أفلت حافظ الأسد عائلته على سوريا، فلم تسلَمْ بلدنا الموبوءة بتلك العائلة من أي فرد منها، فرضوا نفوذهم وجبروتهم في كل مؤسساتها وكياناتها، فنهبوا وسرقوا وأفسدوا واعتدوا، ولعلّ أبرز الوجوه التي عملت على جعل البلاد مزرعةً للعائلة هو جميل الأسد، شقيق حافظ، وبالطبع أبى جميل إلا أن يكون اسمه خالدًا في سِفر الفاسدين، حيث إن فساد الأسد الأخ كان له الأثر البالغ في تغيير وجه البلاد، بالإضافة إلى أنه عملَ على إقحام طائفته العلوية بمشاكله الشخصية.
كان بشار خليفة أبيه حافظ، إجرامًا وفسادًا واستبدادًا، وكذا فعلَ أولاد جميل، حيث كان فواز ومنذر وحيدر خلفاء للأسد الأخ، إذا اعتبروا سوريا ملكًا لعائلتهم ويحقّ لهم التصرُّف بها وبشعبها كما يحلو لهم، حتى إن طائفتهم ومدنهم لم تسلَمْ من بطشهم وفسادهم.
ويعدّ فواز “إمبراطور تهريب المخدرات والتبغ” فترة الثمانينيات في عهد حافظ، حيث بنى من خلال تلك التجارة ثروة ضخمة، فضلًا عن اتهامه بجرائم الاغتصاب والاعتداء والسطو، وهي التُّهم التي لم يمكن التأكد من صحّتها (إدانته بها أو تبرئته منها) لأنه من العائلة التي لا تُسأل عمّا تفعل.
بدايات
وُلِد جميل الأسد في بلدة القرداحة عام 1933 ونشأ فيها، وعند وصول أخيه حافظ الأسد إلى السلطة بدأ الأخ نشاطه بالعمل في أروقة الدولة ومؤسساتها، حيث حظيَ بعضوية مجلس الشعب ومن ثم أصبح عضوًا في المؤتمر القومي الـ 12 لحزب البعث العربي الاشتراكي، بعد ذلك انتقل إلى العمل في مجال الاستيراد والتصدير، ومن هنا بدأَ رحلة الفساد الكبرى.
أسّسَ جميل الأسد شركة تخليص جمركي، وفتح لها فروعًا على المنافذ الحدودية البرّية والبحرية في سوريا، ونصّب نفسه وصيًّا على التخليص الجمركي، فكانت تلك هي بوابته التي بدأ منها بناء إمبراطوريته، ولم تكن الثروة هي المبتغى الأساسي لجميل، إنما ليكون أيضًا رقمًا صعبًا في البلاد إلى جانب إخوته.
كان جميل الأسد ماهرًا بالتغطية على أعماله غير الشرعية بمشاريع تجارية لتبييض أمواله، وكل ذلك بتوجيهات من أخيه الرئيس الذي لم يكن يريد أن تفوح رائحة الفساد من العائلة إلى العلن، خاصة في فترة الثمانينيات التي شهدت أكبر مجازر القرن في مدينة حماة، حيث قُتل ما يقارب الـ 40 ألفًا على يد قوات حافظ الأسد بقيادة أخيه رفعت.
أنشأ جميل الأسد عام 1989 “شركة الساحل” للتخليص الجمركي، ومقرّها اللاذقية، ووضع هيثم شحادة مديرًا لها، ووضعه في مجلس الشعب لدورتَين متتاليتَين، ووفقًا لمواقع إعلامية سورية فإن جميل الأسد كان قد وضع هيثم كواجهة له بالإضافة إلى إهانته المتكرِّرة له، كل ذلك لم يمنع شحادة من الطاعة العمياء التي أوصلته إلى جني أموال طائلة من عمليات الفساد والسرقة بدعم من نفوذ جميل.
الهيمنة على المرافئ
هيمنَ جميل الأسد عبر شركته على مرفأ اللاذقية، وكان يفرض ضريبة على التجّار بنسبة 2.5% من الأرباح، وترجع تلك النسبة إلى أنه كان يعتبر نفسه بأنه يجمع أموال الزكاة، باعتباره “الإمام”، وهو ما سنأتي عليه لاحقًا في تقريرنا هذا.
أضف إلى ذلك أنه كان يجبر المخلصين الجمركيين على دفع مبالغ شهرية تصل إلى 50 ألف ليرة، وهو ما يعادل في تلك الفترة أكثر من 1000 دولار، بعد ذلك تحوّلَ الأمر إلى إلزام كل المخلصين الجمركيين بختم معاملاتهم عن طريق مكتبه حصرًا، مقابل دفع مبلغ 1500 ليرة سورية لكل معاملة، وتمكّن من منع السلطات في مرفأ اللاذقية من تمرير أية معاملة ليس عليها ختم “شركة الساحل” تحت طائلة الفصل من الوظيفة، وفي بداية التسعينيات امتدَّ عمل شركته إلى مرفأ طرطوس، وطبّق عليه ما يفعله في اللاذقية.
رغم السطوة الكبيرة لجميل الأسد، إلا أن أمرًا كان يؤرقه، ألّا وهو تدخُّل باسل ابن أخيه حافظ في مجال عمله، حيث عمل باسل على تقاسُم الأرباح، وبعد وفاة باسل توسّعت أعمال جميل حيث فتح مكاتب في المعابر التي تؤدي إلى تركيا، كمعبر باب الهوى وباب السلامة وغيرهما.
وتمدّدَ بعد ذلك إلى معبرَي التنف واليعربية مع العراق، ومعبر نصيب مع الأردن، ليحكم الطوق على كل المعابر الحدودية البرّية لسوريا مع تركيا والعراق والأردن، وأصبح شريكه بشار الأسد بعد وفاة أخيه.
الإمام المرتضى
“الإمام المرتضى” هو لقب أطلقه جميل الأسد على نفسه، باعتباره مؤسِّسًا لأول جمعية شيعية في سوريا عام 1981، لا بل أطلق على نفسه أيضًا لقب “قائد المسار” بموازاة اللقب الذي أطلقه أخوه حافظ على نفسه “قائد المسيرة”، ورغم أن جميل ليس شيعيًّا إنما ينحدرُ من الطائفة العلوية، إلا أن جمعيته التي سُمّيت “جمعية المرتضى” تعتبر الأولى من نوعها لنشر التشيُّع في سوريا.
عمدَ جميل الأسد إلى افتتاح فروع للجمعية في كافة أنحاء سوريا، كما حاولَ استمالة الناس، وركّز على القبائل في درعا والجزيرة ومناطق الأكراد في القامشلي، بالإضافة إلى نشاطه في مناطق العلويين.
وفي هذا الصدد يقول الباحث والكاتب السوري الدكتور عبد الرحمن الحاج في كتابه “البعث الشيعي في سوريا”: “على الرغم من أن أفكار الجمعية كانت منفرة للوسط السنّي إلا أنه انتسب للجمعية آلاف من المواطنين السوريين في المدن السورية وأريافها تحت وطأة الخوف من القمع الدموي الذي مورس ضد الإخوان المسلمين وتحت الإغراءات التي قدمتها الجمعية، فأعضاء الجمعية المهمون كانوا يُسلَّحون، وتقدَّم لهم سيارات الحماية من قبل سرايا الدفاع، الأمر الذي كان يشير إلى صلة أكيدة بين الجمعية ورفعت الأسد قائد السرايا”.
يروي الدكتور الحاج في كتابه أيضًا أن الهدف وراء تأسيس هذه الجمعية لم يكن دينيًّا صرفًا، ويدلِّل على ذلك أن جميل الأسد لم يكن ذلك الإنسان المتديِّن، لكنه أقل علمانية من أخوَيه حافظ ورفعت، ويشير الحاج إلى أن ميول الأسد الطائفية سمحت له بالتفكير بجمعية دينية تبسط له النفوذ السياسي تحت الغطاء الديني.
عملت “جمعية المرتضى” على إحياء الاحتفالات وإقامة الندوات والمهرجانات في عموم البلاد، كما أصدرت شهادات لمنتسبيها، واستطاع جميل من خلال جمعيته أن ينشئ شبكة واسعة من الأتباع والمؤيدين.
ويشير عبد الرحمن الحاج في كتابه إلى أن الأسد “حشد خلفه بالقوة والمال والسلطة الكثيرين، وطال تأثيره مناطق العلويين والمناطق الكردية، وبشيء من الدعم الذي حصل به من حزب العمال الكردي لاقت الجمعية إقبالًا في القامشلي والحسكة والقرى والبلدات الكردية، مثل بلدة عفرين وجنديرس التي افتتح فيهما مقرات لجمعيته، إذ روّج جميل الأسد وعودًا بالاهتمام بالشأن الكردي في سوريا وبتوزيع الأسلحة الفردية على أنصاره”.
يشير الحاج أيضًا أن جميل الأسد سرعان ما أقام علاقات مع الإيرانيين وحظيَ بدعمهم، لكن السلطات الرسمية في طهران نأت بنفسها عن دعم جميل، لأن حافظ الأسد كان يضبط حدود العلاقة مع إيران، ويقول الحاج إن “الإمام” كان “يحظى بدعم مالي ومعنوي من قبل المرجعيات الشيعية في العراق وإيران”، وفي السياق افتتح الأسد عشرات الحسينيات في اللاذقية وطرطوس.
كان حافظ الأسد يستفيد من هذه الجمعية على الصعيد الاستخباراتي، ومن أجل ذلك غضَّ الطرف عنها، لكن الخلاف بين حافظ ورفعت أثّر على الجمعية وأدّى إلى حلّها نهائيًّا، حيث أعلن جميل تأييده لرفعت في قيادة سوريا بدلًا من أخيه حافظ أثناء مرضه عام 1983، وحشد جميل بعضًا من أتباعه أمام قصر الضيافة للمطالبة بتنصيب رفعت الأسد رئيسًا للبلاد، لكن حافظ شُفي وبدأ بالانتقام، وكان نصيب جميل أن حُلَّت الجمعية واعتُقلَ عدد من أعضائها، وهنا انصرف جميل الأسد إلى العمل التجاري الذي استفاد فيه من نفوذه ونفوذ العائلة الحاكمة.
ظلَّ التواصل مفتوحًا بين جميل الأسد وبعض أعضاء الجمعية، وباتوا على عمل مشترك في التهريب والمخدرات والأمور الجمركية، فيما تكوّنت عصابات الشبيحة في بداياتها من أعضاء في أنشطة جميل الأسد.
وأتت تسمية “الشبيحة” من سيارات “المرسيدس الشبح”، التي كانت تسير في موكب جميل الأسد، ولا تقلُّ عن 6 سيارات حين يكون في الموكب، ولأن تلك السيارات كان لها أولوية العبور في كل الأوقات وكل الظروف، بلا حدود، فقد أمكنَ للناس مشاهدتها والتعرُّف إليها وإلى من فيها في مناطق عديدة كانت تمرُّ بها طبقًا لأنشطة جميل الأسد “الدعوية” و”التجارية”، أو أنشطة أتباعه الذين كانوا بلطجية بأسوأ ما تشير إليه الكلمة، تمامًا كمعلمهم… فسرى على ألسنة الناس تعبير “مرَّ الشبيحة”.
توفي جميل الأسد في 15 ديسمبر/ كانون الأول عام 2004 في فرنسا، وخلّفَ وراءه ثروة هائلة بمليارات الدولارات، وفجّرت هذه التركة المليارية الخلافات بين الوَرَثة، لكن الإرث الأكبر للأسد كان نهج الفساد والجريمة الذي ورّثه لأولاده وأحفاده، فساروا على طريقته تشبيحًا وقتلًا ونهبًا وسلبًا، ويظلُّ الشعب السوري على أمل أن يأتي اليوم الذي يرى فيه نهاية هذه العائلة المافيوية وخلاص سوريا منها.