هذا هو المقال الرابع من سلسلة مقالات مترجمة حول الوضع الإيراني، من عدد نوفمبر 2014 من مجلة الإيكونوميست البريطانية
شرعت إيران بُعَيد نهاية الحرب مع العراق، في تطوير علاقاتها العربية، لا سيما نظام الأسد، والذي أصبحت راعيه الأول بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، كما طورت علاقاتها قدر الإمكان لفك عزلتها الدولية مع دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية، مثل السودان وفنزويلا وغيرهما. كذلك، وطدت إيران علاقاتها بلاعبين آخرين غير الدول القومية، مثل حزب الله، والذي يُعَد الآن لاعبًا أساسيًا في لبنان، وحماس في فلسطين، والميليشيات الشيعية في العراق التي انتشرت إبان سقوط نظام صدام.
بعد حادثة الحادي عشر من سبتمبر، قدمت الولايات المتحدة هديتين على طبق من ذهب للنظام الإيراني: إزاحة النظامين المعاديين لإيران في أفغانستان (2001) والعراق (2003)، وقد عملت إيران بلا تواني منذ ذلك الحين لتعزيز مكتسبات حلفائها في البلدين. يخشى جيران إيران السنة من الهلال الشيعي الذي تطمح له، والممتد من طهران عبر بغداد ودمشق وإلى بيروت، وقد دأب أعداؤها، وهم السعودية وإسرائيل بشكل رئيسي، على جذب أنظار العالم لبرنامجها النووي وضرورة وضع الخيار العسكري ضدها على الطاولة. بيد أن الولايات المتحدة التي خاضت حروبًا مكلّفة في أفغانستان والعراق لم يكن باستطاعتها تبني ذلك الخيار، لا سيما بالنظر للرأي العام الأمريكي الحالي، واهتمام أمريكا المنصب على شرق آسيا.
شاءت الأقدار إذن أن تدخل الولايات المتحدة بسهولة دولًا مجاورة لإيران كالعراق وأفغانستان في مطلع القرن الحالي، لتُفسِح لإيران مجالًا للتمدد، وألا يكون باستطاعتها اليوم دخول دول مثل سوريا بشكل مباشر كما أرادت في وقت ما لأسباب كثيرة. يقول الكثيرون أن ما جرى ببساطة وضع إيران في موقع قوة يحسدها عليه كثيرون. ولكن هل هذا حقيقي فعلًا؟
ربيع المفاجأت العربي
حين بدأ الربيع العربي في 2011، بدا الأمر فرصة للتمدد مجددًا من المنظور الإيراني، حيث كانت الثورات موجهة لبلدان حكمتها نظم علمانية، أو نظم ادّعت أنها علمانية، في مقابل صعود المجموعات المرتبطة بالإخوان المسلمين، والذين اعتبرتهم إيران حلفاء مستقبليين لها، لا سيما وقد أثاروا قلق الدول السنية الكبرى المعادية لإيران مثل السعودية.
غير أن الربيع أثبت مع الوقت أنه لم يكن مماثلًا لما جرى في إيران عام 1979، بل على العكس، كان أكثر شبهًا بالاحتجاجات التي جرت في إيران عام 2009. أضف إلى ذلك أن الربيع لم يكن موجهًا ضد علمانية النظم التي قامت ضده بقدر ما قام ضد المظالم الواقعة على الشباب، وهم شباب لم يكن الكثير منهم مهتم بالرؤى الإسلامية ولا بمعاداة الغرب، وحتى الكثير من الحركات الإسلامية لم تتبنى الرؤية الإيرانية بقدر ما جذبها النموذج التركي.
كان الربيع العربي يخبّئ لإيران الصدمة الأكبر، والتي وقعت باهتزاز أركان نظام بشار الأسد في سوريا. ورُغم أنه لم يسقط حتى الآن، إلا أن إيران تحارب من أجله حربًا مريرة، لا تستنزف قوتها فقط، خصوصًا بعد صعود داعش، بل وتدمر شعبيتها وشعبية حلفاء لها كحزب الله بين العرب السنة، وهي شعبية بُنيَت على مدى سنوات طويلة، كما تثير المعارضة في الداخل، والذي يعارض الإنفاق المستمر للموارد التي يرى الإيرانيون أنهم أولى بها. فقدت إيران أيضًا علاقتها القوية بحماس، والتي ابتعدت عن نظام الأسد وغلبت كفة الانتماء العربي السني على حساب المصلحة الآنية الضيقة.
لم يكن هذا فقط ما خبأه المستقبل لإيران، إذ امتدت مؤخرًا نيران الحرب السورية إلى العراق لتهز الحليف الثاني المتمركز في بغداد حيث يقبع نظام شيعي آخر، مستحوذة على مساحات شاسعة من غرب البلاد. تلك المرة لم يكن الربيع هو السبب، بل أسوأ، واحدة من أكثر التنظيمات الإسلامية السنية تطرفًا وكرهًا للشيعة — داعش.
لم يعد هناك هلال شيعي يتمدد إذن بهدوء، كما كان على مدار العقد المنصرم، متشحًا بالراية الإسلامية الجامعة ومعاداة إسرائيل والولايات المتحدة. فقد أسفر الربيع العربي وما تلاه عن كمّاشة سلفية تحيط بإيران تدريجيًا، خصوصًا وطالبان تنتفض مجددًا في أفغانستان، لم تعد معها إيران تستطيع إخفاء وجهها الحقيقي. هذه الحرب العلنية بين السنة والشيعة في المنطقة تهدد إيران، الشيعية المعزولة، أكثر من أي دولة أخرى.
ها هي إيران إذن تعود للعزلة النسبية مجددًا. فحتى الصين، وهي المشتري الأكبر لنفط إيران، صوتت لصالح العقوبات على إيران، فالعملاق الصيني الاقتصادي البراجماتي أصبح حساسًا مؤخرًا للتمرد المسلح، أيًا كان مصدره. السودان كذلك طردت في أغسطس الماضي دبلوماسيًا إيرانيًا وأغلقت مركزها الثقافي، كما تم حبس عميل إيراني في نيجيريا التي تشهد هي الآخرى انتفاضة سنية تقودها بوكو حرام.
فليرقد الخميني في سلام
انتهت صلاحية حلم قيادة العالم الإسلامي ضد الغرب الذي وضعه الخميني. فمصالح الغرب لم تعد متنافرة مع مصالح إيران كما في السابق، بالنظر لمواقفهما من داعش وطالبان، وهي تتفاوض معه علنًا الآن بشأن برنامجها النووي وتتبنى خطاب محاربة الإرهاب الرائج بين ساسته، عوضًا عن خطاب الموت لأمريكا الذي ظل حتى رحيل الرئيس السابق أحمدي نجاد. “في السابق، كانت إيران تستخدم خطابها الأيديولوجي لترسيخ قوتها. اليوم هي تستخدم قوتها لترسيخ أيديولوجيتها”، هكذا يقول أحد المحللين.
على إيران الآن أن تتعاون مع القوى المختلفة في المنطقة والعالم، والتي تشاركها هدف الحفاظ على المنظومة كما هي، وإن ظل خطابها ثوريًا، وذلك لأن المكتسبات التي بنتها بهذا الخطاب الثوري في الثمانينيات والتسعينيات، أصبحت اليوم للمفارقة جزءًا من الأمر الواقع الذي هب الربيع العربي بوجهه.
بالفعل، اتخذت حكومة الرئيس روحاني خطوات لتطبيع العلاقات مع الدول المجاورة، مدفوعة بالأساس بالقلق من داعش التي قلبت حسابات الجميع. فقد عقدت الجمهورية الإسلامية محادثات، ليس مع الغرب فقط، ولكن مع دول الخليج، بما فيها السعودية، والتنسيق العسكري يمكن أن يكون نتيجة محتملة لهذه العلاقات في مواجهة عدو مشترك. رُغم أن التنسيق غير مرجح مع الخليج حتى اللحظة، إلا أنه جارٍ بالفعل مع الولايات المتحدة لحماية الأهداف المشتركة في العراق، حيث أفسحت الطائرات الأمريكية المجال للميليشيات الشيعية على الأرض لمساعدة بغداد. بالطبع، قدمّت إيران بعض التنازلات أيضًا، أبرزها التخلي عن المالكي، رئيس الوزراء العراقي السابق.
لا تزال السياسة في الشرق الأوسط صراع محتدم على النفوذ بالأساس، ولكن القوى الكبرى، التي مرت بتلك المرحلة في وقت سابق، تعرف أن الحميع سيجلس في مرحلة ما ويتفاوض لأجل سلام طويل الأجل، تعتمد بالطبع قابلية حدوث انفراجة في المنطقة على المحادثات بشأن البرنامج النووي، ولكن التوصل لاتفاق مع الغرب لن يحل وحده أزمات الشرق الأوسط، فالاتفاق قد يزيل الخيار العسكري ضد إيران من على طاولة الغرب، ولكن الشك سيظل متبادلًا لوقت طويل بين إيران والسعودية.
إذا تم التوصل بالفعل لاتفاق، ستتمكن إيران من تعزيز مكانتها الإقليمية، وقد يؤدي هذا إلى تخفيض تعداد القوات الأمريكية في الخليج، والتي ازدادت على مدار العقود الماضية لاحتواء الخطر الإيراني ليس إلا (لم يكن للولايات المتحدة وجود تقريبًا على شواطئ الخليج الفارسي قبل عام 1986، في حين تضع اليوم 35 ألفًا من قواتها في قواعد بالخليج). بتحولّ أنظار واشنطن نحو شرق آسيا، وخفض الميزانية العسكرية الخاصة بها، وثورة غاز شيل الذي سيجعل الولايات المتحدة أقل اعتمادًا على الطاقة الآتية من المنطقة، سيكون من الممكن تخيّل حدوث ذلك إبان التوصل لتسوية في الشرق الأوسط.
ظهرت مؤخرًا بوادر ابتعاد الإدارة الأمريكية بالفعل عن حلفائها التقليديين بالمنطقة، وتحوّلها نحو موازنة القوى المختلفة بدلًا من ترجيح كفة معسكر على آخر، وإن ظل المحللون التقليديون على اعتقادهم بأن هذه ما هي إلا مناورات وتمويهات أمريكية من قبل واشنطن التي لم ولن تغيّر مواقفها. إذا استطاعت إيران أن ترى هذا، وتستغله لصالحها، فهي على موعد مع مكاسب كبيرة.
هذا هو التقرير الرابع من سلسلة تقارير من مجلة إيكونوميست حول الوضع الإيراني بعنوان (نهاية الثورة!)