بالتوازي مع الحراك السياسي الذي تقوم به القوى الكردية والشيعية قبل الدخول الفعلي في مفاوضات تشكيل الحكومة المقبلة، أخذت القوى السنّية هي الأخرى تنخرط في هذا الحراك، من أجل التوافق على أساسيات واضحة في المرحلة القادمة، وتحديدًا على مستوى تحالفَي عزم بزعامة خميس الخنجر وتقدم بزعامة محمد الحلبوسي، حيث شهدت الأيام القليلة الماضية تواتر الاجتماعات واللقاءات بين زعيمَي هذين التحالفين، بعد فترة قطيعة شهدتها الفترة التي سبقت الانتخابات المبكرة.
ممّا لا شكّ فيه أن هناك العديد من التحولات السياسية التي حصلت في المحيط الإقليمي للعراق، وتحديدًا على مستوى العلاقة بين بعض القوى الإقليمية والقوى السنّية، فكما هو معروف؛ يأتي التوافق السياسي في العراق بصورة أخرى كجزء من توازنات إقليمية وجدت إيقاعها في الداخل العراقي، وبالتالي فإن القوى السنّية حالها حال القوى الأخرى، وجدت نفسها تدور في فلك قوى إقليمية معيّنة لعبت دورًا مهمًّا في ضبط حراكها السياسي، خصوصًا في فترات تشكيل الحكومات الجديدة في العراق.
إن التقارب الأخير الذي شهدته العلاقة بين تحالفَي عزم وتقدم، جاء بعد دور تركي نشيط في تقريب وجهات النظر بين الطرفَين، حيث نجحَ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في جمع زعيمَي التحالفَين في أنقرة خلال الفترة الماضية.
كما أن إيران هي الأخرى نجحت في تمرير العديد من الرسائل لهذين التحالفين بعد بروز نتائج الانتخابات، بضرورة عدم الإخلال بالتوازنات الشيعية، وتحديدًا على مستوى العلاقة بين زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر وقوى الإطار التنسيقي الشيعي الرافض للانتخابات.
تقارب إقليمي
شهدت الأيام القليلة الماضية توافقات إقليمية مهمة، سهّلت بدورها من عملية التقارب بين تحالفَي عزم وتقدم، فالتقارب الإماراتي مع تركيا، والتفاعل النشيط بين قطر والسعودية، ساهما بشكل أو بآخر في إزالة العديد من العقبات في طريق توحيد المواقف السياسية بين التحالفَين، خصوصًا أن الإشكالية الرئيسية بينهما لا تتوقف على من سيحصل على رئاسة مجلس النواب، وإنما يتعلق الأمر أيضًا بمشروع الزعامة السنّية التي يطمح كل من الخنجر والحلبوسي حسمها لصالحه.
والأكثر من ذلك أن خارطة النفوذ السياسي لكل منهما، وتحديدًا في المدن المحرَّرة من سيطرة “داعش”، لم تعد واضحة بما يكفي، فكلا التحالفَين دخلا في حالة تخادم سياسي وزبائني مع الفصائل المسلحة المسيطرة على اقتصاديات وإدارات هذه المدن، وهو ما يطرح تساؤلًا مهمًّا حول نجاح فرص التوافق بين الطرفَين.
التوافق الإقليمي مهم لتحقيق حالة الاستقرار السياسي في الخارطة السنّية، فحالة الصراع على النفوذ في هذه الخارطة بين قوى إقليمية مهمة، جعلت القوى السنّية هي الأخرى جزءًا من هذا الصراع.
إن تقارب التحالفَين ليس من الضرورة بمكان، خصوصًا إذا لم يتحول من خانة الاستحقاق الانتخابي إلى مشروع سياسي على الأرض، ففي الوقت الذي نمرُّ به بالذكرى الرابعة لتحرير المدن السنّية من سيطرة “داعش”، ما زالت هذه المدن تعاني من تداعيات هذا التحرير على المستوى الاقتصادي والأمني والاجتماعي، كما أنها تعاني من غياب المشاريع السياسية التي تعيدها إلى وضعها الطبيعي، على مستوى الخدمات والتجارة وإعادة الإعمار والبيئة الاستثمارية والتنمية الصحية.
ضبط إيقاع
وإلى جانب ما تقدّم، ما زالت الهوية السياسية لهذه المدن بحاجة لمشروع سياسي يعيد وضعها بمكانها الصحيح، فمنذ عام 2003 شهدت هذه المدن أنماطًا مختلفة من المشاريع السياسية التي سيطرت عليها، من إسلامية إلى شعبوية إلى أيديولوجية، وهذا التعدُّد الهوياتي أصاب هذه المدن بحالة من فراغ القوة، وهو ما فشلت القوى السياسية السنّية في معالجته، لأنها عادة ما تنظر إلى هذه المدن كاستحقاق انتخابي وليس سياسيًّا.
إن التوافق الإقليمي هو الآخر مهم لتحقيق حالة الاستقرار السياسي في الخارطة السنّية، فحالة الصراع على النفوذ في هذه الخارطة بين قوى إقليمية مهمة، جعلت القوى السنّية هي الأخرى جزءًا من هذا الصراع، فكما تمارس إيران دورًا مهمًّا في ضبط إيقاع العلاقات الشيعية-الشيعية، فإن تركيا والسعودية والإمارات وقطر أيضًا تمارس دورًا في ضبط العلاقات السنّية-السنّية.
التأكيد المستمر من قبل القوى السنّية على أولويات المدن المحرَّرة، لم يعد يلقى ذلك القبول الكبير من قبل الشارع السنّي، إذ توجد اليوم أزمة ثقة ما بين هذا الشارع وهذه القوى
ومن ثم إن ترجمة التقارب الحالي بين تحالفَي عزم وتقدم على شكل مشروع سياسي يخدم قضايا المدن المحرَّرة من سيطرة “داعش”، مهم لإعادة تأكيد دور المجتمع السنّي في الخارطة السياسية العراقية، التي تشهد في الآونة الأخيرة استقطابًا سياسيًّا حادًّا.
إن التأكيد المستمر من قبل القوى السنّية على أولويات المدن المحرَّرة، لم يعد يلقى ذلك القبول الكبير من قبل الشارع السنّي، إذ توجد اليوم أزمة ثقة ما بين هذا الشارع وهذه القوى، كونها تعيد التأكيد على الأولويات ذاتها منذ عام 2018، لكنها لم تقدِّم الكثير في هذا الصدد.
فضلًا عن ذلك، لم تحقق هذه القوى تلك الاستقلالية الواضحة عن تفاعلات القوى الإقليمية في الداخل السنّي، حيث ما زالت هذه التفاعلات متحكّمة بنسق العلاقات في الداخل، إذ إن هناك تحولًا مهمًّا شهدته الخارطة السنّية منذ الأزمة الخليجية ومن ثم المصالحة الخليجية وأخيرًا التقارب الخليجي مع تركيا وإيران، وفي كل مرة تلقي هذه التفاعلات بظلالها على العلاقات في الداخل السنّي سلبًا أو إيجابًا.