دعا عدد من أعضاء الكونغرس الأمريكي، في رسالة مشتركة (حملت توقيع رئيس اللجنة المالية بمجلس الشيوخ السيناتور رون وايدن، ورئيس لجنة الاستخبارات بمجلس النواب النائب آدم شيف، و16 عضوًا آخر من الديمقراطيين)، إلى فرض عقوبات على كبار المديرين في “إن إس أو” (NSO) -مصمِّمة برنامج “بيغاسوس” الشهير- و”دارك ماتر” (DarkMatter) الإماراتية للأمن الإلكتروني، وشركتَي “نكسا” (Nexa) و”تروفيكور” (Trovicor) الأوروبيتَين لتقنيات المراقبة.
استند المشرّعون في دعوتهم إلى اتهام تلك الشركات بإعانة أنظمة “استبدادية” على ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان، وطالبوا وزارتَي الخارجية والخزانة الأمريكيتَين بفرض إجراءات بموجب قانون ماغنيتسكي، الذي يعاقب الجهات المتَّهمة بالإعانة على انتهاك حقوق الإنسان، عبر تجميد الحسابات المصرفية ومنع السفر إلى الولايات المتحدة.
واستشهد الموقّعون على الرسالة بعدد من التقارير الصحفية والاستخباراتية الأخيرة التي كشفت استخدام برمجيات “إن إس أو” التجسُّسية ضد موظفين بالخارجية الأمريكية، مشدِّدين على ضرورة تطبيق الحكومة لعقوبات مالية رادعة، بحقّ تلك الشركات التي اتهموها بـ”إخفاء وتعذيب وقتل ناشطين حقوقيين وصحفيين”.
يُذكر أنه هذه ليست المرة الأولى التي تواجه فيها “إسرائيل” والإمارات اتهامات بتصدير برامج للتجسُّس، سواء لأنشطة محدودة النطاق لكيانات بعينها بغرض التجسُّس على أشخاص ذات صفات اعتبارية، أو لتزويد حكومات ديكتاتورية بها لاستهداف معارضيها، كان آخرها الضغوط التي تعرّضت لها تل أبيب منذ يوليو/ تموز الماضي، بعد فضيحة الكشف عن استخدام برنامج “بيغاسوس” الذي تنتجه شركة “إن إس أو” لاختراق هواتف صحفيين ومسؤولين حكوميين وناشطين حقوقيين في كثير من الدول.
القائمة السوداء
بعد سنوات من حرية العمل ورفاهية التنقل وجني الأرباح الطائلة من وراء بيع برامج التجسُّس، أدرجَت وزارة التجارة الأمريكية، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، شركة “إن إس أو” الإسرائيلية ضمن القائمة السوداء للشركات المحظورة، باعتبارها تشكّل تهديدًا للأمن القومي، وذلك بعد تطوير برنامج “بيغاسوس” المثير للجدل، في خطوة اعتبرها البعض مفاجئة في ضوء العلاقات الحميمية بين أمريكا و”إسرائيل”.
شمل قرار الحظر حينها عددًا من الشركات الأخرى بجانب الشركة الإسرائيلية، مثل شركتَي “بوزيتيف تكنولوجيز” الروسية و”استشارات مبادرة أمن الكمبيوتر” في سنغافورة، وقالت واشنطن إن هذه الشركات تاجرَت بالأدوات الإلكترونية المُستخدَمة في الدخول غير المصرَّح به لشبكات الحاسوب.
عبّرت الشركة الإسرائيلية حينها عن استيائها من هذا القرار الذي يعدّ الأول من نوعه الذي تستهدف فيه الحكومة الأميركية شركات الإنترنت الإسرائيلية، التي تحصل على تراخيص تصدرها وزارة الدفاع الإسرائيلية، مدّعية أن برامجها التجسُّسية تدعم مصالح وسياسات الأمن القومي الأميركي عبر منع الإرهاب والجريمة.
على مدار الأعوام الثلاث الماضية تحديدًا، شهدَ التعاون الاستخباراتي السيبراني بين الإمارات و”إسرائيل” آفاقًا رحبة من التوسع والتمدد، وهو التعاون الذي يتناغم مع أجندة البلدَين التوسُّعية.
اُعتبِرَ هذا التصنيف وقتها جزءًا من جهود الرئيس جو بايدن “لوقف انتشار الأدوات الرقمية المستخدمة في القمع”، فيما بررت وزارة التجارة الأمريكية موقفها بأن الشركة باعت برامج تجسُّس لحكومات أجنبية مستبدّة -دون تسميتها-، استخدمتها في استهداف مسؤولين حكوميين وصحفيين ومعارضين وغيرهم.
ونجحت “إن أو أس” في تجنيد مستشارين أقوياء لهم دراية كبيرة وخبرة طويلة بدهاليز السياسة الأمريكية لإنقاذ سمعتها، من بينهم السفير الأمريكي السابق لدى “إسرائيل”، دان شابيرو، والذي انضمَّ حديثًا لوزارة الخارجية كعضو في فريق التفاوض الأميركي مع إيران حول برنامجها النووي.
ورغم هذه الخبرات الهائلة، لم ينجح الخبراء الأمريكيون في تحسين سجلّ الشركة الأخلاقي، بل ساهموا في تشويه سمعتها عبر منحها غطاء من المصداقية لتمرير برامجهم وبيعها لحكومات دول أجنبية، حتى وصل عدد من ثَبَتَ استخدام تلك البرامج في التجسُّس على هواتفهم أكثر من 180 صحفيًّا و14 من قادة العالم.
تعاون إماراتي إسرائيلي
في 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، كشفت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية في تحقيق لها عن تعاون بنّاء بين “إسرائيل” وشركة “دارك ماتر” الإماراتية، العاملة في مجال التقنيات المتطورة، والمدرَجة ضمن قائمة الشركات المتَّهمة بدعم الأنظمة الاستبدادية في التجسُّس على شعوبها ومعارضيها.
أشارت الصحيفة إلى استعانة الشركة الإماراتية بخبراء إلكترونيين إسرائيليين من خرّيجي وحدة النخبة في شعبة الاستخبارات العسكرية لجيش الاحتلال الإسرائيلي، المعروفة باسم 8200، حيث منحتهم العديد من المزايا المادية والعينية التي استطاعت من خلالها الحصول على خدماتهم على مدار سنوات طويلة مضت.
وقبل ذلك بيومَين، أشارت صحيفة “هارتس” إلى هذه المسألة، لافتة أن الشركة الإماراتية قد استعانت في عام 2014 بخبراء من شركة “إن إس أو” الإسرائيلية قبل تجنيد خرّيجين جدد لها من وحدة 8200 الإسرائيلية عبر مكتبها في قبرص، بدءًا من عام 2017 وحتى اليوم.
خبراء دوليون وصفوا مساعي الإمارات للتجسُّس على شعبها بأنه جنون مطبق وليس طموحًا كما يردد مسؤولو شركة “دارك ماتر” الإماراتية.
أوضحت الصحيفة أن وزارة الأمن الإسرائيلية قد غضّت الطرف عن هذه الممارسات الإماراتية، رغم الشبهات التي تحوم حول مخالفة هؤلاء الخريجين من الوحدة الإسرائيلية لقوانين وأنظمة تصدير المعلومات الأمنية، ملمّحة إلى الإغراءات المادية المقدَّمة لتجنيدهم، إذ وصلت الرواتب لدى البعض قرابة مليون دولار.
وأثار تجنيد الإمارات خريجين وخبراء في المجال السيبراني، سواء داخل “إسرائيل” أو أمريكا، حفيظة المباحث والمخابرات الأمريكية، وعززت من قلقها بشأن التجسُّس على مواطنين أمريكيين، وفق تحقيقات نشرتها وسائل إعلام أمريكية، إلا أن ذلك لم يحرك ساكنًا لدى السلطات الإسرائيلية وفق ما ذهب إليه الصحفيان رونين بيرغمان وإيتاي إيلانا، المختصان بقضايا التجسُّس والأجهزة السرّية في “إسرائيل”، في تحقيق لهما نشرته “يديعوت أحرونوت”.
وعلى مدار الأعوام الثلاث الماضية تحديدًا، شهد التعاون الاستخباراتي السيبراني بين الإمارات و”إسرائيل” آفاقًا رحبة من التوسع والتمدد، وهو التعاون الذي يتناغم مع أجندة البلدَين التوسُّعية (التي تقوم على دعم الأنظمة الديكتاتورية وإجهاض الإرادة الشعبية العربية)، ويترجم القفزات السريعة التي تخطوها حكومتا البلدَين لتعزيز التقارب وتضمين التطبيع في شتى المجالات.
“دارك ماتر”.. تاريخ من التجسُّس اللاأخلاقي
بات من الواضح أن التجسُّس السيبراني، عبر استقطاب مئات الجواسيس والقراصنة من مختلف دول العالم لخدمة أجندات سياسية واستهداف أنظمة وحكومات وشعوب بعينها؛ منهجٌ إماراتي معتمَد لدى أبناء زايد لترجمة أحلامهم التوسعية على المستوى الإقليمي وتعزيز نفوذهم عالميًّا.
وتعدّ شركة “دارك ماتر” الذراع اليمنى للسلطات الإماراتية لاستمرار نشاطها غير القانوني في التجسُّس السيبراني على الدول والأفراد، وهو ما فضحته عشرات التقارير والتحقيقات الأخيرة، لتتساقط معها الشعارات الرنّانة التي تستخدمها الدولة الخليجية لتبييض وجهها، واحدة تلو الأخرى، بالتوازي مع فضح الأقنعة المزيَّفة عن دولة الإنسانية والحرية والديمقراطية.
وقد تأسّست الشركة عام 2015 على يد فيصل البناي، الذي كان يعمل والده برتبة لواء في الجهاز الأمني الإماراتي، وتصفُ نفسها بأنها شريك استراتيجي للحكومة الإماراتية، إذ إن أكثر من 80% من أسهمها مملوكة لهيئات ومنظمات ووكالات حكومية، ويقع مقرّها في أبوظبي في نفس المبنى المتواجد به جهاز استخبارات الإشارة الإماراتي، ولها مراكز أبحاث وتطوير في كل من الصين وفنلندا وتورونتو بكندا.
ويرأس الشركة تنفيذيًّا الآن كريم صباغ، وهو الرئيس التنفيذي السابق للشركة الأوروبية للأقمار الصناعية التي تعدّ واحدة من أكبر مشغّلي الأقمار الصناعية في العالم، والنائب الأول لرئيس الشركة لشؤون أبحاث التكنولوجيا احتلَّ المنصب نفسه سابقًا في الهيئة الوطنية للأمن الإلكتروني، التي أصبحت فيما بعد جهاز استخبارات الإشارة.
نجحت الشركة عبر الإغراءات المادية في تجنيد عدد من الخبراء الأمنيين السابقين بوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، منهم واحد ممّن يحملون تصريحًا أمنيًّا رفيع المستوى، هذا بجانب بعض محللي وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) ووكالة الأمن القومي (NSA) السابقين، بمن في ذلك أحد كبار المستشارين التقنيين سابقًا لدى وكالة الأمن القومي.
كما استعانت بالخبراء التقنيين من كبار الشركات العالمية، مثل جوجل وسامسونغ وكوالكوم ومكافي وشركة خدمات الرسائل المشفرة “ويكر”، واستقطبت في الوقت ذاته عددًا من موظفي الشركة الأمريكية “سايبر بوينت”، الخبيرة في تطوير اختبارات الاختراق السيبراني والتقييمات الأمنية، ومؤخرًا ضمّت الشركة ضبّاط موساد إسرائيليين وفق وسائل إعلام عبرية.
وتتخصص الشركة في مجالات تطوير مراكز عمليات الأمن (SOC)، وهي إدارات تضمُّ فرقًا لأمن المعلومات مسؤوليتها مراقبة وتحليل الموقف الأمني للمؤسسة بشكل مستمر، وهدفها اكتشاف حوادث الأمن السيبراني وتحليلها والاستجابة لها؛ بجانب مجال أمن مشغّلي ومزوِّدي خدمات الحوسبة السحابية الرئيسية في العالم، ومجال أمن إنترنت الأشياء (IoT)، والذي كان يضمُّ حوالي 18 مليار جهاز متصل بحلول عام 2017، ومن المتوقع أن يرتفع العدد إلى 75 مليار جهاز متصل بحلول عام 2025.
وللشركة سجلّ حافل من التجسُّس اللاأخلاقي، يضمُّ عشرات المشاريع، أبرزها “مشروع ريفين” الذي دُشِّن عام 2011 بعد ثورات الربيع العربي، واستهدف التجسُّس على أشخاص صنّفتهم الإمارات معارضين لنظامها، منهم أتراك وقطريين وبريطانيين وأميركيين، بجانب نشطاء وساسة وصحفيين من الدول العربية.
وخلال عامي 2016-2017 استهدفت الشركة شخصيات حكومية غير إماراتية رفيعة المستوى، باستخدام برمجية تجسُّس تُدعى “كارما”، كما استعانت بخبراء أجانب، معظمهم من “إسرائيل”، في اختراق حسابات تويتر وغيرها من منصات التواصل الاجتماعي، بما في ذلك اختراق أجهزة نشطاء من عدة جنسيات عن طريق زرع برمجيات خبيثة بها.
ومن أبرز الشهادات التي تكشف حجم المخطط الإماراتي في التجسُّس على المنطقة من خلال تلك الشركة، الشهادة التي قدّمها اختصاصي الأمن السيبراني الإيطالي سيمون مارغريتلي، الذي حاولت الشركة تجنيده عام 2016، حيث عبّر عن صدمته ممّا تقوم به الشركة من سعيها للسيطرة على “دولة بأكملها”.
كتبَ مارغريتلي عن مساعي المخابرات الإماراتية توظيفه للتجسُّس على شعبها، لافتًا إلى انتشار فرق كبيرة من العاملين لصالح جهاز أمن الدولة الإماراتي في جميع أنحاء الدولة، للتجسُّس على الجميع عن طريق اختراق كل الحواسيب والهواتف الإماراتية وجعلها “روبوتات تابعة للحكومة”، واصفًا ما تقوم به الشركة بأنه “جنون مطبق” وليس طموحًا كما تردِّد.
ومنذ ذلك الحين تحاول الشركة الإماراتية تجميل الصورة عبر بعض الإجراءات التلميعية أملًا في استعادة السمعة المشوَّهة عالميًّا، لكن يبدو أن تلك الجهود ستذهب سُدى دون جدوى بعدما تجاوزت الشركة إطار الانتقادات وصولًا إلى المطالبة باستهدافها قانونًا وفرض عقوبات على القائمين عليها، ما قد يُفقد أبوظبي واحدًا من أكثر أسلحتها المستخدَمة في تنفيذ أجندتها الإقليمية.