أُسدل الستار على القمة الخليجية الـ42 التي استضافتها السعودية، أمس 14 ديسمبر/ كانون الأول 2021، وسط تأكيدات من قادة مجلس التعاون الخليجي على ضرورة الوحدة في السياسات الخارجية، وتعزيز التعاون الاقتصادي، ورفض أي تدخلات في شؤون الدول الداخلية.
وجاء البيان الختامي الصادر عن القمة، التي عُقدت في قصر الدرعية بالرياض، محاولًا تصدير ملامح عودة الروح مرة أخرى للمجلس بعد سنوات من التشرذُم الذي مزّقَ الصف الخليجي، والعمل على استكمال مقومات الوحدة الاقتصادية والمنظومة الدفاعية والأمنية المشتركة، وتنسيق المواقف، بما يعزِّز التضامن واستقرار دول المجلس ويحافظ على مصالحها، وفق النصّ المكتوب.
وإن كان قد أُطلق على قمة “العلا” في يناير/ كانون الثاني الماضي بأنها قمة “رأب الصدع” الخليجي، في إشارة إلى المصالحة بعد 4 سنوات من القطيعة؛ فإن قمة الرياض الحالية يمكن أن تُسمّى بـ”قمة ترميم البيت الخليجي” الذي تعرّض لشروخ غائرة في جدرانه على مدار سنوات الأزمة.
حاول المجتمعون الخروج بنتائج إيجابية لتعزيز اللُّحمة الخليجية، وإيصال رسائل للداخل والخارج في ظلّ التحديات الإقليمية والدولية الراهنة، رغم التغيُّبات التي شهدتها القمة على مستوى زعماء الدول، حيث غاب العاهل السعودي والسلطان العُماني وأمير الكويت، بجانب الرئيس الإماراتي وولي عهد أبوظبي.
سياق و3 تحديات
تزامنت القمة المنتهية قبيل ساعات مع مرور 40 عامًا على مجلس التعاون الخليجي الذي أُنشئ في 25 مايو/ أيار 1981، تلك الولادة المتعثِّرة التي تصادفت مع اشتعال الساحة الدولية والشرق أوسطية بحروب وصراعات شكّلت خارطة المنطقة (الغزو السوفيتي لأفغانستان، والثورة الإيرانية، واندلاع الحرب العراقية الإيرانية)، والتي بدورها فرضت تحديات جِسام ومسؤوليات من نوع خاص على هذا التجمُّع الإقليمي.
كما جاءت القمة وسط تحديات جيوسياسية وعسكرية واقتصادية فرضت نفسها على الأجواء، أبرزها التغيُّر الواضح في الدور الأمريكي في الشرق الأوسط (والتوجُّه أكثر صوب آسيا)، والانسحاب التدريجي من الكثير من الملفات، تجسّدت بصورة أكبر مع الانسحاب الفوضوي من أفغانستان.
الصور الملتقَطة والابتسامات المتبادلة خلال انعقاد القمة وفي الكواليس، والزخم الإعلامي المصاحب لها، كانت تهدف إلى إيصال رسالة واحدة مفادها أن “الخليج كله على قلب رجل واحد في مواجهة كافة التحديات”، على عكس ما تردّدَ سابقًا.
هذا بجانب الحرب الاقتصادية الباردة بين أمريكا والصين، وهي الحرب التي ألقَت بظلالها على المشهد الخليجي الذي بات متأرجِحًا بين مصالحه السياسية والاقتصادية، ولعلّ من أبرز الصور الواضحة لتبعات هذا الصراع بين القوتَين، قرار واشنطن تأجيل تسليمها طائرات إف-35 للإمارات بسبب تنامي علاقاتها مع الصين، فضلًا عن الضغوط التي مارستها عليها لعرقلة بناء قاعدة صينية في ميناء خليفة.
أما المتغير الأبرز والأكثر تأثيرًا على الساحة، والذي هيمنَ على جدول الأعمال، فهو التحدي المرتبط بتعثُّر المفاوضات الخاصة بالبرنامج النووي الإيراني، تلك المفاوضات التي تمرُّ بمنعطف خطير في ظل تعنُّت طهران وإصرار واشنطن، الأمر الذي ربما يقود إلى مواجهات عسكرية تشعلُ المنطقة برمّتها.
ترميم الصورة
تلقّى مجلس التعاون الخليجي منذ عام 2017 وحتى بداية هذا العام عشرات الضربات الموجعة، التي أثّرت في تماسُكه وقوته ومن ثم ثقله الإقليمي، في ظل تبايُن الأجندات وصراع النفوذ بين بعض العواصم، وهو ما كان له صداه على المستوى الدولي، حيث تصاعدت وتيرة الانتقادات الموجَّهة للسياسات السعودية والإماراتية تحديدًا، كونهما المسؤولَين الأبرز عمّا وصلت إليه الأوضاع من تردٍّ أسالَ لُعابَ القوى الدولية لحلب أموال الخليج وتفريغ خزائن دوله.
وعليه حاول ولي العهد السعودي قدر الإمكان تصدير صورة وردية عن قوة المجلس وتماسُكه، وترميم البيت الخليجي المشوَّه خلال السنوات الماضية، إذ أولى تلك القمة أهمية لم يولِها لسابقاتها، حيث قام بجولة تمهيدية -على عكس المتعارَف عليه- لتوحيد الآراء والتنسيق بين زعماء دول الخليج.
البيان الختامي الصادر عن القمة، والذي تلاه أمين مجلس التعاون الخليجي، نايف فلاح الحجرف، ركّز في ديباجته وبنوده على أهمية اللُّحمة وتوحيد الصف، مستعينًا بالمادة الثانية من اتفاقية الدفاع المشترَك، بأن الدول الأعضاء في مجلس التعاون لدول الخليج العربية تعتبر أي اعتداء على أي منها هو اعتداء عليها كلها، وأي خطر يتهدد إحداها يتهددها جميعها.
الصور الملتقَطة والابتسامات المتبادلة خلال انعقاد القمة وفي الكواليس، والزخم الإعلامي المصاحب لها، كانت تهدف إلى إيصال رسالة واحدة مفادها أن “الخليج كله على قلب رجل واحد في مواجهة كافة التحديات”، على عكس ما تردّدَ سابقًا، وهي الرسالة التي حرص ولي العهد السعودي أن يؤكد عليها بنفسه قبل البيان الختامي، لتجسيد الدور الكبير للمملكة وقيادتها في تحقيق المصالح العليا وصون أمن دول الخليج، بعد سحب البساط من تحت أقدام الرياض خلال الآونة الأخيرة.
الحجرف، وأثناء إلقائه البيان، أكّد على تجديد القمة “ما نصت عليه الاتفاقية بشأن التزام الدول الأعضاء بالعمل الجماعي لمواجهة كافة التهديدات والتحديات”، منوِّهًا أن أمن دول المجلس كلٌّ لا يتجزّأ، معتبرًا الأمن الداخلي الخليجي منظومة مترابطة لمواجهة كل التحديات، وهي الرسالة الرمزية الموجَّهة لإيران في المقام الأول.
وفي سياق تجميل الصورة، أكّدت القمة على دعم حقوق مصر والسودان في مياه النيل، وهي الخطوة التي تحاول بها دول الخليج ترميم الصورة المشوَّهة لدى الشارع المصري والسوداني بخصوص دعم بعض العواصم الخليجية (الإمارات تحديدًا) لحكومة آبي أحمد، وتدشينها لحاضنة سياسية واقتصادية له في أزمته الأخيرة مع التيغراي، بما يؤثر بالطبع على مصالح البلدَين في مسار مفاوضات سدّ النهضة.
إيران.. عامل التوحُّد والانقسام معًا
هدفت القمة في المقام الأول إلى بناء موقف موحَّد إزاء إيران، لا سيما في ظل التعثُّر في مسار مفاوضات الاتفاق النووي، بجانب التصعيد المستمر من الحوثيين في اليمن، وهو الهدف الذي لأجله قام ولي العهد السعودي بجولته الخليجية للبحث عن تفاهمات مسبقة يتمُّ الإعلان عنها رسميًّا على هامش القمة.
ويُعتبَر الملف الإيراني العقبة الأبرز على جدول أعمال القمة وما سبقها وما سيليها من مباحثات واتصالات بين أعضاء المجلس، لما يتضمّنه من تعقيد يصعب معه تبنّي موقف واحد، في ظل تبايُن درجة التوتر بين إيران وكل دولة خليجية على حدة.
فبينما تبلغ العلاقات بين الرياض وطهران شدة التوتر، تتّسم العلاقات مع أبوظبي بتقاربية شديدة لا سيما في الآونة الأخيرة، مقابل تفاهم وتنسيق مع مسقط، وعلاقات شبه هادئة مع الكويت، وتعاون اقتصادي مع الدوحة التي تتشارك أكبر حقل غاز في العالم مع إيران.
برزت الدبلوماسية الاقتصادية مؤخرًا كواحدة من أكثر الأسلحة المستخدَمة عوضًا عن التباينات السياسية، لا سيما في ظل التحديات الاقتصادية التي فرضتها جائحة كورونا، والتي دفعت الكثير من الدول لإعادة تموضعها السياسي
وتسعى السعودية لحجز موطئ قدم لها على منصة مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني، وذلك من خلال الضغط المستمر على الغرب عبر سلاح المخاوف المتصاعدة من برنامج إيران الصاروخي، وهو الهدف الذي سعت له قديمًا إبّان فترة حكم إدارة باراك أوباما التي تجاهلت هذا الطلب عند تفاوضها بشأن الملف النووي.
لا شكّ أن التقارب الإماراتي الإيراني يقلق السعوديين، كونه يجهض مساعي الضغط ويفقدها تأثيرها، وإن لم يتمَّ الإعلان عن ذلك رسميًّا (ولعلّ ذلك أحد أسباب توتر العلاقات بينهما مؤخرًا)، هذا في الوقت الذي يرى فيه مراقبون أن هذا التقارب ربما يصبُّ في صالح المساعي السعودية الإيرانية للتقريب بينهما عبر وساطة إماراتية أو حتى عراقية، وهو ما يبرهنُ عليه الخطاب الدبلوماسي المستخدَم بين البلدَين خلال الآونة الأخيرة.
الدبلوماسية الاقتصادية
برزت الدبلوماسية الاقتصادية مؤخرًا كواحدة من أكثر الأسلحة المستخدَمة عوضًا عن التباينات السياسية، لا سيما في ظل التحديات الاقتصادية التي فرضتها جائحة كورونا، والتي دفعت الكثير من الدول لإعادة تموضعها السياسي بما يحافظ على مصالحها الاقتصادية في هذه الظرفية الحرجة، وهو ما يمكن قراءته في جولة ابن سلمان الخليجية وحزمة المشاريع المدشَّنة مع عُمان على سبيل المثال.
يحاول المشاركون في القمة من قادة دول المجلس تجاوز الخلافات السياسية فيما بينهم عبر تعزيز التعاون الاقتصادي، وتفعيل بنود الشراكة، بما يضمن لُحمة البيت الخليجي، كمرحلة أولية لتفاهمات سياسية مستقبلية، لا سيما أنه وبحسب الخبراء والمحللين سيكون للاقتصاد الكلمة الفصل في تشكيل التموضعات السياسية وخارطة التوجُّهات والتحالفات الإقليمية والدولية، وهو ما يمكن استكشافه من خلال الكيانات الإقليمية التي تمَّ تدشينها مؤخرًا بين عدد من القوى على أساسٍ اقتصادي بحت.
وقد استحوذَ الملف الاقتصادي على نسبة كبيرة من فعاليات تلك القمة، وهو ما ترجمه البيان الختامي الخاص باجتماع اللجنة الوزارية لدول المجلس، الذي شمل نحو 30 بندًا تتعلق بآليات تعزيز التعاون الاقتصادي، وتعظيم الاستثمارات المشتركة والمبادلات التجارية بين دول مجلس التعاون.
فيما أكّد بيان القمة على “أهمية متابعة الرؤى الاقتصادية وفرص الاستثمار بين دول المجلس، ومواصلة العمل على تحقيق الوحدة الاقتصادية الخليجية”، كما اتّفقَ القادة الخليجيون على “أهمية متابعة إنجاز أهداف الرؤى الاقتصادية لدول مجلس التعاون لتحقيق التنوع الاقتصادي وتعظيم الاستفادة من الإمكانيات الاقتصادية”.
وكعادة القمم السابقة، لم تراوح قمة الرياض مكانها، لا من حيث المخرجات ولا الملفات التي تطرّقت إليها، مكتفيةً بحزمة من الرسائل السياسية المراد توصيلها للداخل الخليجي والخارج الغربي والعربي على حد سواء، عنوانها الأبرز أن كل شيء على ما يرام حتى إن كان الدخان ما زال يتسلّل من النيران الخامدة تحت الرماد.