هذا أوان المراجعات الجدّية. لقد فضحَنا الانقلابُ وكشفَ عوراتنا السياسية، ومن الشجاعة أن نخجل من المستقبل بعد أن كذبنا على التاريخ. تونس العبقرية قائدة الثورات العربية ونخبتها الخلّاقة ومجتمعها المدني الذي ليس له نظير في الدول.
هذه أكاذيب تونسية قد تنطلي على مواطن عربي يعيش بؤسًا فظيعًا ويرزحُ تحت الأحكام العسكرية، ولكنها لا تنطلي على شعوب مثقّفة ودول تسيّرها مؤسسات وازنة وتحتكم بالخصوص إلى دساتير ثابتة.
هذه الدول تنظر إلى تونس وتسمع خطاب إعلامها وحديث نخبها، وتعاين مناورات سياسييها فتسخرُ منها أو على الأقل لا تأخذها مأخذ الجدّ، لذلك لا تقيم لها وزنًا حقيقيًّا في ساحات الفعل، ولا بأس أن يُقرأ هذا الكلام كنوع من جلد الذات، فالحقيقة موجعة فعلًا.
السفير الفرنسي يحكمنا منذ قرنَين
لن أعود إلى تاريخ دولة البايات ودور القناصل، ستكون مقدمة طويلة جدًّا لفكرة بسيطة وواضحة وموجعة بقدر بساطتها. سأكتفي بالإشارة إلى دور السفير الآن وهنا.
يوم انتخبنا قيس سعيّد كنت أحد السعداء، فقد سقطت نظرية كنت أتبنّاها، وهي أن فرنسا هي من تختار رئيس تونس وتضعه في مكانه، وتحكم من خلاله، لذلك أسقطَت المنصف المرزوقي ووضعت الباجي قائد السبسي عام 2014، وكان قيس سعيّد هو نقيض الباجي ومنافسه القروي كان خيارًا فرنسيًّا. وفجأة انكشفت الخديعة، بل انكشف غباؤنا وقصر نظرنا وجهلنا المدقع.
كان قيس هو الخيار الفرنسي ولم يكن القروي إلا مافيوزي صغير لا يعوَّل عليه، وصحّت نظريتي المخجلة، حيث قام السفير الفرنسي بعمل جبّار، لقد اخترق الساحة في العمق وتحت أنظارنا وبتواطؤ كامل، واختار لها من يحكمها بموافقة كل الطيف السياسي الذي يفخر بزيارة السفارة الفرنسية في عيد 14 يوليو/ تموز من كل عام.
كيف لفرنسا أن تعامل بجدّية واحترام شعبًا يسهل خداعه بهذه البساطة؟ كيف لها أن تحترمه وأن تحترم مطالبه في الديمقراطية والتنمية؟ وكيف لبقية الدول التي تراقب سفاراتها الوضع الداخلي أن تحدّث حكوماتها عن شعب يفتقد الوعي والحنكة، ويفتقد بالخصوص الوازع الوطني والغيرة على بلده وتاريخه؟
كيف تنظر دول العالم إلى دولة يحكمها مثل قيس سعيّد وشعب يقبل بحكمه ويناور معه ويرجو منه خيرًا؟ إن حكم قيس سعيّد ليس إهانة لشعب تونس، بل هو الحقيقة الكاشفة لمقدار وعي ونباهة هذا الشعب الذي يكذب على نفسه مع قهوة الصباح، ويسوق عن نفسه صورة مشتهاة: “أيتها المرآة الكاذبة قولي لنا إننا الأجمل”.
لكنَّ سعيّد كسر المرآة الخادعة، وهذا المكسب الوحيد من حُكمه. لقد فضحنا. والسفير الفرنسي يجمع الفَيء. لقد كانت أول حركة قام بها السفير الفرنسي القائم الآن هي زيارة وزير التربية، ووضع جدول ساعات تدريس الفرنسية في التعليم الابتدائي، فيتعلم التلميذ التونسي العربي المسلم اللغة الفرنسية أكثر من اللغة العربية.
إيه وبعدين يا عم؟
ها قد وقفنا على الفضيحة التاريخية، فهل ننظّم انتحارًا جماعيًّا لتستريح في نظريتك عن انحطاط شعب غبي؟
لا يتعلق الأمر بمازوشية مثقفين فاشلين، بل هي دعوة للتواضع. عندما وقف البرلمان الأوروبي للرئيس المرزوقي وتأثر بخطابه حدّ البكاء، وعندما سارت جماهير مجهولة في وول ستريت تهتفُ بعربية عجماء: “الشعب يريد إسقاط وول ستريت”، لمعت لحظات مجد في تاريخ تونس المعلّمة.
لا يوجد شعب غبي جِبِلَّةً. كما لا يوجد شعب ذكي جِبِلَّةً. توجد مدرسة فاشلة بلا برنامج تعليم وطني، وهذه المدرسة هي من صنعَت هذه النخب الفاقدة للخيال السياسي.
لكن بعد أقل من سنة من ذلك انطفأت اللمعة ليُثبَت أنها لحظة شذوذ تاريخي تؤكد قاعدة بسيطة: هذا الشعب لم يعتد لحظات المجد ولم يتذوَّق طعم السيادة، لذلك حوّلَ المرزوقي إلى طُرطُور ولحظته إلى مسخرة، وهو مرتاح الآن لحكم قيس سعيّد الذي لا يحسن تأليف جملة سياسية تسوَّق للعالم. من فعل هذا بالشعب التونسي؟ وهل ولد شعبًا غبيًّا وميئوسًا من تطوُّره؟
من هنا يبدأ التواضع عبر عملية نقد ذاتي طويلة ومؤسسة، وفّرتها الثورة وزاغت عنها النخب التي لا تزال تدير المشهد بزهو الأغبياء.
لا يوجد شعب غبي جِبِلَّةً. كما لا يوجد شعب ذكي جِبِلَّةً. توجد مدرسة فاشلة بلا برنامج تعليم وطني، وهذه المدرسة هي من صنعت هذه النخب الفاقدة للخيال السياسي، وهي التي صنعت هذا الشعب الغريزي.
من هنا تكون البداية، إذا كان هناك من يريد ثورة ثقافية وسياسية تشدُّ الناس إلى لحظات مجد، وترتفع بهم عن المطلبية البهيمية التي استفرغت ثورتهم من كل مضمون ثوري، فهذه نقطة الانطلاق، ومن سيرمي جملة الاستقلال عن فرنسا وثقافتها وسفارتها المنفِّذة، سيحكم المستقبل بعد مسيرة مضنية لم تبدأ بعد.
سيقول البعض هنا إن الناس منكبّون الآن على إنهاء الوضع الانقلابي والعودة إلى الديمقراطية وحكم المؤسسات، والدعوة إلى إصلاح جذري تبدو هروبًا من الاستحقاق الآني والضروري. هذا الكلام صحيح، فهناك حاجة عاجلة لإنهاء الوضع الاستثنائي، لكن ما هو الوضع الذي سينشأ بعد إسقاط الانقلاب؟ هذا هو السؤال الشاغل الذي يتهرّب الجميع من طرحه ويتخفّى وراء محاربة الانقلاب الآني مهما طال.
ما هي الضمانات المتاحة لكي لا نعيد إنتاج وضع ما قبل الانقلاب؟ بكل عوائقه وخاصة بحرّية الحركة المتاحة للسفير الفرنسي، وهو يخطِّط مستقبل البلد ويأمر نخبه فتطيع. لم يتكلم أحد من معارضي الانقلاب عن دور السفارة في الانقلاب، ولا في ما قبله ولا ما يكون بعده (طبعًا لا ننتظر أن يتحدث في ذلك جماعة الانقلاب).
إننا نرى العكس تمامًا، فبيوت الزعماء السياسيين والقادة النقابيين مفتوحة لسعادة السفير، وهي ترجوه بإلحاح أن يساعد على حلّ المشكلة، ولا أحد يجرؤ على القول إن السفارة هي التي خلقت المشكلة. لنعُد إلى أصل المشكلة، فالانقلاب وإسقاط الانقلاب مسألة عارضة ولو دامت طويلًا.
البرمجية الفرنسية أصل المشكلة
تونس تتحرك ضمن برمجية “لوجيسيال” فرنسي صُنع في المدرسة التونسية، التي صارت فصلًا ملحقًا بمدرسة فرنسية فاشلة منذ عقود. هؤلاء القادة هم ثمرة هذه المدرسة، وخيالهم المحدود تشكّلَ هناك وباللغة الفرنسية. في الجامعة التونسية وباللغة الفرنسية تعلموا السياسة والعمل النقابي، والقانون الدستوري أيضًا. والنموذج المعبِّر بدقة عن هذه النخبة هو قيس سعيّد، ولا يختلف معارضوه عنه قيد أنملة.
إذًا هل نتوقف عن إسقاط الانقلاب ونتفرّغ لتغيير البرامج المدرسية لنخرج من البرمجية الفرنسية؟ إذا صيغ السؤال بهذه الطريقة فسيكون ساخرًا ومحقِّرًا لكل ما سبق قوله.
لذلك نرى أن الجهد المبذول الآن لإسقاط الانقلاب سيعيد إنتاج نفس الوضع السابق له، لأنه يتمُّ بيد الفاعلين أنفسهم الذين مهّدوا للانقلاب بل صنعوه بغباء منقطع النظير، وجلب لهم احتقار العالم من حولهم، ونعتقد أن العالم الديمقراطي ينظر إليهم بازدراء ويتركهم غارقين في ورطتهم، فهُم قوم لا يمكن الاعتماد عليهم وبناء شراكة سياسية معهم.
هل نستورد نخبة أجنبية لقيادة البلد؟ هذا أيضًا سؤال ساخر يفتقد الجدّية. لذلك سيستمر الانقلاب زمنًا أطول حتى يسقط من داخله، ومظاهرات يوم 17 من الشهر الجاري ضدّه لن تكون إلا هرجًا إضافيًّا لا يغيّر الوضع نحو الأفضل، وحتى في فرضية نجاحها فسنجد أنفسنا في وضع ما قبل 25 يوليو/ تموز، نكابد المعارك الاستئصالية نفسها التي تخطِّط لها السفارة الفرنسية، ففرنسا هي من أصدرت أمرًا بعدم حكم الإسلاميين لتونس، فقالت النخب: “حاضر سيّدي”، وساقت الشعب خلفها بكمّية أكاذيب لم يصدر مثلها عن شعب عبر التاريخ.
العالم المتحضِّر من حولنا يتابع، بل ربما يتسلى بما تفعله النخب التونسية بشعبها وببلدها وبتجربتها الديمقراطية، ولا يمنحها أي تقدير حقيقي، ولا نظن أنه يجهل خلفياتها لذلك لا نلتقط أية إشارة تدلُّ على الاحترام والتقدير أو الرغبة في المساعدة. العالم لا يحترم التونسيين.
الانقلاب ليس قوسًا في تجربة سياسية ديمقراطية سليمة، الانقلاب هو حقيقة النخبة التونسية التي تعلّمت السياسية في المدرسة التونسية، وهذا الجوهر باقٍ ولو اختفى قيس سعيّد من الصورة.
متى تخرج تونس من البرمجية الفرنسية؟ لن تخرج يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول، ولا شكّ عندي في أن التخريب الذي يمارسه الرئيس الآن سيسرِّع في وتيرة السير نحو دولة جديدة بمدرسة جديدة لجيل لم تمرَّ يد النخّاس الفرنسي على رأسه.
هل نعطيه وقتًا إضافيًّا للتخريب؟ يبدو لي ذلك أكثر فائدة من ترويج كذبة العبقرية الديمقراطية التونسية.