قدم الرئيس التونسي قيس سعيّد في خطابه الأخير “خارطة” طريق مثيرة للجدل بعد 3 أيام فقط من ربط الدول السبع دعمها لتونس بسقف زمني للإجراءات الاستثنائية التي أقرها في 25 يوليو/تموز، على خلاف كلمته الأسبوع الماضي أمام مجلس الأمن القومي اللافتة للنظر، فلأوّل مرة تقريبًا تحدّثَ بلا تشنُّج ووعيد وتهديد، بل أكّد عشية حرق مقرّ حركة النهضة على ضرورة قبول الاختلاف في الرأي ومعاقبة كل من ينتهك القانون، وهي نبرة سرعان ما عصف بها ليعود مجددًا إلى التصعيد أكثر، وذلك بترحيل التدابير الاستثنائية عامًا آخر، ليزيد في توسعة رقعة المعارضين الذين اتّهمهم بالطامعين في المناصب، قافزًا على الجميع، بمن فيهم اتحاد الشغل وخياره الثالث للحوار.
قرارات استبقت موعدها
استبق قيس سعيّد بخطاب ليلة 13 ديسمبر/ كانون الأول موعد يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول، الذي يصادف ذكرى الثورة التونسية التي اندلعت عام 2011 ضد نظام ابن علي الدكتاتوري، حيث وضع حدًّا لبعض التسريبات والشائعات والتأويلات على حد سواء، في خصوص حل مجلس القضاء وبعض الأحزاب، وقدّم فيه “خارطة” طريق حول موعد الاستفتاء والانتخابات التشريعية المقبلة.
كما شدد على ألّا رجوع للبرلمان قبل تلك الانتخابات، أي مواصلًا في الإجراءات الاستثنائية نفسها مع فارق التسقيف الزمني بعيد الأمد لعام كامل، وبخريطة طريق مجهولة المعالم وإن حدّد لها محطات تاريخية، تبدو في حاجة إلى “حملات تفسيرية” أكثر ممّا بقيَ من مريديه.
هذه الضبابية في الطرح الذي عُرف بالقرارات السبعة، والتي تنزع نحو مزيد من التفرُّد بالقرار، سبقتها تسريبات وتأويلات حول نية الرئيس ليوم 17 ديسمبر/ كانون الأول، بعد حالة من التردد والاختلاف حصلت في محيط الرئيس، إزاء بعض البنود أو الخطوات العملية المنتظر الإعلان عنها، على رأسها موعد الاستفتاء العام حول النظام الرئاسي، وحلّ المجلس الأعلى للقضاء، وإدارة المرفق عبر المراسيم الرئاسية تمهيدًا لحلّ بعض الأحزاب والجمعيات على رأسها حركة النهضة وائتلاف الكرامة وقلب تونس، وبعض الجمعيات والمنظمات القريبة منها.
فحسب بعض التسريبات، يوجد من نصحَ الرئيس بالعدول عن المغامرة، التي ستزيد من حدّة المعارضة ضده وستدخله في حرب مفتوحة مع القضاة وهياكلهم، إلى جانب باقي مكونات المشهد السياسي والاجتماعي داخليًّا وخارجيًّا.
إلا أن جملة هذه القرارات قوبلت برفض كبير، لا سيما أنها كانت أحادية الجانب، ولم يستشر فيها الرئيس غير دوائره المقرَّبة، رغم انقسامهم إلى قسمَين كبيرَين، أحدهما يريد الذهاب بعيدًا بتطبيق برنامج سياسي سابق للرئيس يقوم على النظام المجالسي والديمقراطية المباشرة، وآخر يريد الخروج بالرئيس من المأزق الذي أوقع فيه نفسه، لا سيما على الصعيد الدولي بسبب حالة شبه العزلة التي تعيشها الدبلوماسية التونسية.
تأتي هذه التطورات والمخاوف المتزايدة في ظل دعوات للتظاهر والنزول إلى الشارع، لتحقيق غايات وأهداف سياسية من عدة أطراف وفرقاء في البلاد، على رأسهم أنصار الرئيس سعيّد الذين بدأوا عملية التجييش مبكّرًا، مستغلين عددًا من صفحات التواصل الاجتماعي، داعين لتطهير القضاء يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول، الذي يتزامن مع ذكرى اندلاع الثورة التونسية، إلى جانب مبادرة “مواطنون ضدّ الانقلاب” التي أعلنت هي الأخرى نية النزول إلى الشارع في اليوم نفسه للاحتجاج ضدّ الانقلاب.
هذا بالتزامن مع تمسُّك القضاة باستقلاليتهم، بإعلانهم حالة النفير العام وبقاء جلستهم العامة منعقدة تحسُّبًا لنوايا الرئيس سعيّد حلّ المجلس الأعلى للقضاء، استجابةً للمسيرات المزمع خروجها يوم 17 من الشهر الجاري، والتي سترفع شعارات “تطهير القضاء”، لا سيما بعد أن عبّرَ سعيّد في أكثر من مناسبة عن سخطه من أداء المؤسسة القضائية التي “تخاذلت” في النظر في جملة القضايا الخاصة بتمويل بعض القوائم الانتخابية.
انقسام في محيط الرئيس
قبيل أيام قليلة من موعد 17 ديسمبر/ كانون الأول، وما كان يُنتظَر فيه من قرارات للرئيس قيس سعيّد كان مبرمَج الإعلان عنها من مَهْد الثورة، ولاية سيدي بوزيد، تزايدت حدّة الخلاف بين قطبَين من محيط الرئيس سعيّد، ممثّلَين في مديرة ديوانه نادية عكاشة من جهة، ووزير داخليته توفيق شرف الدين المقرَّب من العائلة من جهة أخرى.
وقد خرجت هذه الحرب الصامتة منذ أشهر إلى العلن، عبر تحريك الطرفَين لبعض المدوِّنين ومشرفي صفحات التواصل الاجتماعي التابعين لهما، الذين فضحوا وكشفوا الكثير من المعطيات حول الطرفَين ونواياهما وشبكات علاقاتهما.
وممّا جرى تداوله أن مديرة الديوان الرئاسي كوّنت شبكة من المدوِّنين اشتغلت بهم على مدى الأشهر الماضية، وقد تسربت قبل أشهر مكالمة لها مع أحد المدوِّنين تحرّضه فيها على التشهير بأحد سفراء البلاد في الأمم المتحدة بغاية عزله من منصبه.
كما يروَّج حول شقّ وزير الداخلية قربه من لوبي “الساحل” الذي يتزعّمه رجل الأعمال المعروف بـ”حكومة الظل” كمال اللطيف، صاحب العلاقات الداخلية والخارجية المعقّدة والمتداخلة، والذي سبقَ اتِّهامه في السنوات الأولى من الثورة بتُهم تتعلق بالتآمر على أمن الدولة وغيرها، عدا عن أنه كان من الأصدقاء المقرَّبين من الرئيس الأسبق ابن علي.
لا شكّ أن تصدّعًا كهذا في محيط الرئيس قيس سعيّد، وما يرافقه من تجاذبات بين الطرفَين، سوف يكون له تأثير كبير على مستوى أداء الرئيس واتجاهات قراراته القادمة، التي بدت واضحة في خطابه الأخير في 13 ديسمبر/ كانون الجاري.
حيث من المعلوم أن توفيق شرف الدين، المقرَّب من عائلة الرئيس ورئيس حملته الانتخابية، هو من رواد مشروعه السياسي الذي يعمل سعيّد منذ 25 يوليو/ تموز الماضي على التمهيد له على أرض الواقع لغاية ترسيخه فعليًّا، والذي يقوم أساسًا على نظام مجالسي يخالف النظام السياسي القائم، وهو ما يلقى معارضة كبيرة من مكونات الشعب التونسي، وكذلك من شقّ مديرة ديوان الرئيس المعروفة بقوة علاقتها بفرنسا والجمعيات النسوية الفرنكوفونية التحررية.
تصعيد اتحاد الشغل والنهضة متواصل
في السياق ذاته، وبعد حادثة حريق مقرّ حركة النهضة، أعربَ المكتب التنفيذي لحركة النهضة عن استعداد الحركة للتصعيد بكل السبل السلمية المتاحة، من أجل الحفاظ على الدستور والديمقراطية، لا سيما بعد كلمة سابقة للرئيس سعيّد أمام بعض أساتذة القانون الدستوري، قال فيها إن دستور عام 2014 باتَ غير صالح ولا بدَّ من تغييره في السنوات القادمة، ما أثار استهجان أغلب القوى السياسية في البلاد.
هذا بالإضافة إلى تواصل انتقادات قادة اتحاد الشغل للرئيس سعيّد ونية جمع كل السلطات بيده، كما أعلن أمين عام المنظمة الشغلية الأكبر في البلاد قرب الإعلان عن تفاصيل مشروع “الخيار الثالث”، الذي يرونه بديلًا للوضع السياسي السائد في البلاد الذي يشوبه الغموض، إضافة إلى انسداد أفقه وانعدام فرص الحوار من أجل الوصول إلى حلٍّ وطني واضح، في ظلّ إصرار الرئيس سعيّد في عدة مناسبات على عدم الحوار مع خصومه ومعارضيه.
أما خارجيًّا، فكان بيان مجموعة السبع قبل يومَين حاسمًا في إصرار القوى الكبرى الخارجية على توضيح الرؤية السياسية في البلاد، كشرط أساسي لاستئناف الدعم المالي والاقتصادي، حيث طالبت المجموعة بتحديد سقف زمني واضح لعودة برلمان منتخَب ومؤسسات الدولة الديمقراطية عملها. هذا يعني أن المجموعة الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا، وهي الدول الخمس الأكثر حضورًا ونشاطًا في المشهد التونسي، قد حسمَت أمرها ولا يمكن بأي حال من الأحوال استئناف مساعداتها لتونس دون خارطة طريق واضحة.