قيس سعيّد يواصل فرض مشروعه الانقلابي على التونسيين

يواصل الرئيس التونسي قيس سعيّد فرض مشروعه الخاص على أرض الواقع دون الاكتراث بأي أحد، لا معارضيه ولا حتى المساندين له الذين خرجوا يصفّقون له ويهللون لانقلابه على مؤسسات الدولة ودستورها ليلة 25 يوليو/ تموز الماضي.
إجراءات جديدة
كان من المنتظَر أن يتحدث قيس سعيّد يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، بمناسبة عيد الثورة الذي غيّره قبل أيام بعد أن كان يوم 14 يناير/ كانون الثاني، لكنه اختار تبكير موعد الخطاب كي يستبق التحركات الميدانية المُقررة ضده.
أعلن سعيّد في هذا الخطاب استمرار تجميد البرلمان حتى تنظيم انتخابات جديدة، ستكون يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول 2022، كما أعلن عن تنظيم استفتاء وطني حول إصلاحات دستورية في 25 يوليو/ تموز المقبل.
طيلة الفترة الماضية، كان قيس سعيّد يرفض تحديد سقف زمني لإجراءاته، حتى أنه قال مستهزئًا: “من يريد خارطة طريق فليذهب إلى كتب الجغرافيا”.
الرئيس التونسي -في خطاب متلفز من قصر قرطاج- قال إنه سينظِّم استشارة شعبية عبر منصات إلكترونية من بداية يناير/ كانون الثاني حتى 20 مارس/ آذار المقبلَين، كما سيشكّل لجنة تتولى تأليف مختلف الاقتراحات، لتنتهي أعمالها قبل نهاية يونيو/ حزيران المقبل.
وأضاف الرئيس التونسي أنه سيتمُّ عرض مشاريع الإصلاحات الدستورية وقانون تنظيم الانتخابات وغيرها على الاستفتاء في 25 يوليو/ تموز المقبل، واختار سعيّد هذا الموعد حتى يكون موافقًا للذكرى السنوية لإجراءاته المفاجئة بتعليق البرلمان وإقالة رئيس الوزراء والسيطرة الكاملة على السلطة التنفيذية.
وأضاف أيضًا أنه سيؤسِّس لمصالحة جبائية مع كل من تورّط في الاستيلاء على المال العام، على أن يقوم من أُدينُوا بالاستيلاء على المال العام بتمويل الاستثمار في أكثر المناطق فقرًا داخل البلاد.
كما شدّدَ على أنه ستتم محاكمة كل الذين أجرموا بحقّ الدولة التونسية وحقّ شعبها منذ الثورة التونسية، مطالبًا القضاء بأن يقوم بوظيفته في إطار الحياد التام.
رسالة للخارج
تحديد المدة الزمنية لإجراءاته الاستثنائية جاء لطمأنة الخارج، إذ ما فتئت عدة قوى دولية دعوة قيس سعيّد إلى تحديد سقف زمني لإجراءاته والعودة إلى المسار الدستوري، حتى لا تنزلق البلاد مجددًا إلى الديكتاتورية والاستبداد كما كان عليه الوضع قبل يناير/ كانون الثاني 2011.
وفي آخر بيان لها، قبل يومَين، دعت مجموعة الدول السبع تونس إلى عودة “سريعة” لعمل المؤسسات الديمقراطية في البلاد، وتحديد “سقف زمني واضح يسمح بعودة سريعة لسير عمل المؤسسات الديمقراطية، بما في ذلك برلمان منتخَب يضطلع بدور هام”، وأكّدت على أهمية احترام الحريات الأساسية لجميع التونسيين.
طيلة الفترة الماضية كان قيس سعيّد يرفض تحديد سقف زمني لإجراءاته، حتى أنه قال مستهزئًا: “من يريد خارطة طريق فليذهب إلى كتب الجغرافيا”، إلا أنه تراجعَ وأعلنَ عن خارطة طريق محددة بتواريخ زمنية، في محاولة منه للخروج من المأزق وضمان تمويل ميزانية الدولة، بعد أن صارت تونس على حافة الإفلاس.
يُشار إلى أن الرئيس التونسي قيس سعيّد يُحكم قبضته على كل السلطات في تونس منذ انقلابه الدستوري ليلة 25 يوليو/ تموز الماضي، حيث جمّد اختصاصات البرلمان ورفع الحصانة عن نوّابه، وألغى هيئة مراقبة دستورية القوانين، وأصدر تشريعات بمراسيم رئاسية، وأقال رئيس الحكومة، وشكّل أخرى جديدة عيّنَ هو رئيستها، وترفض أغلب القوى السياسية في تونس هذه القرارات، وتراها “انقلابًا على الدستور”.
هجوم على الجميع
أراد قيس سعيّد طمأنة الجهات الخارجية، لكنه استغلَّ خطابه كالعادة للهجوم على منافسيه ومعارضي انقلابه الدستوري، لكن ما يُسجَّل هذه المرة أن هجومه طال أيضًا أنصار انقلابه، فقد ذمّهم أكثر ممّا ذمَّ معارضيه أنفسهم.
أمعنَ قيس سعيّد في إذلال الجميع دون استثناء، حتى من صفّقوا له، إذ قال إن همّهم الوحيد المناصب، وتفنّن أثناء الحديث عنهم في استعمال كل مفردات التحقير والتقزيم، وأشار متهكّمًا أيضًا إلى اتحاد الشغل الذي طرحَ مؤخرًا رؤيته تحت مسمّى “الخيار الثالث”.
أعاد سعيّد أيضًا توجيه الاتهامات لكل النواب وكل الطبقة السياسية و”المناوئين الذين دأبوا على المكر والكذب”، معتبرًا أن كل منظومة 14 يناير/ كانون الثاني 2011 “جائحة”، وتحدث عنها بنفس نبرة الحديث عن جائحة فيروس كورونا.
وفقًا لقيس سعيّد، فقد كانت الأشهر التي قضاها بعد تولّيه المسؤولية الممتلئة بالألم والمرارة، واصفًا اللقاءات التي عقدها مع الأطراف السياسية بـ”جلسات التعذيب”، واتّهمَ بعض السياسيين دون أن يسمّيهم بالمتاجرة بآلام التونسيين بعد تفشي فيروس كورونا.
كما اتّهمَ آخرين بممارسات التنكيل بالشعب وإسقاط الدولة التونسية، وقال إن “البعض كانوا يسعون يوميًّا إلى تهريب الأموال والتخابر مع دول أجنبية، والبعض الآخر حصلوا على تمويل من الخارج قبل الانتخابات البرلمانية”.
وتعقيبًا على هذا الخطاب، قال الناشط السياسي التونسي جوهر بن مبارك، وهو عضو الهيئة التنفيذية للمبادرة الديمقراطية “مواطنون ضد الانقلاب”، في وقت متأخّر من مساء الاثنين، إن الرئيس سعيّد “ظهر في كلمته متشنِّجًا وعادَ إلى خطاب التخوين والترهيب والملاحقات التي شملت جميع الأحزاب والمنظمات الوطنية”.
تكريس لمشروعه الخاص
يثبت الرئيس قيس سعيّد مرة أخرى، وفق قول المحلل السياسي سعيد عطية، أنه “منحاز فقط لمشروعه الشخصي ولا تهمّه لا توازنات داخلية ولا خارجية، بالنسبة إلى الرئيس الصورة واضحة وجلية، ستكون استشارة إلكترونية على مقاسه وموجَّهة لأنصاره فقط، فاستفتاء على المقاس فانتخابات بشروطه وتشكيل برلمان صُوري لا سلطة له أمام رئيس الجمهورية”.
يرى عطية في حديثه لـ”نون بوست” أن “الرئيس أكّد في خطاب ليلة أمس أن مشروعه الشخصي مناقض لكل الطيف السياسي بالبلاد، وأنه يضعهم جميعًا في خانة الأعداء، إذ وصل به الأمر للتهكُّم على اتحاد الشغل خلال سخريته من مصطلح “الخيار الثالث”، وهو تقريبًا صاحب السلطة الوحيد منذ 10 سنوات الذي تجرّأ على اتحاد الشغل بهذه الطريقة”.
حرص قيس سعيّد في خطابه الأخير على طمأنة الخارج، إلا أنه تجاهل البُعد الاجتماعي والاقتصادي.
ويقول محدّثنا إن “التسقيف الزمني الصُّوري للمرحلة الانتقالية هو فقط استجابة خجولة للدعوات الأجنبية، لكن في المحتوى فيه الكثير من التمويه والكثير من المخاتلة وتكريس للانقلاب بشراسة أكبر، إذ أراد سعيّد القول إنه سيكتب نظامًا سياسيًّا جديدًا، وسيسنُّ نظامًا انتخابيًّا جديدًا، وسيصادق عليه التونسيون في استفتاء لأنهم “يريدون” وبعدها سيكون لهم برلمان صُوري على مقاسي”.
بدوره، قال جوهر بن مبارك إن سعيّد “أوغل وواصل الانقلاب بتحديد تواريخ لإجراءاته”، ووصفَ الناشط التونسي كلمة الرئيس بأن فيها “تماهيًا مع الخطابات الفاشية التي يضع فيها المتحدث نفسه مع الشعب في صف واحد لتمرير أفكاره الشخصية”، على حد وصفه.
ورأى ابن مبارك أن “الاستفتاء المرتقب سيكون موجّهًا ليشارك فيه أنصار الرئيس دون سواهم، ومخرجات الأفكار والآراء ستكون على المقاس بعيدًا عن أي شكل سياسي ديمقراطي”.
يقول الناشط السياسي سليم الهمامي لـ”نون بوست”، إن النقاط التي أعلن عنها سعيّد ليلة أمس “أبعد ما تكون عن خارطة طريق واقعية تعالج ما آلت إليه الأمور، فهي بمثابة مهلة لتمكينه التام من مفاصل الدولة، وستكون سببًا في مزيد المضيّ نحو المجهول”.
وأضاف الهمامي في حديثه لـ”نون بوست”: “الرئيس مرَّ بقوة نحو مرحلة ختامية من رؤيته قبل تتويجها، بالإعلان عن الاستشارة الافتراضية ومواصلة تعليق أعمال المجلس النيابي لحين حلّه بموجب تنظيم انتخابات تشريعية بعد جمع وترتيب نتائج تلك الاستشارة”.
وتابع: “إن ما يقع لا يعدو أن يكون إلا مضيًّا نحو مجهول تامّ بكامل مؤسسات الدولة ومقدراتها، واستعداء لكافة الطبقة السياسية والمنظمات المدنية بعد أن هاجمها الرئيس كناية لا تصريحًا، وبذلك حدّد مكان كلٍّ منها خارج حدود منظومته التي يأسِّسها عنوة”.
حرص قيس سعيّد في خطابه الأخير على طمأنة الخارج، إلا أنه تجاهل البُعد الاجتماعي والاقتصادي، فخطابه الذي امتدَّ لأكثر من 40 دقيقة لم يتضمّن أي كلمة عن الجانب الاجتماعي والاقتصادي للتونسيين كأن الأمر لا يعنيه، رغم أن موارد الميزانية التكميلية لعام 2021 لم تتوفر بعد، ومشروع ميزانية 2022 لم يُطرح بعد.
تجاهلَ سعيّد انتظارات التونسيين الاجتماعية، رغم أنه وعدَ منذ الليلة الأولى لانقلابه الدستوري بالاستجابة لتطلُّعات التونسيين الذين سئموا الفساد، لكن يبدو أنه غير مهتم، ولم يكُ كلامه إلا شعارات مجردو لا يطمح أن يُنزلها أرض الواقع.