تأهيل الجسور والمباني لجعلها مقاومة للزلازل. فعلى سبيل المثال، قامت مدينة كوبي ببناء نظام تحت الأرض لتخزين الإمدادات اللازمة للسكان بعد الزلزال الكبير الذي ضربها في سنة 1995، وترك الكثيرين دون ماء.
يُدرك الكثير من اليابانيين أن الاستجابة للكوارث لا تقع على عاتق الدولة فحسب، بل مسؤولية مشتركة. وقد كانت هذه العقلية مفيدة خلال الوباء، عندما التزم الجميع بارتداء الأقنعة الواقية الأمر الذي جعل اليابان يسجل أقل معدل وفيات بفيروس كورونا وأعلى معدل في التطعيم المزدوج بين دول مجموعة السبع.
أهمية دراسة الديموغرافيا
والدرس الآخر الذي تقدمه اليابان هو أهمية دراسة الديموغرافيا، التي تشير إلى أن معظم المجتمعات سوف تتقدم في العمر وتتهرّم تماما مثل اليابان. وبحلول سنة 2050، سيكون واحد من كل ستة أشخاص في العالم أكبر من 65 عامًا، مقارنة بواحد من كل 11 في سنة 2019. ومن المتوقع أن ينخفض عدد سكان 55 دولة، بما في ذلك الصين، من الآن وحتى سنة 2050. وتشير البيانات الحديثة إلى أن الهند ستتقلص في أقرب من المتوقع.
مثل تغير المناخ، فإن التصنيف الديموغرافي واسع ومتدرج، وقد يكون شكليا فقط. ومثل تغير المناخ، يتطلب التعامل مع هذه المشكلة تحولا في سياسة المؤسسات وسلوك الأفراد. بالنسبة لليابان، فإن العمل لفترة أطول بات أمرًا ضروريًا، حيث تحث الحكومة اليابانية الشركات على إبقاء الموظفين حتى بلوغهم سن السبعين، حيث أن 33 في المائة من الموظفين بين 70 إلى 74 عامًا يبقون في وظائفهم، مقارنة بـ 23 بالمائة المسجلة قبل عقد من الزمان.
تعتبر اليابان دائنًأ رئيسيًا وثالث أكبر اقتصاد بأسعار الصرف الحالية، ويعيش شعبها أطول من أي شعب آخر
يجلب التغيير الديموغرافي تحديات اقتصادية كبيرة، حيث تُعزي اليابان نموها البطيء إلى حد كبير إلى تقلص عدد سكانها. مع ذلك، إذا نظرنا إلى رفاهية المواطن الياباني، فإن الصورة تكون وردية أكثر. ما بين 2010 و2019، سجلت اليابان ثالث أعلى معدل متوسط لنمو الناتج المحلي الإجمالي للفرد في مجموعة السبع، بعد ألمانيا وأمريكا مباشرة.
تعتبر اليابان دائنًا رئيسيًا وثالث أكبر اقتصاد بأسعار الصرف الحالية، ويعيش شعبها أطول من أي شعب آخر، وهي موطن لأكبر مستثمر تقني على هذا الكوكب، ودولة رائدة في تكنولوجيا الجيل الخامس، وحاضنة مليئة بالعلامات التجارية العالمية من “يونيكلو” إلى ” نينتندو”. وتساعد خبرتها في مجال الروبوتات وأجهزة الاستشعار شركاتها على جني الأموال من مجموعة واسعة من التقنيات الصناعية الجديدة.
أما من الناحية الجيوسياسية، تلعب اليابان دورا محوريا بين الصين أكبر شريك تجاري لها، والولايات المتحدة شريكها الأمني الرئيسي.
خطر التراخي
إن أخطاء اليابان تمثل مجموعة أخرى من الدروس. إن العيش مع الكثير من المخاطر يجعل تحديد الأولويات أكثر صعوبة. في مواجهة العديد من المخاطر المحتملة، صرفت اليابان نظرها عن قضية تغير المناخ، الذي يعد أكبر كارثة تواجهها الإنسانية حاليًا. وفي سنة 2020، تعهدت اليابان بالوصول إلى صافي انبعاثات كربونية صفرية بحلول سنة 2050، لكن تفاصيل خطتها لتحقيق هذا الهدف بدت غير واضحة المعالم.
يعلق السياسيون آمالهم على إعادة تشغيل المحطات النووية التي توقفت بعد كارثة فوكوشيما في سنة 2011؛ لكن هذا الاحتمال غير وارد في ظل مبالغة عامة الشعب في تقدير مخاطر الطاقة النووية. كما يشكك العديد من البيروقراطيين في نجاعة الطاقة المتجددة، الأمر الذي يُبقي اليابان معتمدة على الوقود الأحفوري.
من بين طرق التعامل مع تقلص عدد السكان تحقيق أقصى استفادة من الأشخاص. لكن اليابان لن ترقى إلى مستوى إمكاناتها أبدًا في الوقت الذي يُحرم فيه الكثير من مواطنيها من النخبة المثقفة من فرص الارتقاء بمستوى إمكاناتهم. وفي ظل اعتماد نظام الترقية القائم على الأقدمية في الشركات التقليدية، والاحترام المفرط للموظفين المسنين، تُسكِت اليابان أصوات الشباب وتخنق الابتكار. ولعل هذا الأمر الذي يدفع العديد من ألمع الخريجين الجدد لتفضيل العمل في الشركات الناشئة.
أحسنت اليابان صنعًا بإشراك المزيد من النساء ضمن القوى العاملة في السنوات الأخيرة، لكن لا يزال أمامهن فرص قليلة جدا للارتقاء في ظل نظام العمل الذي يضطهد الشباب والنساء، الذي يحبسهن في وظائف غير مستقرة بدوام جزئي، مما يجعلهن أقل حرصًا على إنجاب الأطفال.
في الأثناء، يتغاضى السياسيون عن كل ذلك جزئيًا لأنهم لا يتعرضون لضغط كبير من أجل إحداث تغيير. يحكم الحزب الليبرالي الديمقراطي البلاد تقريبا منذ سنة 1955، وذلك بفضل ضعف القوى المعارضة. وكبار الشخصيات السياسية أكثر مقاومة للتغيير من الجمهور الذي من المفترض أنهم يمثلونه. أما بالنسبة للجمهور، فإن ما يتمتعون به من رفاه اليوم يغنيهم عن الضغط من أجل غد أفضل. ومن هنا نستخلص الدرس الأخير لليابان وهو خطر التراخي.