“أظن أن هناك مؤشرات إيجابية بأنّ الأمور ستعود قريبًا (إلى ما كانت عليه). تشكيل الحكومة المدنية بالتأكيد سيُعيد الأمور إلى نصابها”.. بهذا التصريح ألمحَ رئيس مجلس السيادة في السودان، عبد الفتاح البرهان، إلى إمكانية عودة المساعدات من المجتمع الدولي إلى بلاده التي تعاني من تفاقم أزمتها الاقتصادية على وقع انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
يرى مراقبون أن المؤشرات الإيجابية التي أشار إليها البرهان خلال حوار مع وكالة الصحافة الفرنسية قبل أيام، مرهونة بحزمة من الشروط المحدَّدة الواجب تنفيذها حتى تعود الأمور إلى نصابها على حدّ قوله، والتي تأتي على رأسها العودة للمسار الديمقراطي المدني، والالتزام بالوثيقة الدستورية الموقّعة في أغسطس/ آب 2019.
وكان السودان قد نجح خلال الآونة الأخيرة في إعادة علاقاته المتوازنة مع المؤسسات الاقتصادية الدولية بعد سنوات من العزلة، فيما أُعفي من ديونه (قرابة 50 مليار دولار) عقب تطبيق “روشتة” صندوق النقد الدولي، التي قضت بفرض إجراءات قاسية أبرزها تحرير تامّ لأسعار الوقود والجنيه والدولار الجمركي، وهي الخطة التي كان لها ارتدادات سلبية على الواقع المعيشي للشعب السوداني.
وزاد انقلاب البرهان من تفاقم الوضع، بعد تلويح المجتمع الدولي بوقف المنح والمساعدات ردًّا على ما قامَ به الجنرال، وهو ما لم يتحمّله الاقتصاد السوداني الهشّ، فضلًا عن تصاعد المخاوف بشأن إدراج البلاد على قائمة الدول المُدينة مرة أخرى، بجانب التداعيات العكسية للمقاومة السلمية الشعبية، واستراتيجية العصيان المدني والإضرابات الشاملة والجزئية التي يلتزم بها الشارع للضغط على العسكر للتراجُع عن انقلابهم.
ورقة الدعم الدولي
منذ انقلاب أكتوبر/ تشرين الأول الماضي ويتلقّى السودان ضربات موجعة في مسار المساعدات الدولية، البداية كانت مع إعلان إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تعليق مساعدات بلاده للخرطوم، والبالغ قيمتها 700 مليون دولار، كخطوة أولية نحو فرض المزيد من العقوبات حال عدم تراجُع البرهان عن قراراته.
الموقف الأمريكي كان إشارة واضحة لبقية المؤسسات المالية لاتخاذ الموقف ذاته من أجل الضغط على المؤسسة العسكرية السودانية، وعليه كان موقف البنك وصندوق النقد الدوليَّين بشأن التوجُّه لتعليق المعونات المالية والاقتصادية للسودان، إن لم يتمَّ الالتزام بمسار الانتقال الديمقراطي المتّفق عليها سلفًا.
الدعم المحتمَل تقديمه من الصين وروسيا لدعم العسكر لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يكون عوضًا عن المساعدات الدولية، خاصة أن الاقتصاد السوداني يعاني من شروخات غائرة تتطلب المزيد من الضخّ المستمر غير المتوقف.
هذا التوجُّه كشف عنه وزير المالية السوداني في الحكومة المنحلّة، جبريل إبراهيم، حين أشار إلى تجميد المؤسسات المالية الدولية حزمة مساعدات مقدَّرة بـ 650 مليون دولار (500 مليون لدعم الميزانية من البنك الدولي و150 مليون دولار من صندوق النقد الدولي) في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أي بعد أيام قليلة من انقلاب البرهان.
وفي الجهة المقابلة، ترفضُ القوى الداعمة للعسكر سياسة الضغط على السودان عبر ورقة الدعم والمساعدات الدولية، حيث دعا مندوب الصين الدائم في الأمم المتحدة، داي بينغ، إلى استئناف المنح والمساعدات في ظل ما يعانيه الشعب السوداني من أزمات طاحنة، لافتًا إلى أن الخرطوم قطعت شوطًا كبيرًا في مسار الإصلاح الاقتصادي المنشود، ويرجع هذا الموقف إلى مساعي بكين الحفاظ على مصالحها بالسودان ونفوذها الأفريقي في سياق صراع النفوذ مع واشنطن.
الموقف ذاته تبنّته موسكو التي حاولت قدر الإمكان عرقلة أي قرار أُممي من شأنه فرض عقوبات على السودان عقب الانقلاب، هذا بخلاف العلاقات المتنامية بين جنرالات الخرطوم والكرملين في الآونة الأخيرة، حيث يحاول الروس توظيف المشهد الحالي لاستعادة نفوذهم العسكري والسياسي في السودان كمدخل لأفريقيا، وهي العلاقات التي أثارت قلق الكثير من العواصم الغربية.
انهيار اقتصادي متوقَّع
وفق الأرقام، فإن الدعم المحتمَل تقديمه من الصين وروسيا لدعم العسكر لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يكون عوضًا عن المساعدات الدولية، خاصة أن الاقتصاد السوداني يعاني من شروخات غائرة تتطلب المزيد من الضخّ المستمر غير المتوقف، ولا يتحمّل أي هزّة من أي نوع ما.
إيقاف البنك وصندوق النقد الدوليَّين لمساعداتهما ستكون ضربة قاصمة للخرطوم، لا سيما أن البنك كان قد خصّصَ في وقت سابق مليارَي دولار للدعم في القطاعات المختلفة، ستفقدهما البلاد بالطبع، هذا بخلاف القلق من تراجُع صندوق النقد عن إعفاء السودان من الديون البالغة قرابة 50 مليار دولار.
استمرار البرهان في مسارات انقلابه ودحضه للانتقال الديمقراطي وضربه للوثيقة الدستورية عرض الحائط، سيشجّع الكثير من الدول والمؤسسات الاقتصادية على حذو استراتيجية أمريكا والمؤسسات الخاضعة لها، ليتحول الأمر إلى أجندة دولية تحاول تلك القوى فرضها، حفاظًا على مصالحها التي ستتأثر بلا شكّ في ظل هذا المناخ السياسي الملبّد بغيوم الفوضى والعسكرة وعدم الاستقرار، وهو ما لا يمكن للاقتصاد السوداني تحمّله في الوقت الراهن.
استمرار تلك الوضعية سيكبّد السودان خسائر فادحة خلال العام المقبل، إذ تشير التقديرات إلى عجز قد يصل إلى 5 مليارات دولار عام 2022، هذا بخلاف الانهيارات المتوقعة في العديد من المجالات الحياتية الأخرى، لا سيما أن الدول ربطت دعمها بحزمة من الإجراءات السياسية والتغيرات في شكل الحكم وعودة المسار إلى ما قبل 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021.
الضغط الشعبي
لم يكن الدعم الدولي وحده ورقة الضغط الوحيدة المستخدمة ضد البرهان، فهناك ضغط موازٍ أكثر تأثيرًا وحضورًا، يتمثل في الزخم الشعبي المستمر والاحتجاجات المتصاعدة طيلة الـ 50 يومًا الماضية، منذ الانقلاب وحتى الأمس، حيث مليونية “13 ديسمبر” التي دعت إليها القوى الثورية.
خرج المتظاهرون في العديد من الشوارع الرئيسية والميادين بوسط العاصمة وأحيائها، رافعين شعار “إسقاط حكم العسكر” ومرددين هتافهم الثلاثي “لا حوار ولا تفاوض ولا شراكة مع الجنرالات”، فيما أطلقت الشرطة السودانية قنابل الغاز المسيّل للدموع لتفريقهم بعدما اقتربوا من القصر الرئاسي.
وفي جموع مطوِّقة للقصر، رفع المحتجّون أعلام بلادهم الوطنية وهتفوا بعشرات الشعارات الثورية على شاكلة “الشعب أقوى أقوى والردة مستحيلة”، و”ثوار أحرار حَ نكمِّل المشوار”، و”يسقط يسقط حكم العسكر”، و”حكم العسكر ما بتشكر”، و”الشعب يريد إسقاط النظام”، و”يا برهان ثكناتك أولى وما في ميليشيا بتحكم دولة”، يتزامن ذلك مع جموع غفيرة أخرى خرجت في بعض الولايات الأخرى كالقضارف وكسلا شرق البلاد.
تأتي تلك الفعاليات التي تطالب بإزالة المكوّن العسكري وتسليم السلطة للمدنيين والقصاص من قتلة الثوار، ضمن برنامج “ديسمبر” التصعيدي الذي أعدّته تنسيقيات “لجان المقاومة” و”تجمع المهنيين السودانيين” ضد إجراءات البرهان، والذي يتضمّن 5 مسيرات، الأولى كانت في السادس من الشهر، والثانية في الثالث عشر منه، فيما تأتي الثلاث الأخرى في أيام 19 و25 و30 منه.
حاضنة سياسية لحمدوك
وعلى المستوى السياسي، يسعى رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، الذي يواجه عزلة شعبية جرّاء موافقته على العودة لمنصبه بعد وضعه قيد الإقامة الجبرية، الأمر الذي اعتبره الثوار تواطؤًا لشرعنة الانقلاب وتمريره؛ إلى تحسين صورته لدى الشارع السوداني من خلال التمسُّك بالمسار الانتقالي المدني في تشكيل حكومته.
ويواجه حمدوك ضغوطًا مستمرة من البرهان إزاء التشكيل الحكومي المتوقع والمفترض أن يكون من التكنوقراط كما تمَّ الاتفاق، حيث يحاول اختيار تشكيلة مدنية تكون مؤهَّلة وقادرة على فرض المسار الديمقراطي المحدَّد سلفًا بحسب الوثيقة الدستورية، وليست ذات ميول عسكرية أو مناهضة للتحرك المدني كما يريد الجنرالات.
لا يمكن لرئيس الوزراء الإقدام على تلك المغامرة دون حاضنة سياسية وشعبية تكون سندًا له، وتقوّي موقفه أمام العسكر من جانب وأمام المجتمع الدولي من جانب آخر، وهو ما يفسِّر انخراط بعض القوى السياسية في مناقشة مسودة أولية للإعلان عن اتفاق سياسي جديد، يتّخذ من الوثيقة الدستورية الموقعة في 17 أغسطس/ آب 2019 المرجعية الأساسية له.
ويهدف هذا الاتفاق المتوقّع الإعلان عنه في غضون أيام إلى دعم الحكومة الانتقالية المنتظر تشكيلها، ومعالجة الاختلالات المصاحِبة للمسارات السياسية والأمنية الراهنة، وعلى رأسها الوصول إلى اتفاق مع بقية قوى الكفاح المسلح ممّن لم توقِّع مع السلطة الانتقالية على اتفاق سلام بعد، فيما تشير بعض التسريبات إلى أن إعادة هيكلة مجلس السيادة الذي شكّله البرهان مؤخرًا، وتسليم السلطة للمدنيين في يونيو/حزيران 2022، سيكونان على رأس بنود هذا الاتفاق.
ومن المتوقع أن تشهد الأيام القادمة سيولة سياسية من نوع خاص في ظل المعركة الشرسة بين الضغوط الدولية والشعبية من جانب، والدعم الصيني الروسي للبرهان من جانب آخر، فيما يظل الزخم الثوري والتصعيد الاحتجاجي بشتى سبله الكلمة الفصل التي سيكون لها دورها في تغليب كفّة المنتصر.