ترجمة وتحرير: نون بوست
بعد منتصف ليلة 8 حزيران/ يونيو بقليل، عبرت طائرات حربية إسرائيلية المجال الجوي للحدود الشمالية للبلاد لشن غارة جوية استثنائية للغاية في عمق الأراضي السورية، حيث أطلقت صواريخ على ثلاثة أهداف عسكرية بالقرب من مدينتي دمشق وحمص، ما أسفر عن مقتل سبعة جنود بينهم مهندس برتبة عقيد كان يعمل في مختبر عسكري سوري سري للغاية.
امتنعت القوات الإسرائيلية كعادتها عن التعليق على التوغل في المجال الجوي السوري. لكن سرعان ما لاحظ محللو المخابرات الغربية اختلافا في هذه العملية، ذلك أن الهجمات الإسرائيلية السابقة في سوريا كانت تستهدف دائمًا القوات الإيرانية المتمركزة هناك وشحنات الأسلحة، في حين أن غارة 8 حزيران/ يونيو استهدفت منشآت عسكرية سورية لها صلة ببرنامج الأسلحة الكيميائية السابق للبلاد.
ووفقا لمسؤولين حاليين وسابقين في المخابرات، فإن غارة 8 حزيران/ يونيو كانت جزءًا من حملة لوقف ما يعتقد المسؤولون الإسرائيليون أنه محاولة ناشئة من قبل النظام السوري لاستئناف إنتاج الغازات الكيميائية القاتلة.
أفادت وسائل إعلام سورية رسمية أن الطائرات الإسرائيلية قصفت في 8 حزيران/ يونيو 2021 أهدافًا قرب العاصمة دمشق ووسط مدينة حمص
أمر المسؤولون الإسرائيليون بشن هذه الغارة، وغارة أخرى مماثلة السنة الماضية، بناءً على معلومات استخبارية تشير إلى أن الحكومة السورية تحصل على المواد الكيميائية الأولية والإمدادات الأخرى اللازمة لإعادة بناء صناعة الأسلحة الكيميائية التي تخلت عنها ظاهريًا قبل ثماني سنوات، وذلك وفقا لأربعة مسؤولين سابقين في المخابرات الأمريكية والغربية لديهم إمكانية الوصول إلى معلومات استخبارية حساسة وقت الهجمات طلبوا عدم الكشف عن هويتهم.
أفاد المسؤولون بأن الهجمات عكست المخاوف التي أُثيرت داخل المخابرات الإسرائيلية منذ سنتين، بعد محاولة ناجحة من قبل الجيش السوري استيراد مادة كيميائية رئيسية يمكن استخدامها في صنع غاز أعصاب السارين القاتل. وقال المسؤولون إن المخاوف تنامت عندما اكتشف عملاء المخابرات نشاطا في مواقع متعددة يشير إلى جهود لإعادة البناء هذه الصناعة.
وعند طلب التعليق، لم يؤكد المسؤولون الإسرائيليون الهجمات ولم يوضحوا أسبابها، في حين أدانتها سوريا بشدة ونفت مرارا استخدام أو صنع أسلحة كيميائية منذ سنة 2013.
في خطاب أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في تشرين الأول/ أكتوبر، قال سفير سوريا لدى الأمم المتحدة بسام صباغ إن سوريا “تدين وترفض بشكل قاطع أي استخدام للأسلحة الكيميائية تحت أي ظرف من الظروف”.
تعتبِر “إسرائيل” إعادة تشكيل برنامج الأسلحة الكيميائية في سوريا تهديدًا مباشرًا لأمنها، لا سيما أن الأسلحة الكيميائية التي استخدمها بشار الأسد ضد مواطنيه عشرات المرات منذ بداية الحرب في البلاد كانت جزءا من الترسانة الكيميائية السورية واسعة النطاق التي كانت مخصصة لأي حرب مستقبلية محتملة مع “إسرائيل”.
ويرى مسؤول استخباراتي غربي أنه “سلاح استراتيجي بالنسبة للنظام السوري”، وذلك وفقًا لمجموعة من المعلومات حصل عليها من وكالات التجسس التي تراقب عن كثب جهود صناعة الأسلحة الكيميائية في سوريا.
إعادة بناء صناعة الأسلحة الكيمائية
قال المسؤولون إن أولى الغارتين الإسرائيليتين وقعت في 5 آذار/ مارس 2020، واستهدفت فيلا ومجمعًا في ضاحية تقع جنوب شرق مدينة حمص على بعد حوالي 100 ميل شمال دمشق.
وتجدر الإشارة إلى أن حمص، ثالث أكبر مدينة في سوريا، كانت مركزًا سابقًا لإنتاج الأسلحة الكيميائية في سوريا. وحسب ما أوضحه مسؤولان استخباراتيان غربيان فإن الهجوم الذي استهدف الفيلا كان له علاقة مباشرة بشراء سوريا كمية كبيرة من فوسفات ثلاثي الكالسيوم السنة الماضية.
إن هذه المادة الكيميائية، المعروفة باسم “تي سي بي”، لها العديد من الاستخدامات غير العسكرية – على غرار اعتمادها كمُضاف غذائي – ولكن يمكن تحويلها بسهولة إلى ثلاثي كلوريد الفوسفور، وهو مركب عليه رقابة شديدة ويُحظر استيراده إلى سوريا بسبب استخدامه المعروف كمُحضّر لغاز السارين وباقي غازات الأعصاب.
وحسب هؤلاء المسؤولين فإن المتلقي النهائي لمادة “تي سي بي” وحدة عسكرية سورية تعرف باسم “الفرع 450″، إحدى أكبر الوحدات في المختبرات العسكرية السورية، التي يشرف عليها مركز الدراسات والبحوث العلمية. وقد أشرف مركز الدراسات والبحوث العلمية على إنتاج الأسلحة الكيميائية السورية منذ ثمانينيات القرن الماضي حتى سنة 2014 على الأقل، عندما حُلّ البرنامج رسميًا بموجب اتفاق توسّطت فيه الولايات المتحدة وروسيا.
أضاف المسؤولان الغربيّان أن تقصيات المخابرات في الأشهر التي أعقبت هجوم آذار/ مارس 2020 أدت إلى اكتشاف مواقع إضافية يعتقد الإسرائيليون أنها تعكس جهدا مستمرا لإعادة بناء قدرات الأسلحة الكيميائية السورية. وقال أحد المسؤولين: “كان هناك المزيد من المؤشرات على عودتهم إلى الإنتاج”.
كبار المسؤولين في إدارتي ترامب وبايدن علموا بشأن الهجمات والمعلومات الاستخباراتية الأساسية بعد وقت قصير من حدوث الغارات الجوية
استهدفت غارة 8 حزيران/ يونيو مخازن عسكرية قرب الناصرية (وهي قرية صحراوية شمال دمشق) بالإضافة إلى موقعين بالقرب من حمص، وُصف أحدهما بأنه تابع للمختبر العسكري الذي يشرف عليه مركز الدراسات والبحوث العلمية في مصياف على بعد حوالي 40 ميلاً شمال غرب حمص.
أبلغت تقارير إخبارية سورية عن وقوع سبع ضحايا عسكريين على إثر تلك الضربة، بينهم عقيد سوري – تمت ترقيته بعد وفاته إلى عميد – عُرف باسم “الشهيد البطل” أيهم إسماعيل. وقيل إنه يعمل كمهندس عسكري في مجمع مصياف.
من غير الواضح ما إذا كانت الهجمات قد نجحت بالكامل في تعطيل خطط سوريا. وقال المسؤولان الاستخباريان الغربيان إن المسؤولين الإسرائيليين كانوا يريدون أن تكون الغارات الجوية استباقية بهدف تعطيل قُدرات سوريا الإنتاجية قبل أن يتسنى لها صنع أسلحة فعلية. وفي الوقع، أيّ محاولة لتفجير مخزون حالي من غازات الأعصاب يمكن أن تطلق العنان لأعمدة من الغازات القاتلة التي يمكن أن تنتشر في المدن والقرى المجاورة.
ذكر مسؤولون حاليون وسابقون إن كبار المسؤولين في إدارتي ترامب وبايدن علموا بشأن الهجمات والمعلومات الاستخباراتية الأساسية بعد وقت قصير من حدوث الغارات الجوية.
ولطالما اشتبه مسؤولو المخابرات الأمريكية في أن سوريا تحتفظ بالعناصر الرئيسية لقدراتها في مجال صناعة الأسلحة الكيميائية، هذا إن لم تكن تعمل على إعادة بنائها. وفي سنة 2019، اتهم مسؤولو وزارة الخارجية سوريا علنًا بمواصلة برنامجها في كنف السريّة، مستشهدين بهجوم غاز الكلور ضد مقاتلي المعارضة الذي جدّ في تلك السنة.
وقد أوشكت الإدارة الأمريكية على الانتهاء من مراجعة شاملة للسياسة السورية، التي من المتوقع أن تُفضي إلى معاقبة الأسد على الانتهاكات السابقة والحالية لالتزامات سوريا بموجب اتفاقية الأسلحة الكيميائية.
حيال هذا الشأن، نقل السفير جيمس جيفري، الدبلوماسي الأمريكي المخضرم الذي أشرف على المحادثات الدبلوماسية مع سوريا خلال السنتين الأخيرتين من إدارة ترامب، أن “الإدارة صرّحت بأنها ستحاسب الأسد على أفعاله. ويشمل ذلك بالتأكيد الأدلة التي قدمها وزير الخارجية مايك بومبيو آنذاك ومسؤولين آخرين.. على أن الأسد يحاول إعادة بناء صناعة الأسلحة الكيميائية”.
سبق لجماعات حقوق الإنسان والمحققين المستقلين أن اتهموا نظام الأسد بالحفاظ على مخزون خفي من الأسلحة الكيميائية لمهاجمة المدنيين بالغازات السامة.
وحسب ستيف كوستاس، محامي “مبادرة عدالة” لمؤسسة المجتمع المفتوح، وهي منظمة غير ربحية تسعى إلى مقاضاة المتورّطين في الهجمات الكيميائية: “لا يزال لدى سوريا مخزون من الأسلحة الكيميائية، وتحتفظ اليوم بالقدرة على إنتاجها للأسلحة الكيميائية، ولديها القدرة على شن هجمات بهذه الأسلحة على المدنيين”. واستشهد كوستاس بـ “القدرة الإنتاجية غير المعلنة لسوريا” والجهود المتكررة لعرقلة بعثات تقصي الحقائق التي تقوم بها منظمة حظر الأسلحة الكيمائية، وهي هيئة رقابة دولية تقع في لاهاي تقوم بالتحقيق في الهجمات الكيميائية.
إثر اندلاع الحرب الأهلية في سوريا سنة 2011، سيطرت دمشق على واحد من أكبر مخزونات الأسلحة الكيميائية وأكثرها تقدمًا في العالم، بما في ذلك مئات الأطنان من غاز السارين وغاز الأعصاب (في إكس)، اللذان يعتبران من أكثر الأسلحة الكيميائية فتكًا على الإطلاق.
أعادت الحكومة السورية توظيف ترسانتها الكيميائية لاستخدامها في الهجمات ضد قوات المعارضة، وقد صدم الأسد العالم في آب/ أغسطس 2013 بهجوم واسع النطاق بغاز السارين أسفر عن مقتل حوالي 1400 مدني – معظمهم من النساء والأطفال – في ضواحي دمشق. وحين قام الرئيس باراك أوباما بتهديده بضربة عسكرية، وافق الأسد على التخلي عن الأسلحة الكيميائية والسماح للمفتشين الدوليين بالإشراف على تدمير مخزونه من هذه الأسلحة بالكامل، إلى جانب جميع مراكز الإنتاج ومعدات التصنيع.
في عملية دولية غير مسبوقة، نُقلت حوالي 1300 طن من الغازات الكيميائية من سوريا لتدميرها في محارق على متن سفينة أمريكية معدة خصيصًا لهذا الغرض في البحر الأبيض المتوسط.
توصل مسؤولو المخابرات الأمريكية في وقت لاحق إلى أن الأسد احتفظ أيضًا بجزء صغير من مخزونه من غاز السارين واستخدم بعضًا منه في مناسبتين على الأقل
مع ذلك، استمر الأسد في استخدام الأسلحة الكيميائية – بشكل رئيسي غاز الكلور الكيميائي الصناعي الشائع، وهو بديل خام لغازات الأعصاب الفتاكة – في أكثر من 200 هجوم استهدف معاقل المتمردين. ولم تتوقف الهجمات رغم تحذيرات إدارة أوباما وحتى بعد الغارتين الجويتين اللتان استهدفتا منشآت عسكرية سورية بأمر من الرئيس دونالد ترامب.
توصل مسؤولو المخابرات الأمريكية في وقت لاحق إلى أن الأسد احتفظ أيضًا بجزء صغير من مخزونه من غاز السارين واستخدم بعضًا منه في مناسبتين على الأقل بعد سنة 2017. ومنذ سنة 2018، وردت العديد من التقارير عن جهود سورية مزعومة لصنع أسلحة كيمائية جديدة لكن دون تقديم أدلة.
من جهتهم، لاحظ خبراء الأسلحة أن الادعاءات المتعلقة بالبرامج البيولوجية والكيميائية السرية غالبًا ما تكون غير دقيقة، وهو ما اكتشفته وكالات المخابرات الأمريكية بعد الغزو الأمريكي للعراق في سنة 2003. ويعتقد جريج كوبلنتز، الأستاذ المشارك وخبير الدفاع البيولوجي في كلية شار للسياسة والحكومة بجامعة جورج ميسون، أن الجهود التي تبذلها سوريا للحصول على مادة “تي سي بي” الكيميائية ذات الاستخدام المزدوج لا تعتبر في حد ذاتها دليلًا.
وقال كوبلنتز إن “شراء النظام السوري لهذه المادة الكيميائية، حتى من خلال قنوات السوق السوداء، لا يشير إلى أنه ينوي استخدامها لغرض شنيع”. ولكن في حالة سوريا – على حد تعبيره – يبدو أن الادعاءات أكثر مصداقية بسبب سجل نظام الأسد مع انتهاك التزاماته تجاه المعاهدات الدولية. وأضاف كوبلنتز أن “سوريا تخفي المكونات الرئيسية لبرنامج أسلحتها الكيميائية منذ توقيعها على اتفاقية الأسلحة الكيميائية في سنة 2013”.
في البداية، ربما يكون الأسد قد قرر الحفاظ على أفضل أسلحته كنوع من الضمان ضد انهيار النظام. ولكن الآن بعد أن استعاد السيطرة على معظم الأراضي، يعتقد كوبلنتز أنه “من المنطقي أن يرغب نظام الأسد في إعادة بناء برنامج الأسلحة الكيميائية باعتباره رادعًا استراتيجيًا ضد خصمه القديم إسرائيل”.
المصدر: واشنطن بوست