في العاشر من سبتمبر/ أيلول 2021، أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إطلاق ما أسماه “الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان“، وذلك في حفل مبهرج من داخل العاصمة الإدارية الجديدة، حضره العديد من الشخصيات الدبلوماسية، المصرية والدولية، بجانب ممثلي عدد من الجهات الرسمية وبعض الشخصيات العامة، وتناقلته العديد من وسائل الإعلام على الهواء مباشرة.
الاستراتيجية المكوَّنة من 78 صفحة، وتهدف بحسب ديباجتها إلى “النهوض بكل حقوق الإنسان في مصر، من خلال تعزيز احترام وحماية كل الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتضمّنة في الدستور والتشريعات الوطنية والاتفاقيات الدولية والإقليمية المنضمة إليها مصر، تحقيقًا للمساواة وتكافؤ الفرص دون أي تمييز”، قوبلت باحتفاء كبير لدى إعلام الدولة ونوافذه في الداخل والخارج.
وسبق هذا الإعلان بعض الخطوات التي اتّخذتها السلطات، واستبشر بها المراقبون كبادرة حسن النوايا، من بينها إطلاق سراح بعض سجناء الرأي من بين نشطاء المجتمع المدني، وحلحلة بعض القضايا على رأسها القضية رقم 173 المعروفة إعلاميًا بـ”قضية التمويل الأجنبي”، حينها صعّد البعض من منسوب تفاؤله بشأن الوضع الحقوقي في مصر.
الاستراتيجية المعلنة أحدثت سجالًا داخل الشارع المصري آنذاك، بين من يراها خطوة تقدمية نحو تغيير جذري في سياسة مصر الحقوقية، وآخرين يعتبرونها مجرد محاولة لمغازلة المجتمع الدولي الذي تتصاعد حملاته وانتقاداته إزاء الوضع الحقوقي المصري، والذي بلغ مستويات غير مسبوقة من الانتهاكات.
بعد مرور 100 يوم على إطلاق هذه الوثيقة التي تزخر -نظريًّا- بنخبة من البنود التي تتشابه حدّ التطابق مع المواثيق الحقوقية الدولية، والتي لا يحلم المصريون بأقل من فُتاتها، يبقى السؤال: ماذا قدمت تلك الاستراتيجية؟ وهل تغيّرت سياسة الدولة في تعاملها مع هذا الملف بعد الإعلان رسميًّا عن هذه الخطوة التي صاحبَها ترويج إعلامي منقطع النظير؟
عرض مستمر
كشف تقرير صادر عن منظمة “كوميتي فور جستس” الحقوقية (مستقلة)، أنه بعد مرور 100 يوم على الاستراتيجية الحقوقية التي أعلن عنها السيسي، لم تتعدَّ كونها حبر على ورق، في ضوء الانتهاكات التشريعية والحقوقية التي شهدتها الساحة المصرية خلال الأشهر الثلاث الماضية، والمستمرة حتى كتابة تلك السطور.
المنظمة التي أصدرت تقريرها بالتزامن مع الاحتفال باليوم العالمي لحقوق الإنسان في 10 ديسمبر/ كانون الأول من كل عام، رصدت 1046 اعتقالًا تعسفيًّا في 10 محافظات مصرية مختلفة، و187 حالة اختفاء قسري، منهم 11 شخصًا تمَّ إخفاؤهم داخل مقارّ الاحتجاز بعد حصولهم على حكم بالبراءة من محكمة أمن الدولة طوارئ وتمَّ تدويرهم على قضايا جديدة، خلال 3 أشهر في الفترة من 10 سبتمبر/ أيلول 2021 إلى 10 ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه.
واستعرض التقرير أبرز الانتهاكات التشريعية الصادرة في تلك الفترة، منها موافقة البرلمان المصري في 31 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي على مقترح الحكومة بتعديل بعض أحكام القانون رقم 136/ 2014، فيما يتعلق بتأمين وحماية المنشآت العامة والحيوية، ليصبح قانونًا مستمرًّا بدلاً من أنه كان مقتصرًا تنفيذه على عامَين فقط.
وفي الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني أقرَّ البرلمان تعديلات قانون مكافحة الإرهاب، أبرزها المادة “32 مكرر”، والتي تعطي رئيس الجمهورية الحق في فرض عقوبات تصل للسجن المشدد على من يخالف التدابير المخوَّل له اتخاذها بموجب المادة 53 من القانون ذاته، وهي الصلاحيات التي تتعارض ومبادئ العدالة في القانون الدولي الخاص بحقوق الإنسان.
كما رصدت المنظمة عددًا من التجاوزات القضائية المسيَّسة التي تفتقد لأبجديات العدالة والنزاهة -من وجهة نظرها-، منها الحكم بالإعدام على 3 متّهمين في القضية رقم 3354/ 2020 جنايات أمن دولة طوارئ العجوزة، المعروفة إعلاميًّا بـ”خلية المرابطين”، في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، والسجن المشدد 15 عامًا، و10 سنوات لآخر، وعاقبت متَّهمة ثالثة بالسجن 3 سنوات في اتهام عدد من الأشخاص بالانضمام لجماعة إرهابية بالقضية رقم 345 لسنة 2021 جنايات أمن دولة، المعروفة باسم “داعش الزاوية الحمراء”.
منذ الوهلة الأولى للإعلان عن تلك الوثيقة، ذهب حقوقيون إلى أن هذا التحرك يأتي في سياق “تسييس” الملف الحقوقي، حيث ربطوا بين توقيت الإعلان عنها ومناقشة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لمسألة حجب جزء من المعونة المقدَّمة لمصر.
وفي خلال تلك الفترة تعرّض 53 متهمًا للتدوير (إعادة الاعتقال في تُهم جديدة بعد البراءة أو انتهاء مدة الحبس الاحتياطي القانونية)، مثل محتجزي معسكر قوات الأمن المركزي بأسوان، الذين حصلوا على قرار بإخلاء السبيل وفوجئوا بقوات الأمن تقوم بنقلهم في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني من أسوان إلى التجمع الخامس بالقاهرة لمقرّ نيابة أمن الدولة العليا، للتحقيق معهم على ذمة القضية 2380/ 2021 حصر أمن دولة عليا، ثم نقلهم إلى سجن القناطر للرجال في رحلة دامت 72 ساعة، وذلك عقب يومَين فقط من نجاتهم من الموت بسبب السيول التي غمرت أسوان خلال نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
وفي شهرَي أكتوبر/ تشرين الأول ونوفمبر/ تشرين الثاني تمَّ رصد وفاة 10 محتجزين داخل مقارّ الاحتجاز المصرية، معظمهم نتيجة الإهمال الطبّي، على رأسهم البرلماني السابق حمدي حسن، الذي توفي داخل سجن العقرب سيّئ الصيت، نتيجة الحرمان من الرعاية الصحية لمدة 8 سنوات منذ احتجازه عام 2013.
وفي ختام تقريرها، شدّدت “كوميتي فور جستس” على أنه لا أثر يُذكر لبنود ومحاور تلك الاستراتيجية التي وصفتها بـ”الوهمية” على أرض الواقع؛ لافتة إلى أن استمرار الانتهاكات وتسييس القضاء وتفصيل القوانين لقمع الأصوات المعارضة مستمر وبلا هوادة، يبرهن ما أثاره البعض حين تمَّ الإعلان عن تلك الوثيقة بأنها كانت بروباغندا لا أكثر.
بروباغندا لمغازلة الخارج
الانتهاكات التي شهدتها الـ 100 يوم الماضية تثبت ما ذهبَ إليه “نون بوست” في تقرير سابق له، حين أشار إلى أن الإعلان عن تلك الوثيقة الجديدة لا يخلو من أهداف سياسية دعائية تخدم النظام وتسوِّق له وترسِّخ أركانه دوليًّا، لافتًا إلى أن هذا ديدن الرئيس المصري منذ توليه مقاليد الأمور.
دومًا ما يسعى السيسي لتصدير صورة وردية لذاته، فهو الرئيس الإصلاحي التقدمي، ناصر المرأة وداعم ذوي الاحتياجات الخاصة، والمؤيّد الأبرز للحريات الدينية وحامل لواء تجديد الخطاب الديني، والقامع لأي أفكار متطرفة من شأنها أن تعكّر صفو المجتمع المتناغم، وهو المداد الذي ينهل منه زعماء العالم الإصلاحيين، لا سيما في المنطقة العربية.
منذ الوهلة الأولى للإعلان عن تلك الوثيقة، ذهب حقوقيون إلى أن هذا التحرك يأتي في سياق “تسييس” الملف الحقوقي، حيث ربطوا بين توقيت الإعلان عنها ومناقشة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لمسألة حجب جزء من المعونة المقدَّمة لمصر، واشتراطها تحسين الوضع الحقوقي، لافتين إلى أن الرسالة هنا واضحة: التعهُّد بتقديم إصلاحات في هذا الملف كـ”عربون” تقارب مع الأمريكيين.
ورغم الخطوات الشكلية التي اتّخذها النظام لتحسين صورته الحقوقية، كإلغاء قانون الطوارئ والإفراج عن بعض المعتقلين، إلا أن الواقع يؤكد أن الوثيقة لم تقدِّم جديدًا يُذكر، بل على العكس من ذلك، فقد تزايدت وتيرة الاعتقالات والانتهاكات بمختلف أشكالها الاجتماعية والاقتصادية.
وبعد أكثر من 3 أشهر على إعلان الوثيقة، التي لم يكن لها أي صدى يُذكر ميدانيًّا، بات من الواضح أنها كانت مجرد بروباغندا إعلامية هدفها تجميل صورة النظام بالخارج، حيث ركزت على مخاطبة الحكومة الأمريكية وغيرها من المؤسسات الدولية، فيما بقيَ الوضع الداخلي في الإطار ذاته: مزيد من القمع، مزيد من الانتهاكات، مزيد من التنكيل.