ترجمة وتحرير: نون بوست
في 14 نيسان/ أبريل، أنهى الرئيس جو بايدن أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة، وأعلن عن إجلاء آخر القوات الأمريكية المتبقية في أفغانستان بحلول 11 أيلول/ سبتمبر. وخلال الأسابيع التالية، احتلت طالبان عشرات المناطق الريفية وأغلقت المدن الكبرى. وبحلول منتصف حزيران/ يونيو، دخلت جمهورية أفغانستان الإسلامية – الديمقراطية الهشة التي بناها الأفغان الحداثيون وقوات الناتو ودافعو الضرائب الأمريكيون بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر – في دوامة الموت. مع ذلك، كان الرئيس أشرف غني في حديثه مع مجلس وزرائه يؤكد أن الجمهورية صامدة. وحسب وزيرة التربية والتعليم رانجينا حميدي كان الرئيس في كل اجتماع يكرر عبارات الطمأنة والتشجيع، ويذكرّهم أيضًا بأن “الأمريكيين لم يقطعوا وعدًا بالبقاء في البلاد إلى الأبد”.
في 23 حزيران/ يونيو، غادر غني ومستشاروه البلاد على متن طائرة مستأجرة من شركة “كام إير” من كابول إلى واشنطن العاصمة للقاء الرئيس الأمريكي بايدن. وبينما كانت الطائرة تحلق فوق المحيط الأطلسي، كان الرئيس الأفغاني رفقة مستشاريه يراجعون النقاط التي سيتطرق إليها خلال الاجتماع. لقد كان المسؤولون الأفغان يعلمون أن بايدن يعتبر وضع حكومتهم ميؤوسًا منه بسبب الانقسامات وغياب الفعالية. مع ذلك، أوصى غني بتقديم “رسالة واحدة للأمريكيين” تعكس الوحدة المرنة، أملا في إقناع الولايات المتحدة بمنحهم المزيد من الدعم في حربهم المستمرة مع طالبان. قبل أمر الله صالح، النائب الأول للرئيس الذي قال إنه شعر بـ “طعنة في الظهر” بعد قرار بايدن بالانسحاب، على مضض سرد هذه الرواية.
استقبل بايدن نظيره الأفغاني غني وكبار مساعديه في المكتب البيضاوي بعد ظهر يوم 25 حزيران/ يونيو، حيث قال له: “لن ننسحب”، ثم أخرج من جيب قميصه بطاقة رزنامة كتب عليها عدد الأرواح الأمريكية التي فُقدت في أفغانستان والعراق منذ 11 أيلول/ سبتمبر. من جهته، ردّ غني: “أقدر التضحيات الأمريكية”، موضحًا: “هدفنا للأشهر الستة المقبلة هو تحقيق استقرار في الوضع”.
وأضاف غني: “أهم طلب لدي لأفغانستان هو أن يكون لدينا صديق في البيت الأبيض”. فأجابه بايدن: “لديك صديق”. طلب غني مساعدة عسكرية محددة: هل تستطيع الولايات المتحدة توفير المزيد من طائرات الهليكوبتر؟ هل سيستمر المقاولون الأمريكيون في تقديم الدعم اللوجستي للجيش الأفغاني؟ لكن وفقا للمسؤولين الأفغان الذين كانوا حاضرين أثناء اللقاء، كانت إجابات بايدن على الأسئلة التي تم طرحها مبهمة.
ناقش كل من بايدن وغني إمكانية إبرام اتفاق سلام بين الجمهورية الإسلامية وطالبان. وفي الواقع، كان الدبلوماسيون الأمريكيون يتواصلون مع طالبان منذ سنوات للتفاوض بشأن انسحاب الولايات المتحدة وإطلاق محادثات سلام منفصلة بين المتمردين وكابول، لكن المحادثات انهارت وبدا أن طالبان مصممة على الاستيلاء على أفغانستان بالقوة. وحسب المسؤولين الأفغان الذين كانوا حاضرين في اللقاء، قال بايدن إن احتمال قيام طالبان “بأي خطوة عقلانية ضئيل للغاية”.
في الوقت الذي كان فيه غني ومساعدوه مع بايدن، اجتمعت شهرزاد أكبر، رئيسة اللجنة الأفغانية المستقلة لحقوق الإنسان، في واشنطن مع الأمريكيين العاملين في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية والتنمية. وهي تذكر صدمتها عندما سمعت أن العديد من الأمريكيين قد “خلصوا بالفعل إلى أن أفغانستان قضية خاسرة، وأنهم عقدوا سلامًا – نوعًا ما – مع أنفسهم”. وأضافت: “بكيت كثيرًا في ذلك المساء”، ثم عادت إلى كابول وزارت عدة سفارات لتطلب تأشيرات لموظفيها.
في 10 أيار/ مايو 1968 في باريس، فتحت الولايات المتحدة محادثات سلام مع فيتنام الشمالية. كان الرئيس ريتشارد نيكسون، الذي اعتبر المفاوضات غطاءً سياسيًا لانسحاب قواته من الحرب، يعلم أن الشروط قيد المناقشة ستترك فيتنام الجنوبية – حليف أمريكا – عرضة للخطر.
في أكتوبر/ تشرين الأول سنة 1972، سأل نيكسون هنري كيسنجر، مستشاره للأمن القومي، عن احتمال بقاء فيتنام الجنوبية. قال له كيسنجر: “أعتقد أن هناك فرصة واحدة من كل أربع”. ورغم إدراكه لهذه الحقيقة، قال نيكسون: “حسنًا، إذا كانوا معرضين للانهيار، فذلك يعني أن انهيارهم حتمي”. وفي كانون الثاني/ يناير 1973، وقّعت الولايات المتحدة معاهدة سلام تحت اسم “اتفاقية إنهاء الحرب واستعادة السلام” في فيتنام وسحبت على إثرها جميع قواتها. بعد ذلك بسنتين، غزا مقاتلو فيتنام الشمالية والفيتكونغ فيتنام الجنوبية. قامت طائرات هليكوبتر بإجلاء آخر الأفراد الأمريكيين من على سطح مبنى السفارة الأمريكية في سايغون.
بشكل لافت للنظر، اتخذت نهاية جمهورية أفغانستان الإسلامية مسارًا مشابهًا، حيث تعثرت محادثات السلام لسنوات بسبب رفض طالبان التفاوض مع الحكومة الأفغانية. وفي سنة 2018، قرّر الرئيس دونالد ترامب، المصمم على إنهاء الحرب بمشاركة الرئيس الأفغاني أو من دونه، تعيين مبعوث خاص للتفاوض مباشرة مع طالبان التي كان لها ممثلون في الدوحة. كان هذا المبعوث زلماي خليل زاد، وهو دبلوماسي أفغاني المولد يبلغ من العمر67 عامًا حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة شيكاغو، وعمل في العديد من الإدارات الجمهورية، وما بين 2003 و2005، كان سفيرا لجورج دبليو بوش في أفغانستان. كانت مهمته واضحة: عقد صفقة مع طالبان تسمح بانسحاب عسكري أمريكي سريع.
في شباط/ فبراير 2020، وقّعت الولايات المتحدة وطالبان اتفاقية إحلال السلام في أفغانستان، تعهّدت بموجبها الولايات المتحدة بسحب جميع قواتها من البلاد بحلول أيار/ مايو 2021 شريطة تخلص طالبان من جميع صلاتها بالقاعدة والجماعات الإرهابية الأخرى، والانخراط في محادثات بحسن نية مع الجمهورية الإسلامية، والسعي إلى الحد من العنف في البلاد. كما وعدت طالبان بعدم مهاجمة القوات الأمريكية وحلف شمال الأطلسي التي كانت تستعد للمغادرة، بينما استمرت في مهاجمة القوات الأفغانية. لم يتم الإعلان عن العديد من الأحكام، ناهيك عن أن الجمهورية الإسلامية لم تكن طرفًا في الاتفاقية.
طوال المفاوضات، حافظ غني على قنوات تواصل خلفية مع السياسيين الأمريكيين الذين كانوا داعمين للحرب، مثل السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، الذي لطالما دعا إلى استمرار الوجود الأمريكي في أفغانستان.
بحلول ذلك الوقت، أصبح التحالف بين واشنطن وكابول – الذي طغت عليه اللغة الطموحة للديمقراطية وحقوق المرأة وبناء الدولة – أكثر توترا بسبب تبادل الاتهامات والاستياء لدى كلا الطرفين. ويبدو أن اتفاق السلام بين الولايات المتحدة وطالبان جعل الأمور أسوأ بشكل كبير، فقد تضمن سلسلة من الاتفاقيات السرية المكتوبة والشفوية، بما في ذلك بندا مثيرا للجدل يمنع الولايات المتحدة من مساعدة القوات الأفغانية في عملياتها الهجومية ضد طالبان.
حاول أشرف غني، الذي كان بعيدًا عن هذه المفاوضات إلى حد كبير، فهم ما وافقت عليه الولايات المتحدة ولماذا، وعندما فهم ما حدث اعترض بشدة. وحتى حين فشلت طالبان لاحقًا في الوفاء بالتزاماتها التي تعهدت بها للولايات المتحدة، تجاهلت إدارة ترامب الانتهاكات. وتعليقًا على ذلك، قال حمد الله محب، مستشار الأمن القومي في حكومة غني، “شعر غني أنهم كذبوا عليه”، أنهم “قللوا من شأنه”.
طوال المفاوضات، حافظ غني على قنوات تواصل خلفية مع السياسيين الأمريكيين الذين كانوا داعمين للحرب، مثل السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، الذي لطالما دعا إلى استمرار الوجود الأمريكي في أفغانستان. بعد محادثات غني مع غراهام، كان السيناتور يتصل بانتظام بمايك بومبيو، وزير خارجية ترامب الذي اتهم غني في وقت ما بـ “تعبئة واشنطن ضد” إدارة ترامب. كان رأي العديد من مسؤولي وزارة الخارجية، بما في ذلك الدبلوماسيين المحترفين غير المتحزبين، أن الرئيس الأفغاني لا يولي اهتماما كبيرا لمسألة التفاوض مع طالبان، وقد علق خليل زاد على ذلك بقوله: “كان يفضل الوضع الراهن، الذي أبقاه في السلطة”.
بعد توليه المهام الرئاسية رسميًا في كانون الثاني/ يناير، كان هذا الاتفاق المجزأ من بين ما تركته الإدارة السابقة لبايدن. كان بإمكانه إطالة أمد الانتشار العسكري الأمريكي، بغض النظر عن الاتفاق، أو الاستمرار في اتباع خطة الانسحاب التي رسمها سلفه ترامب. كان بايدن، الذي شغل منصب نائب الرئيس في عهد باراك أوباما، يعارض إرسال أعداد كبيرة من القوات الأمريكية للقتال في هذه الحرب، مشككًا علانية في إمكانية أن تصبح أفغانستان دولة آمنة ومستقرة.
في بعض الأحيان، بدا بايدن غير مبال بمصير الجمهورية الإسلامية مثلما فعل نيكسون مع جنوب الفيتنام. كما أن قراره بسحب ما تبقى من القوات الأمريكية بشكل مفاجئ من أفغانستان، والذي بلغ ذروته أثناء استيلاء طالبان السريع على البلاد، إلى جانب الإجلاء الفوضوي لأكثر من 100 ألف شخص من مطار حامد كرزاي الدولي، جزء لن يُمحى من سجله. أما بالنسبة لسكان أفغانستان البالغ عددهم حوالي 38 مليون نسمة، كانت الهزيمة التي مُني بها الأمريكان حتميةً. تعيد الآن حركة طالبان فرض الشريعة الإسلامية الصارمة على البلاد، التي خسرت مليارات الدولارات من المساعدات الخارجية وأصبحت تعاني من انتشار المجاعة.
إن النقاشات والقرارات في واشنطن وكابول والدوحة، التي سبقت سقوط الجمهورية الإسلامية، كان تُعقد في سرية كبيرة. مئات الصفحات من ملاحظات الاجتماع، النصوص، المذكرات، رسائل البريد الإلكتروني، والوثائق، بالإضافة إلى المقابلات المكثفة مع المسؤولين الأفغان والأمريكيين، تقدم سجلاً محبطًا من سوء التقدير والغطرسة والخداع منذ البداية.
بدأت أول محاولة جادة للتفاوض مع طالبان في تشرين الثاني/ نوفمبر 2010. قبل تسع سنوات من ذلك، أطاحت الولايات المتحدة بحكومة طالبان، التي آوت إرهابيي القاعدة المسؤولين عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر. حاولت حركة طالبان العودة إلى السلطة، وكان ريتشارد هولبروك، مبعوث أوباما إلى المنطقة، يأمل في إقناعهم بوقف القتال والمشاركة في الحياة السياسية الأفغانية. شارك الدبلوماسيون الأمريكيون ومفاوضو طالبان في محادثات حول تسوية سلمية محتملة. لكن طالبان رفضت العمل مع الرئيس الأفغاني آنذاك حامد كرزاي – أول رئيس دولة منتخب ديمقراطيًا في البلاد – واعتبرته دمية غير شرعية. وبدوره، اعترض كرزاي على إضفاء الشرعية الأمريكية على المتمردين المتطرفين العازمين على الإطاحة بحكومته.
صرخ كرزاي في وجه رايان كروكر، السفير الأمريكي في أفغانستان قائلا: “لقد خنتني!” خلال اجتماع في أواخر سنة 2011. وفي نهاية المطاف، أذعن أوباما ل لكرزاي. وبحلول منتصف سنة 2013، انتهت المناقشات الجادة مع طالبان حول تقاسم السلطة، وقبل أن يترك أوباما منصبه، قلل بشكل كبير من عدد القوات الأمريكية في أفغانستان التي كانت آنذاك في حدود 100 ألف، وترك 8400 جنديا في مهمة غير محددة المدة لضرب القاعدة وفرع من تنظيم الدولة، ودعم القوات الأفغانية التي تقاتل طالبان.
في 2017، عيّن ترامب الجنرال إتش آر ماكماستر مستشارًا للأمن القومي، الذي أوصى بتوفير المزيد من القوات الجوية الأمريكية والمساعدات الاستخباراتية لدعم القوات الأفغانية واتباع نهج أكثر صرامة تجاه باكستان، الحامية التاريخية لطالبان. وافق ترامب على هذه الاستراتيجية، وبدا أنه يتقبل فكرة أن السلام بين طالبان والجمهورية الإسلامية قد لا يكون قابلاً للتحقيق. في آب/ أغسطس قال: “لا أحد يعرف ما إذا كان هذا سيحدث أو متى سيحدث”، ووعد بأن القوات الأمريكية ستبقى في أفغانستان حتى تهزم القاعدة وتنظيم الدولة. وأضاف أن “عواقب الخروج السريع يمكن التنبؤ بها وغير مقبولة”.
لكن عندما فشلت الإستراتيجية في قلب موازين الحرب بسرعة، بدأ ترامب يبحث عن مخرج، واشتكى لاحقا قائلا: “كان يجب أن أتبع حدسي، وليس جنرالاتي!”. في السنة التالية، أقال ترامب ماكماستر واستبدله بجون بولتون، وهو محافظ متحمس ومعلق على قناة “فوكس نيوز”، عمل في إدارات الجمهوريين سابقًا. كما عيّن يضا مايك بومبيو، مدير المخابرات المركزية وزيرًا للخارجية. وفي صيف 2018، تشاور بومبيو مع خليل زاد، الذي عُيّن في أيلول/ سبتمبر مبعوث الإدارة للتفاوض مع طالبان.
من جهته، قال تشارلز كوبرمان، الذي كان وقتها أحد كبار مستشاري بولتون: “كان يُعتقد أنه لا أحد يعرف الوضع الأفغاني واللاعبين الأفغان أفضل من خليل زاد. ولم يكن هناك الكثير من المرشحين الآخرين”. قيل لدبلوماسيّ من موظفي خليل زاد إن ترامب يريد مغادرة أفغانستان في غضون ستة أشهر، لكن ربما يمكن إقناعه بالانتظار أكثر لمدة تصل إلى تسعة أشهر.
إن طول قامة خليل زاد أكثر من ستة أقدام بقليل، وله ابتسامة سريعة ومعبّرة مثل مندوب مبيعات. قال إليوت أبرامز، زميله في إدارة جورج دبليو بوش: “زاد محبوب للغاية، لديه حس فكاهي، ويمزح طوال الوقت”، بينما يجده مسؤولون آخرون مراوغًا، لا سيما عندما كان منخرطًا في الدبلوماسية المعقدة. ويرى كروكر أنه “لا يوجد نقص في الكلام، وإنما صعوبة كبيرة في معرفة ما الذي يتحدث عنه بالضبط ولماذا”، مشيرا إلى أن خليل زاد يذكّره بنسخة “فريا ستارك”- مستكشفة بريطانية إيطالية – المعدلة لمثل عربي: “من الجيد معرفة الحقيقة والتحدث بها، لكن من الأفضل معرفة الحقيقة والتحدث عن النخيل”.
ووفقًا لبولتون، علق ترامب ذات مرة على خليل زاد قائلا: “سمعت أنه رجل محتال، ونحن بحاجة إلى رجل مثله من أجل هذه الهمة”. ومن جهته، نفى خليل زاد هذه الإهانات مستشهدا بمقولة تُنسب إلى هاري إس ترومان: “إذا كنت تريد صديقًا في واشنطن، فاحصل على كلب”.
في تشرين الأول/ أكتوبر 2018، سافر خليل زاد إلى كابول حيث التقى غني في قصر أرغ، وهو مجمع مساحته 83 فدانًا يضم مكاتب الرئيس الأفغاني ومقر إقامته، كانا يعرفان بعضهما البعض منذ ما يقرب خمسين عامًا. وعندما كانا مراهقين في كابول في أواخر الستينيات، انضما إلى برنامج تبادل في المدارس الثانوية للخدمة الميدانية الأمريكية، حيث ذهب غني إلى بحيرة أوسويغو في أوريغون وخليل زاد إلى سيريس بولاية كاليفورنيا. على مر السنين، ووفقًا للدبلوماسيين الأمريكيين الذين عملوا معهما، بدأت علاقتهما تشبه التنافس بين الأشقاء. عندما ترشح غني لمنصب الرئيس في 2014، كانت المؤشرات تدل على أن خليل زاد ربما يفكر في الترشح أيضًا، وهو ما نفاه خليل زاد. كانا يمزحان بلغة داري- الفارسية الأفغانية – والإنجليزية في الاجتماعات، أما في السرّ فقد بدا كل واحد منهما مقتنعًا بأن الآخر يعاني من الغرور المفرط والطموح.
عمِل غني في السابق في البنك الدولي وكان متجنسًا أمريكيًا. بعد سقوط طالبان، عاد إلى أفغانستان حيث شغل منصب وزير مالية في حكومة حامد كرزاي، ثم ترك الحكومة في سنة 2004. وبعد خمس سنوات، بعد أن تخلى عن جنسيته الأمريكية، ترشّح للرئاسة ضد كرزاي وخسر. ثم عاد للترشح مرة أخرى في سنة 2014، عندما كان كرزاي غير مؤهل لولاية أخرى، وتغلب بفارق ضئيل على عبد الله عبد الله، وزير الخارجية السابق، في انتخابات شابتها مزاعم تزوير، وبعد المفاوضات، أصبح عبد الله الرئيس التنفيذي لحكومة الوحدة في أفغانستان.
حصل غني على درجة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا من جامعة كولومبيا، وبدا أحيانًا أنه يتعامل مع منصب الرئاسة كما لو أنه منصب أكاديمي في إحدى الجامعات. في كلا المنزلين اللذين أقام فيهما، كان يملك مكتبة شخصية تضم حوالي سبعة آلاف كتاب. ولذلك خلال حضوره بعض الاجتماعات، غالبًا ما كان يستشهد في حديثه ببعض المؤلفات الأكاديمية. لقد سعى إلى تعزيز مكانة ونفود أولئك الذين أشار إليهم باسم “أصحاب المصلحة” في أفغانستان مثل نشطاء حقوق الإنسان وعلماء الدين الإسلامي وأصحاب الشركات الإعلامية والتجارية.
خلال فترة إدارته التي تزامنت مع الحرب، سعى إلى العمل مع تكنوقراط متحصلين على شهادات جامعية في الخارج، ورفض التعامل مع السياسيين الأفغان التقليديين وأصحاب النفوذ الذين يعتقد أنهم ساهموا في تدمير البلاد. استمر الدبلوماسيون والقادة العسكريون الأمريكيون في الضغط على غني للتعامل مع كرزاي وعبد الله، وشخصيات مثل عبد الرشيد دوستم، الذي كان له أتباع مسلحون وسجل بانتهاكات حقوق الإنسان. كان هؤلاء يعتبرون من الجبهة المعارضة له. لهذا السبب، كان من الصعب على غني عقد صفقة دونهم.
في هذا السياق، أوضح جيمس كانينغهام، الذي شغل منصب سفير الولايات المتحدة في كابول خلال فترة ولاية غني الأولى، “إنه ليس مجرد سياسي محنك. يتسم بالكثير من الصفات التي أحبها، لكنه لم يكن قادرًا على إيجاد المهارات السياسية اللازمة لبناء تحالفات وشراكات مع الأشخاص الذين يختلفون معه”.
خلال لقائه الأول مع خليل زاد في قصر الرئاسي، قدم غني عرضًا تقديميًا طويلًا حول العقبات التي تقف أمام إرساء السلام في أفغانستان. لقد تصور أن جمهورية أفغانستان الإسلامية والولايات المتحدة سوف يجلسان على طاولة المفاوضات معا من أجل التفاوض مع حركة طالبان، وهي فكرة وجدها خليل زاد غير واقعية. خلال ما يقارب عقدا من الزمان، أصرّت حركة طالبان على أنها تريد إجراء مفاوضات مع الولايات المتحدة فقط، لتأمين انسحاب قوات الناتو، التي كانت تعتبرها قوة احتلال. كان خليل زاد والعديد من الدبلوماسيين الآخرين يعتقدون أن مفاوضات السلام بين حكومة غني وطالبان ينبغي أن تأتي بعد موافقة الولايات المتحدة على المغادرة وتعهّد طالبان بالانخراط في مثل هذه المحادثات.
بعد الاجتماع، سافر خليل زاد إلى باكستان، حيث التقى بقادة حرب العصابات. عندما سمع غني عن الاجتماع بعد انتهائه انتابته نوبة من الغضب، حيث كان معروفا أن له مزاجا حادا. أكد ياسين ضياء، وهو جنرال أفغاني تم تعيينه رئيسًا لأركان الجيش سنة 2020، قائلاً: “لقد بدا منفعلا وبدأ بالصراخ، لكن في الحرب، هذا النوع من السلوك ليس فعالا”. في بعض الأحيان، اعتبر الدبلوماسيون الأمريكيون هذه النوبة بمثابة غضب مصطنع، يهدف إلى تعطيل أي مفاوضات قد تساهم في تقويض سلطته.
شكّل انعدام الثقة المتبادل بين خليل زاد وغني معالم العلاقة بين الولايات المتحدة وأفغانستان على مدى السنوات الثلاث التالية.
استأنفت الولايات المتحدة وطالبان مفاوضات رسمية في 22 كانون الثاني/ يناير 2019. التقى الطرفان في الدوحة، في برج زجاجي أسطواني يقع فيه مقر وزارة الخارجية القطرية. ترأس خليل زاد الوفد الأمريكي، بينما كان شير محمد عباس ستانيكزاي، الذي شارك لفترة وجيزة في المحادثات مع إدارة أوباما سنة 2011، يقود وفد طالبان.
خلال البيان الافتتاحي، صرح ستانيكزاي: “لقد استمرت الحرب لفترة طويلة. لقد أُريقت الكثير من الدماء. نريد إرساء السلام في أفغانستان من خلال المفاوضات”. بكى عبد الله أميني، الذي عمل في السابق مستشارا للقادة العسكريين الأمريكيين في كابول، وفقد العديد من أقاربه خلال الصراع الطويل، بصوت مسموع وهو يترجم كلام ستانيكزاي للوفد الأمريكي.
كان خليل زاد قد توصل إلى اتفاق مع طالبان يتكون من أربعة نقاط: انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان؛ تضمن طالبان أن تنظيمي القاعدة والدولة والجماعات الإرهابية الأخرى لن تستهدف الولايات المتحدة انطلاقا من أفغانستان؛ تتفاوض طالبان مع حكومة أفغانستان على اتفاقية لتقاسم السلطة؛ وقف إطلاق النار. كانت النقاط الأربعة مترابطة، وأوضح خليل زاد قائلا: “لا اتفاق على أي شيء إلى حين الاتفاق على كل شيء”.
في البداية، كان الجانبان متحمسين للاتفاق. يتابع خليل زاد: “يمكن أن تنسحب نصف القوات الأمريكية بنهاية شهر نيسان/ أبريل”. في المقابل، كان ستانيكزاي سريعًا في تقديم تأكيدات بشأن مكافحة الإرهاب: “سنضمن أننا لن نسمح للقاعدة بمهاجمتك”. لكن عندما اقترح خليل زاد وقف إطلاق النار ومفاوضات تقاسم السلطة بين طالبان وكابول، أجاب ستانيكزاي بحدّة: “نحن نفهم أننا لا نستطيع أن نحكم أفغانستان بمفردنا ونحتاج للمساعدة في التوصل إلى تسوية تفاوضية”. لكنه كان يريد في البداية إبرام صفقة تضمن رحيل القوات الأمريكية مقابل تقديم طالبان وعودا بمكافحة الإرهاب.
دامت المشاورات عدة أيام. عقب الجلسة الأخيرة صرح خليل زاد: “تصر واشنطن على وقف شامل لإطلاق النار”. في نهاية المطاف، أوضح وفد طالبان أنه إذا تعهدت الولايات المتحدة بالانسحاب، ستتوقف الحركة عن مهاجمة الولايات المتحدة وقوات الناتو، لكن حرب طالبان للإطاحة بحكومة غني ستظل مستمرة. في الواقع، لن تنظر طالبان في الموافقة على اقتراح وقف إطلاق النار مع كابول إلا كبند من بنود أجندة المحادثات المستقبلية بين الأطراف المتنازعة في أفغانستان.
كان هذا أبعد ما يكون عما يريده المفاوضون الأمريكيون. كان وجود القوات الأمريكية في أفغانستان بهدف الدفاع عن البلاد من المسلحين؛ وقد أطلقوا على مهمتهم اسم عملية الدعم الحازم. وكان القادة العسكريون الأمريكيون يعتقدون أنه من الخطير وغير المقبول ترك ساحة الحرب دون تسوية سياسية بين الأفغان والتوصل لاتفاق ينص على وقف دائم لإطلاق النار. لكن خليل زاد كان قلقا من أن هذا النهج المتشدد قد يتسبب في عرقلة المحادثات ويشجع ترامب على التخلي عن أفغانستان بشكل مفاجئ.
في نهاية شهر شباط/ فبراير، وصل خليل زاد إلى الدوحة، واستقبله الملا عبد الغني بردار، أحد مؤسسي حركة طالبان. كان برادار يشغل منصب نائب وزير الدفاع في حكومة طالبان قبل سقوطها في 2001. بعد انتخاب حامد كرزاي رئيسا للبلاد، انخرط برادار من مخبئه في محادثات عبر قنوات خلفية حول المصالحة السياسية بين طالبان والحكومة الجديدة، وفقًا لمسؤولين أفغان وأمريكيين. سنة 2010، قام فريق مشترك بين وكالة المخابرات المركزية وباكستان باعتقال برادار في كراتشي، ثم سُجن في باكستان، ونُقل في وقت لاحق إلى الإقامة الجبرية. بعد أن أصبح خليل زاد مبعوث ترامب، أقنع قمر جاويد باجوا، قائد الجيش الباكستاني، بالإفراج عن برادار كبادرة حسن نية.
وأكد خليل زاد لبرادار خلال إحدى اللقاءات التي جمعتهما: “لقد درست شخصيتك وخصالك وأنا أعرف أنك رجل يرغب في إرساء السلام في البلاد”، بحسب ليزا كيرتس، المتخصصة في شؤون أفغانستان في فريق الأمن القومي التابع لترامب، والتي كانت حاضرة في الاجتماع، أجاب بردار: “أدرك أنني لم أكن لأجلس على هذه الطاولة لولا الجهود التي بذلتها”.
رأى خليل زاد وبومبيو أن انخراط برادار في محادثات الدوحة مؤشر على جدية طالبان بشأن المحادثات. (أكد بومبيو لغني خلال إحدى المناسبات أن برادار “مفاوض محنك للغاية”). في اليوم التالي، انضم خليل زاد إلى برادار في غرفته بالفندق والتي تطل على حمام سباحة.
استمرت المفاوضات بين الأمريكيين وطالبان بالدوحة خلال فصل الربيع. لم يكن برادار يحضر بانتظام، لكن خليل زاد كان يزوره من حين لآخر على انفراد في غرفته بالفندق. أجرى خليل زاد محادثات منفصلة عبر تطبيق واتساب مع أعضاء وفد طالبان وعدد قليل من مساعدي غني. في بعض الأحيان، كان يرسل رسائل إلى غني باستخدام تطبيق سيغنال. بسبب سرعة مناوراته الدبلوماسية، كان من الصعب على المسؤولين الآخرين في البنتاغون والبيت الأبيض متابعة ما كان يفعله.
ويقول أحد مسؤولي البنتاغون أن أعضاء فريق التفاوض اعتادوا المزاح قائلين إن “أكثر جهاز يعاني من الاستغلال في العالم هو جوال خليل زاد”، لأنه كان يجري باستمرار مفاوضات ونقاشات لم يكن أي شخص آخر على دراية بها، وقد وصفها المسؤول بأنها كانت ارتجالية. في 19 نيسان/ أبريل، أرسل غني رسالة إلى بومبيو يشكو فيها من أنه يتعرض للتهميش خلال محادثات خليل زاد مع طالبان، وأن خليل زاد تحدث معه لمدة ست دقائق فقط خلال ستة عشر يومًا من المفاوضات.
حضر الجلسات الرسمية ستانيكزاي ومفاوضون آخرون من طالبان، بمن فيهم معتقلون سابقون في غوانتانامو أُطلق سراحهم قبل المفاوضات التي بدأت في عهد أوباما. كان الموعد اليومي لبداية الاجتماعات الصباحية الساعة العاشرة والنصف؛ كان الأمريكيون يصلون مبكرا، ويأتي مفاوضو حركة طالبان عادة في وقت متأخر. مع بداية الصيف، كان الطرفان يتبادلان مسودات الاتفاق النهائي. حدد خليل زاد يوم 14 تموز/ يوليو موعدا للإعلان عن التوقيع، وبدأ يخطط لمفاوضات إضافية في أوسلو بين طالبان وممثلي الحكومة لتقرير مستقبل أفغانستان السياسي.
لم يتأكد الأمريكيون بعد إن كانت طالبان ستقبل بوقف إطلاق النار في حربها ضد الحكومة. في أوائل تموز/ يوليو، ضغطت ماري كاثرين في، نائبة خليل زاد، على ستانيكزاي بشأن هذا الموضوع، الذي وصفته بأنه قضية “ذات أهمية قصوى” بالنسبة إلى “القيادة الأمريكية العليا”. لم يتردد ستانيكزاي، وقدم طلبًا جديدًا لإطلاق سراح الآلاف من سجناء طالبان الذين تحتجزهم حكومة غني.
أصر مبعوثو طالبان على أنهم بحاجة إلى هذه الخطوة لإقناع الفصائل الأكثر تشددًا بمزايا محادثات السلام، أكد خليل زاد أن الولايات المتحدة ستحاول إقناع غني بالموافقة على ذلك. عندما علم ضباط الجيش الأمريكي أن طالبان قد تحصل على سجناء دون أن ينجح الأمريكيون في الاتفاق على وقف لإطلاق النار، أرادوا الانسحاب، حسب ما أكده أندرو وول، أحد القادة في مهمة في الدعم الحازم.
وقال وول إنه من الواضح أن خليل زاد “أراد إبرام صفقة تخدم مصالح طالبان، وقد بدا على استعداد لتحقيق كل مطالب الحركة”. وأضاف: “لم تكن الخطوط الحمراء التي علينا عدم تخطيها واضحة”. في الثالث من تموز/ يوليو، تم تحديث مسودة الاتفاقي لتشمل إطلاق سراح نحو خمسة آلاف من سجناء طالبان. (في المقابل، تتعهد طلق طالبان بإطلاق سراح ألف معتقل من الحكومة الأفغانية).
بعد أسبوع، سافر الجنرال أوستن ميللر، قائد قوات الناتو في أفغانستان، إلى الدوحة، والتقى بخليل زاد، وانضم إليهما نادر نادري ومتين بيك، من الوفد المفاوض الممثل للحكومة الأفغانية. يؤكد نادري وبيك أن العديد من أعضاء طالبان يتفاخرون بالنصر على أمريكا، وقال بيك لاحقا في لقاء مع خليل زاد: “من الواضح أن حركة طالبان لا ترغب بالتفاوض ولا تريد التوصل إلى أية تسوية سياسية، إنهم يعتبرون أنفسهم منتصرين في هذه الحرب”. لكن خليل زاد طمأنه قائلا: “لقد حاصرتهم. ستكون هناك تسوية سياسية”. (نفى خليل زاد حدوث هذا الحوار بينهما).
لم يكن هناك شيء يمكن الإعلان عنه في 14 تموز/ يوليو. في السابع من شهر آب/ أغسطس، ناقشت الوفود في النادي الدبلوماسي بالدوحة إضافة “ملحقين” سريين لمسودة الاتفاق الرئيسي لحل الخلافات المتبقية. وإدراكًا منه أن طالبان لن تنهي حملتها العسكرية ضد الحكومة، اقترح خليل زاد أن توقف جميع الأطراف القتال بشكل مؤقت في خمسة من مقاطعات البلاد البالغ عددها 34 حتى تتمكن الولايات المتحدة من البدء بسحب قواتها.
أما في بقية مقاطعات أفغانستان، فإنه يمكن للقوات الأمريكية التدخل إذا هاجمت طالبان قوات الحكومة الأفغانية، وإذا توقفت طالبان عن مهاجمة القوات الأفغانية في أي منطقة، ستقوم الولايات المتحدة بخطوة مماثلة، ويكون هناك وقف محلي لإطلاق النار. وصرحت ماري كاثرين في، نائبة خليل زاد، أن “نطاق الاتفاق لوقف تصعيد العنف سيكون رهين التزام طالبان”. وأضافت: “لديكم الخيار، إذا لم تهاجموا فلن نهاجم. هذا الاقتراح معقد ومن الأفضل وقف إطلاق النار في كل مكان”.
كان الاقتراح مثيرا للقلق ويؤشر إلى إمكانية استئناف الصراع من جديد. وافق كلا الجانبين على أن الولايات المتحدة لن تشارك في عمليات “هجومية” ضد طالبان. لكن الولايات المتحدة وطالبان اختلفتا بشأن الظروف التي يمكن للقوات الأمريكية أن تقوم فيها بالدفاع عن حلفائها. جادلت طالبان بأن قوات ميللر لا يمكنها أن تتدخل إلا ضد مقاتلي طالبان الذين يشاركون بشكل مباشر في الهجمات على القوات الأفغانية، في حين اعتبر ميللر هذا التفسير محدودا للغاية، وأكد أنه يستطيع التصرف بطرق أخرى، تشمل توجيه ضربات وقائية ضد مقاتلي طالبان الذين يخططون لشن هجمات.
في كلتا الحالتين، كان الواضح أن التنازلات الأمريكية لطالبان تشكل ضربة لقوات غني. لسنوات، اعتمدت القوات الأفغانية على القاذفات والمدفعية الأمريكية لدعم هجماتها البرية، وضرب معسكرات طالبان وخطوط الإمداد. وبعد الاتفاق، ستجد القوات الأفغانية نفسها بمفردها خلال الهجمات، ولن تتمكن بسهولة من طلب المساعدة الأمريكية.
لكن خليل زاد كان يعتقد أنه توصل إلى أرضية مشتركة ملائمة لإتمام الاتفاق. أرسل مسودة النص الختامي لأشرف غني – على الرغم من عدم وجود الملاحق المقترحة في البداية، لأنه كان قلقًا بشأن تسريب هذه الأجزاء. كما هو متوقع، عارض غني بعد البنود واقترح عددا من التغييرات. تجاهل بومبيو وخليل زاد معظم اقتراحاته ورتبا لإطلاع ترامب على الاتفاق في 16 آب/ أغسطس، في منتجعه الخاص في نيوجيرسي.
انضم خليل زاد إلى ترامب في غرفة الاجتماعات، وكان هناك نائب الرئيس مايك بنس وبولتون ومسؤولون آخرون في جهاز الأمن القومي. وخلال الاجتماع، أكد خليل زاد على تعهد طالبان بأنهم لن يسمحوا لتنظيم القاعدة بمهاجمة الولايات المتحدة. وعندما قال إن غني غير راضٍ عن الصفقة، أجابه ترامب: “لماذا تضيع وقتك في الحديث مع غني؟ إنه محتال”. وسأل ترامب خليل زاد عما إذا كان بإمكانه تقديم أي تنازلات لطالبان.
قال خليل زاد: “ما الذي تتحدث عنه، سيدي الرئيس؟”
ترامب: “المال مثلا”.
أجاب خليل زاد: “لا. إنهم مدرجون على قائمة الإرهاب. لا يمكننا منحهم المال”.
انتقل ترامب إلى مواضيع أخرى قبل أن يتمكن خليل زاد من توضيح أن حرب طالبان ضد الحكومة من المرجح أن تستمر.
في 25 آب/ أغسطس، وافقت حركة طالبان على مسودات الملحق النهائي لمكافحة الإرهاب وضوابط العمليات القتالية، والتي أُبرمت في الدوحة. منعت الوثيقة حركة طالبان من مهاجمة القوات الأمريكية وقوات الناتو أثناء انسحابهم. ونقل مسؤول حضر المفاوضات عن ميللر قوله لوفد طالبان: “إذا مات أحد الأمريكيين بعد التوقيع، فإن الاتفاق سينتهي”. أما بالنسبة لحرب طالبان المستمرة ضد الحكومة، فإن ميللر تعهد باتخاذ “الإجراءات الضرورية والمناسبة” للدفاع عن القوات الأفغانية عندما تتعرض للهجوم، دون الانخراط في أي عمليات “هجومية”.
كما قدم مبعوثو طالبان تعهدات شفوية وثقها المسؤولون الأمريكيون. فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب، قال ممثلو طالبان إنهم “يرحبون باستمرار العمليات الأمريكية” ضد تنظيم الدولة والقاعدة، وقالوا إنه إذا قصفت الولايات المتحدة تنظيم الدولة “سنعلق الورود حول رقابكم”. أما بالنسبة للقاعدة، فقد قالوا للأمريكيين، “اقتلوا ما شئتم”. كما تعهدت طالبان لميللر بعدم مهاجمة المدن الأفغانية الكبرى أو أي منشآت دبلوماسية.
في النهاية، هيّأ الاتفاق الظروف لانسحاب أمريكي آمن. كان ذلك في وقت انخفض فيه أعداد الضحايا الأمريكيين في أفغانستان منذ فترة طويلة. نادرًا ما شاركت القوات الأمريكية وقوات الناتو في القتال على الأرض؛ وكانت المهام الرئيسية هي حماية الحكومة وتدريب الجيش الأفغاني وتقديم الدعم الجوي. كانت هذه الأدوار حاسمة في المجهود الحربي، لكنها كانت أيضًا منخفضة المخاطر.
منذ سنة 2015، انخفض عدد الجنود الأمريكيين الذين يُقتلون في أفغانستان سنويا إلى أقل من اثني عشر جنديا، بينما قُدرت حصيلة القتلى السنوية بين قوات الجيش والشرطة الحكوميين بأكثر من ثمانية آلاف. ووفقًا للأمم المتحدة، أودت الحرب بحياة عدة آلاف من المدنيين سنويا.
في نهاية آب/ أغسطس، توصل ترامب إلى خطة لدعوة طالبان إلى كامب ديفيد لتوقيع الاتفاق. في 5 أيلول/ سبتمبر، انفجرت سيارة مفخخة في كابول، مما أسفر عن مقتل حوالي 12 شخصًا، بمن فيهم إليس أنجيل باريتو أورتيز، وهو رقيب في الجيش الأمريكي يبلغ من العمر أربعة وثلاثين سنة. في نهاية ذلك الأسبوع، أنهى ترامب محادثات السلام بتغريدة ألقى فيها باللوم على طالبان في عملية القتل قائلا: “إذا لم يوافقوا على وقف إطلاق النار خلال محادثات السلام المفصلية، وقتلوا 12 شخصًا بريئًا، فمن المحتمل أنهم لا يملكون القدرة على التفاوض على اتفاقية أخرى على أي حال”. وقال بومبيو لخليل زاد: “يجب أن تعود إلى الديار”.
عندما انسحب ترامب من الاتفاق، قال مسؤول كبير في البيت الأبيض: “لقد قفزت حرفيًا من شدة الفرح. لقد شعرت بسعادة غامرة عندما رأيت هذه التغريدة”. كان العديد من المسؤولين في الإدارة الأمريكية، بما في ذلك بولتون ومساعدو الأمن القومي الآخرون، يعتقدون أن شروط الاتفاق أفادت طالبان بشكل كبير، وكان البعض يراها تنازلا. (قال تشارلز كوبرمان، الذي أصبح نائبا لبولتون، إن فكرة التفاوض مع طالبان، وتجاهل الحكومة الأفغانية، كانت فكرة جنونية). لكن تلك الفرحة لم تدم طويلا.
بعد شهرين، أمّن فريق خليل زاد إطلاق سراح أستاذين، أمريكي وأسترالي، يدرسان في الجامعة الأمريكية في أفغانستان، كانا قد اختُطفا سنة 2016، واحتجزتهما حركة حقاني التابعة لحركة طالبان والمرتبطة بالقاعدة. وفي وقت سابق، كان غني قد أطلق سراح أنس حقاني، العضو الشاب في الشبكة. في أعقاب هذه العملية، طلب بومبيو من خليل زاد استئناف محادثات السلام.
في 7 كانون الأول/ ديسمبر، التقى برادر بخليل زاد مرة أخرى في الدوحة، وكان يحاول الحصول على تعهد أمريكي بمغادرة أفغانستان على الفور. قال برادر حينذاك: “هدفنا الرئيسي هو تحديد موعد” لتوقيع الاتفاق والإعلان عنه. وافق الوفدان على التوقيع على الاتفاق الذي تم التفاوض عليه في الصيف السابق، ووعدت طالبان بوقف العنف لمدة سبعة أيام قبل أن يصبح الاتفاق رسميًا، لإثبات التزامها. اتصل بومبيو بأشرف غني لإبلاغه بأن اتفاقًا بات في متناول اليد مرة أخرى، وعندها فقط علم غني أن بعض اقتراحاته تم أخذها بعين الاعتبار.
في 29 شباط/ فبراير 2020، في فندق شيراتون الدوحة، وقّع خليل زاد وبرادر، اتفاقية إحلال السلام في أفغانستان. نص الاتفاق على أنه في 10 آذار/ مارس 2020، “ستبدأ طالبان مفاوضات أفغانية محلية” سعياً لتحقيق سلام دائم، وتعهدت الولايات المتحدة بسحب قواتها المقاتلة بحلول أيار/ مايو 2021.
أصدر غني، الذي أدرك أنه لا خيار أمامه سوى التعاون، “إعلانًا مشتركًا” مع إدارة ترامب، أيد فيه الأهداف الكبرى للاتفاق مع توضيح عدم موافقته على البنود. خلال مراسم التوقيع في الدوحة، أخبر بومبيو الحاضرين أن الاتفاق “لن يعني شيئًا” ما لم “تتخذ جميع الأطراف إجراءات ملموسة بشأن الالتزامات والوعود التي قُطعت”. أصدر هيبة الله أخوند زاده، القائد الأعلى لطالبان، بيانًا من مكان مجهول وصف فيه التعهد الأمريكي بالانسحاب “بالنصر الجماعي للأمة المسلمة والمجاهدة بأكملها”.
في اليوم التالي، اتصل ترامب بغني، وقال: “نحن نعتمد عليك لإنجاز الأمر”، وهو ما يعني تقاسم السلطة مع طالبان. وتابع ترامب أن الاتفاقية “تحظى بتأييد من الشعب الأمريكي”.
ورد غني أن المفتاح سيكون “خطوة موثوق بها” من طالبان للحد من العنف، وقال إنه مستعد لإرسال فريق للتفاوض معهم. أجاب ترامب: “خطوة عظيمة. نحن بحاجة إلى القيام بذلك. اتصل بي إذا كنت بحاجة إلى أي شيء.”
بعد يومين، اتصل ترامب ببرادر، ووفقًا لمسؤول استمع إلى المحادثة، قال الرئيس الأمريكي: “أنتم يا رفاق مقاتلون أشداء”، ثم سأله: “هل تريد مني شيئًا؟”
ردّ برادر: “نحتاج إلى إطلاق سراح السجناء”، مضيفًا أنه سمع أن غني لن يتعاون. قال ترامب إنه سيطلب من بومبيو الضغط على غني.
في وقت لاحق من ذلك الشهر، التقى بومبيو بغني في كابول وحثه على التحلي بالمرونة بشأن إطلاق سراح سجناء طالبان، وأكد له التزام الولايات المتحدة بدعم الحكومة الأفغانية، وقال: “إذا لم نحصل على ما نريد فلن نغادر. لن نغادر إلا عندما يكون هناك حل سياسي”.
ردّ غني: “هذا الوضوح بأنك ستقف معنا في المفاوضات شيء لم نحصل عليه من قبل”.
أضاف بومبيو موضحا: “الشيء الوحيد الذي سيتغير هو إذا لم نحرز تقدمًا”. يبدو أن غني لم يستوعب هذا التحذير. في وقت لاحق، اقتبس غني تعليق بومبيو في حديث له مع دبلوماسي أوروبي، ووصفه بأنه “نقطة تحول”، ودليل على أن الولايات المتحدة لن تتخلى حقًا عن الحكومة الأفغانية حتى يتم توقيع اتفاق سلام نهائي.
في ذلك الربيع، قدمت طالبان أسماء خمسة آلاف سجين كانت تطالب بالإفراج عنهم قبل أن تبدأ محادثات تقاسم السلطة. قامت مجموعة من ضباط المخابرات الأمريكيين ومسؤولون آخرون بمراجعة أسماء القائمة التي قدمتها طالبان وأصدروا “قائمة اعتراض” تضمنت العديد من العناصر التي تمت إدانتها بعمليات قتل، ومنهم نرجس محمد حسن، وهي ضابطة في الشرطة الأفغانية مولودة في إيران، قتلت سنة 2012 مدرب الشرطة الأمريكي جوزيف غريفين في مقر أمني بالعاصمة كابول.
وكان على القائمة أيضًا السجين المعروف باسم حكم الله، وهو جندي أفغاني سابق قتل ثلاثة جنود أستراليين خارج الخدمة أثناء لعبهم البوكر.
كان مستشارو غني يضعون قائمة خاصة بهم تضم عدة مئات من السجناء الذين قالوا إنهم قتلة وخاطفون وتجار مخدرات، وبعضهم ينتظر تنفيذ حكم الإعدام. في أواخر أيار/ مايو، أطلق غني سراح أقل من ألف سجين، بعد أن أكد مستشاروه أنهم لا يشكلون خطورة بالغة. تمسكت طالبان بموقفها وقالت إنها لن تتفاوض إلا بعد إطلاق سراح الخمسة آلاف سجين. يقول خليل زاد: “أصبحت طالبان أكثر تعنتا، وكانوا يعلمون مدى خشيتنا من أن لا تبدأ المفاوضات بينهم وبين الحكومة”.
بدلاً من ممارسة المزيد من الضغوط على طالبان، واصلت إدارة ترامب التركيز على إقناع غني بتقديم التنازلات. وفي خضم أزمة السجناء، زار خليل زاد غني في قصر أرغ، حاملاً رسالة من ترامب: “نحن مستعدون للعمل مع الرئيس غني، ولكن إذا كان هناك تصور بأن الأهداف الكبيرة يمكن التضحية بها من أجل تفاصيل صغيرة، فإننا سنغير طبيعة علاقتنا”.
لم يتأثر غني بالتهديد، وقال لخليل زاد: “لا ندين للولايات المتحدة بأي شيء. إذا كنت ترغب في المغادرة، فغادر”.
من الواضح أن غني كان يفضل تحالفًا عسكريًا طويل الأمد مع واشنطن، وقد قضى معظم فترة رئاسته وهو يناشد المبعوثين الأمريكيين مزيدا من الدعم. كان الرئيس الأفغاني منزعجا من الآمال التي تعلقها عليه الولايات المتحدة.
في الواقع، كانت الدولة التي قادها غني تعتمد بشدة على المال والقوة العسكرية الأمريكية. يقول حمد الله محب مستشار غني للأمن القومي: “كانوا يعطوننا تلميحات حول ما يريدون منا أن نفعله، لكن إذا لم نفعل هذه الأشياء، كنا نواجه ضغوطًا شديدة”. كانت آمال غني بأن الحكومة يمكن أن تستمر دون دعم من الولايات المتحدة نوعا من التبجح أو مجرد أمنيات.
في تموز/ يوليو من ذلك العام، قرر ترامب تخفيض عدد القوات الأمريكية في أفغانستان بمقدار النصف تقريبًا، إلى حوالي أربعة آلاف جندي. أصيب خليل زاد بخيبة أمل، فقد توقع أن تجري إدارة ترامب مراجعة رسمية لامتثال طالبان لاتفاق الدوحة قبل سحب المزيد من القوات، لكنها لم تفعل. في تلك المرحلة، كان تقييم خليل زاد هو أن امتثال طالبان كان منقوصا.
توقفت طالبان عن مهاجمة القوات الأمريكية كما وعدت سابقا، وقللت الهجمات الانتحارية وتفجيرات الشاحنات المفخخة في المدن وعواصم المقاطعات الكبيرة. كما التزمت بوقف إطلاق النار لمدة ثلاثة أيام خلال عيد الفطر في أواخر مايو/ أيار، وقد تم تطبيقه بشكل جيد. مع ذلك، استمرت الحركة بمهاجمة القوات الأفغانية، مما أسفر عن مقتل مئات الأفغان.
التقى مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة، مع غني في كابول وأكد له أن الانسحاب لا يعني أن الولايات المتحدة ستتخلى عن أفغانستان. وقال ميلي: “لقد وقعنا على الانسحاب المشروط”، مستخدمًا نفس كلمات بومبيو: “ستبقى القوات الأمريكية حتى يتم استيفاء شروط معينة”، وكان من بين تلك الشروط أن تبدأ طالبان والحكومة بالمفاوضات. مع ذلك، كان من الواضح للجميع الآن أن ترامب يمكن أن يخذل جنرالاته في أي وقت.
في 29 تموز/ يوليو، التقى خليل زاد وميللر، قائد القوات الأمريكية وقوات حلف شمال الأطلسي، مع غني في مقر إقامته، بضمانات جديدة من برادر. أبلغ الأمريكيون غني أنه إذا أطلق سراح كل من تضمنتهم قائمة طالبان، فمن المرجح جدًا أن “تقلص الحركة العنف بشكل كبير” وتبدأ محادثات تقاسم السلطة على الفور. رفض غني الاقتراح، وقال: “إذا كانت الولايات المتحدة تريد إطلاق سراح الأشخاص الذين صدرت بحقهم أحكام بالإعدام، وأكبر تجار مخدرات في العالم، فعليها أن تتحمل المسؤولية عن ذلك، أما أنا فلا”.
في النهاية، اتفق غني مع الأمريكيين على إعطائهم ما يريدون، ودعا لاجتماع “لويا جيرغا”، وهي هيئة استشارية قبلية، لتقرير مصير سجناء طالبان الأكثر خطرا. في أوائل آب/ أغسطس، وافق “لويا جيرغا” على إطلاق سراح كل من تضمنتهم قائمة طالبان، بما في ذلك نرجس حسن والسجناء الآخرون في “قائمة الاعتراض”. (قال مسؤول استخباراتي أفغاني إنه بعد أسابيع من إطلاق سراح حسن، سأل موظف من مكتب التحقيقات الفيدرالي عن إمكانية اعتقالها مجددا، لكنها كانت قد فرت إلى إيران).
في 12 سبتمبر/ أيلول، في منتجع شرق بالدوحة، انطلقت المحادثات بين الأفغان رسمياً، بعد ستة أشهر من اتفاق الدوحة. كان وفد الحكومة المكون من 21 مندوباً يستعد للمفاوضات منذ أشهر، وقد تدربوا في مؤسسة ألمانية حول كيفية التفاوض من أجل السلام. لكن في الدوحة، وجد وفد كابول أن طالبان كانت عنيدة للغاية. استغرق الأمر أكثر من شهرين للاتفاق على بند واحد من جدول الأعمال. تقول حبيبة سرابي، التي كانت ضمن وفد الحكومة، إن طالبان “كانت تشعر بنوع من الفخر لأنها هزمت الولايات المتحدة”.
في نفس الفترة، شن مقاتلو الحركة هجمات في قندهار وهلمند، في انتهاك واضح لاتفاق الدوحة” وفق تصريحات ميللر. خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من سنة 2020، بعد إطلاق سراح السجناء، تصاعد العنف في جميع أنحاء أفغانستان وارتفع عدد الضحايا المدنيين بنسبة 45 بالمئة مقارنة بسنة 2019.
وذكرت الأمم المتحدة أن الهجمات “أدت إلى تفاقم الخوف وأثرت على فئات كثيرة من المجتمع”. ونددت طالبان من جانبها بالضربات التي نفذتها الولايات المتحدة دعما للقوات الأفغانية ووصفتها بأنها انتهاك لاتفاق الدوحة. قدمت الحركة أكثر من 600 شكوى لفريق خليل زاد، واستخدمت ذلك لتبرير هجماتها المكثفة ضد كابول.
عندما كان جو بايدن مرشحا لمجلس الشيوخ سنة 1972، في سن التاسعة والعشرين، قامت حملته الانتخابية على معارضة حرب فيتنام. لم تكن رؤيته أن الحرب غير أخلاقية، بل كان يعتقد أن الأمر “مجرد إهدار للوقت والمال والأرواح بناءً على فرضية خاطئة”، مثلما قال لاحقًا في مذكراته. كان بايدن ينظر للحرب الأفغانية من الزاوية ذاتها.
سنة 2009، عندما كان يشغل منصب نائب للرئيس، التقى مع كرزاي، الرئيس الأفغاني في ذلك الوقت، والذي طلب منه العمل بجدية أكبر على وقف الدعم الباكستاني لطالبان. أجاب بايدن، وفقًا لكرزاي ومسؤول أفغاني آخر حضر اللقاء: “سيدي الرئيس، باكستان أهم خمسين مرة للولايات المتحدة من أفغانستان”.
سنة 2015، انضم غني وعبد الله إلى بايدن لتناول الإفطار في واشنطن، وقد أكد لهما أن الحرب الأفغانية “لا يمكن الانتصار فيها”. ووفقًا لمستشار غني للأمن القومي، حمد الله محب، فقد اقتنع المسؤولون الأفغان حينها بأنه إذا وصل بايدن إلى الرئاسة، “فمن المرجح أنه سيتخذ قرارا بالانسحاب”.
بعد انتخابه في تشرين ثاني/ نوفمبر 2020، عيّن بايدن جيك سوليفان مستشارًا للأمن القومي وأنتوني بلينكن وزيرا للخارجية. يتمتع كلاهما بسنوات من الخبرة في العمل الحكومي، وكانا على اطلاع كاف على الخيارات السياسية المزرية في أفغانستان. وفي ذلك الوقت، لم يكن واضحًا ما إذا كان بايدن سيتبع اتفاق ترامب بشكل كلي أو يتخلى عنه أو يجري تعديلات ردًا على أعمال العنف التي تقوم بها طالبان.
خلال الفترة الانتقالية الرئاسية، أرسل سوليفان وبلينكين ومستشارون آخرون إلى بايدن مذكرة تفيد بأن المحادثات مع طالبان لم تُفض إلى شيء. ويبدو أن خليل زاد قد فشل في جعل طالبان والحكومة الأفغانية يعملان معًا، لكن بايدن طلب منه البقاء في منصب المبعوث الخاص بشكل استثنائي على الأقل خلال الربيع.
كان خليل زاد على معرفة بجميع الممثلين، وإذا أرادت إدارة بايدن الالتزام بالموعد النهائي لاتفاق الدوحة في الأول من أيار/ مايو بانسحاب كامل للقوات الأمريكية، فسيتعين عليها الإسراع.
بمجرد أن تولى بايدن مهامه، سعى محب لعقد اجتماع في البيت الأبيض، لكنه لم يُسمح له سوى بإجراء مكالمة هاتفية. ويُذكر أن محب حصل على درجة الدكتوراه في الهندسة الكهربائية من بريطانيا وعمل سفيرا لأفغانستان في واشنطن من 2015 إلى 2018، وكان مستشار غني للأمن القومي لمدة ثلاث سنوات. كان منهجيا وهادئا ويصعب التنبؤ بأفكاره، وكان مخلصا بشدة لغني الذي كان مصدر إلهامه، ولكن كان يُنظر إليه بشكل متزايد على أنه أداة في يد إدارة غني.
في 22 كانون الثاني/ يناير، هاتف محب سوليفان، الذي أخبره بأن الإدارة الجديدة سعت إلى الحفاظ على المكاسب الاجتماعية والاقتصادية لأفغانستان، بما في ذلك “الديمقراطية وحقوق المرأة وحقوق الأقليات”. وأضاف سوليفان “إذا لم تنخرط طالبان في مفاوضات جدية وصادقة في الدوحة، فسوف يتحملون عواقب اختياراتهم”. وأردف قائلا أنه لم يقصد بذلك “تأجيج الصراع، وإنما إلقاء نظرة واقعية على الوضع”.
افتتح سوليفان مراجعة للسياسة المشتركة بين الوكالات في مجلس الأمن القومي متحدثًا عن الإحاطات والمناقشات التي من شأنها أن توجيه قرار بايدن بشأن أفغانستان. تقلص عدد القوات الأمريكية في أفغانستان إلى 2500، وهو أمر سرعان ما أدركه ميللر، قائد مهمة الدعم الحازم، فحثّ بايدن على أن يُبقي هذه القوات في مكانها إلى ما بعد الموعد النهائي، ولكنه بدا متشائمًا بشأن ما سيحدث للجيش الأفغاني إذا انسحبت القوات الأمريكية.
تركّز معظم النقاش على ما إذا كان من المنطقي الاستمرار في التفاوض من أجل التوصل إلى اتفاق بين طالبان والحكومة الأفغانية، وإذا كان الأمر ممكنا فإلى متى ستستمر. وهذا ما قاله كل من ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة، وأوستن وزير الدفاع، لبايدن أثناء مراجعة السياسات: “سيدي، لسنا مع البقاء في أفغانستان إلى الأبد”. لكنهما اقترحا تمديد وجود القوات الأمريكية لمدة تصل إلى عام، على أمل الضغط على طالبان للتعامل مع مفاوضات تقاسم السلطة بجدية أكبر.
لم يتضح لماذا من الممكن أن يساهم تأجيل انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان إلى تسهيل المحادثات التي فشلت مرارا وتكرارا في التقدم. اعتبر مسؤولو البيت الأبيض سيناريو البنتاغون مجرد طريقة أخرى للتوصية ببقاء القوات هناك إلى أجل غير مسمى. وإذا هاجمت طالبان قوات الناتو، فقد يضطر بايدن إلى إرسال المزيد من القوات أو الأمر بالانسحاب تحت الضغط. ومن هنا، تم وضع مقترحات البنتاغون جانبًا وتحول النقاش إلى ما يمكن أن يحدث في حال انسحبت الولايات المتحدة من أفغانستان.
في الدوحة، لم تقدم المحادثات بين مبعوثي طالبان وكابول دليلاً يُذكر على تحقيق أي تقدم دبلوماسي. كان ممثلو غني يقيمون في منتجع ولديهم القليل من العلاقات مع قطر. وذكرت سارابي مندوبة كابول، أن مبعوثي طالبان الذين كان لديهم منازل في الدوحة وعائلات وشركات هناك، كانوا يترددون على المنتجع “كل يومين أو ثلاثة أيام” في الليل فقط. لكن في كانون الثاني/ يناير، لم تظهر وفود طالبان لإجراء محادثات كما هو مقرر.
حتى الآن، فقد العديد من مندوبي كابول ثقتهم في خليل زاد، واتهمته سرابي بالانحياز إلى جانب طالبان. كما قالت إنه من “الواضح جدا” أن خليل زاد “يريد أن تكون طالبان على رأس الحكومة”. صحيح أن زاد اعتقد أن غني ينبغي أن يتنحى عن منصبه لكي يتسنى تشكيل حكومة انتقالية، ولكنه يقول إنه “لم يؤيد أبدا” تعيين زعيم من طالبان في السلطة. وإلى حد ما، ألقى اللوم في المأزق القائم على تعنت غني، حيث قال في وقت لاحق، إن أكبر خطأ ارتكبه هو إخفاقه في ممارسة المزيد من الضغط على غني لتقديم تنازلات.
في أوائل سنة 2021، توصّل خليل زاد وبلينكن إلى حل بديل يتمثل في إطلاق عملية سلام “معجلة” من شأنها أن تضع المفاوضات في الدوحة جانبا من أجل القفز إلى اتفاق نهائي لتقاسم السلطة بين تنظيم الحكومة الأفغانية وطالبان. وقد ساعد خليل زاد في كتابة مسودة من ثماني صفحات لما يسمى باتفاقية السلام في أفغانستان، التي عكست تفاؤلا كبيرًا: لقد تخيل دستورا جديدا؛ حكومة انتقالية وبرلمان شامل للعديد من أعضاء طالبان؛ إلى جانب المحاكم المعاد تشكيلها في حلة جديدة، وتشكيل المجلس الأعلى للفقه الإسلامي؛ ووقف إطلاق النار على الصعيد الوطني. وأعرب عن أمله في أن توافق طالبان والحكومة الأفغانية على حضور قمة السلام في تركيا.
في 22 آذار/ مارس، التقى بلينكن بوزراء خارجية الناتو، الذين أصروا على أن الولايات المتحدة يجب أن تبذل المزيد من الجهد من أجل التوصل إلى تسوية سياسية في أفغانستان. وقد تحدث بلينكن إلى بايدن بشأن إمكانية تأجيل انسحاب القوات إلى ما بعد القمة في تركيا، على الرغم من أن طالبان لم توافق على المشاركة بعد. وقال بلينكن إن هذا يُظهر لحلفاء الناتو أن الولايات المتحدة مرحبّة بالمفاوضات، لكنه يعني أيضًا خرق اتفاق الدوحة.
التقى خليل زاد بممثلي طالبان وقال إنهم إذا أرادوا أن تتمتع أفغانستان بدعم واعتراف دوليين، فإن عليهم قبول تأجيل انسحاب الولايات المتحدة حتى التوصل إلى اتفاق في تركيا بشأن تقاسم السلطة. وعندما لاحظ ممثلو طالبان في المفاوضات أن الأمريكيين كانوا يتحدثون عن خرق اتفاق الدوحة، لم يهددوا مباشرة بتجديد الهجمات ضد قوات الولايات المتحدة وقوات الناتو. وحسب مسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية أوضحوا أن “أشياء سيئة ستحدث”.
في الخامس من نيسان/ أبريل، اتصل جون فينر، نائب مستشار الأمن القومي لبايدن، بمحب وأخبره أنه من غير المرجح أن تنسحب الولايات المتحدة من أفغانستان قبل مطلع أيار/ مايو، مشيرا إلى أن أي تمديد قد يكون “لفترة محدودة”.
واصل البيت الأبيض تعليق آمل على المحادثات مع طالبان وإمكانية أن تسهل عملية الانتقال. وحيال هذا الشأن، قال فينر: “من المهم أن تتحدث الحكومة الأفغانية بصوت واحد” وأن تدعم عملية السلام بشكل كامل، وأن تتبنى “موقفًا بنّاء وواعيًا” تجاه المحادثات مع طالبان.
استنتج كل من محب وغني أن الوجود الأمريكي في أفغانستان سينتهي قريبًا، وتوقع كلاهما أن بايدن سيحدد موعدًا للانسحاب بعد انتهاء الصيف، حيث من المرجح أن تحد ثلوج الشتاء من حركة طالبان. بعد تسعة أيام، عندما أعلن بايدن قراره، وصف اتفاق إدارة ترامب مع طالبان بأنه “ربما ليس ما كنت سأتفاوض عليه بنفسي”، معلنا عن انطلاق الانسحاب الكامل بحلول 11 أيلول/ سبتمبر.
نشر غني بيانًا على تويتر أعرب فيه عن احترامه لقرار بايدن، وكتب قائلا: “قوات الأمن والدفاع الأفغانية الفخورة قادرة تمامًا على الدفاع عن شعبها وأرضها”. في غضون أيام، أوضحت طالبان أنها لن تشارك في قمة خليل زاد للسلام في تركيا، ما أفشل الجهود الدبلوماسية التي بذلتها الولايات المتحدة منذ سنوات للتوسط في إرساء السلام بين طالبان والحكومة الأفغانية.
كانت طالبان تدير حكومات الظل في مناطق ريفية مختلفة، لكنها لم تسيطر أبدا على أي مدينة أفغانية كبيرة، في حين احتكرت قوات الناتو، ثم القوات الجوية الأفغانية، القوة الجوية، في ظل عدم امتلاك طالبان أي طائرات حربية أو صواريخ فعالة مضادة للطائرات على ارتفاعات عالية. لكنها مع ذلك، كانت قادرة على إسقاط طائرات الهليكوبتر أو الطائرات التي تحلّق على ارتفاع منخفض بأسلحتها البسيطة.
في كل مرة احتشدت طالبان لشن هجوم كبير أو استولت مؤقتا على مدينة معينة، كانت تعرض نفسها لضربات جوية مدمرة. بعد سنة 2018، عندما تولى ميللر قيادة “مهمة الدعم الحازم”، شجّع قوات غني على مضاعفة قوات النخبة في القوة الجوية. وبحلول سنة 2021، كان لدى القوات الجوية الأفغانية ثمانية آلاف فرد وأكثر من 180 طائرة.
بعد إعلان بايدن، بدأ ميللر إجلاء الجنود الأمريكيين من البلاد، وغادر أيضًا المقاولون الدوليون الذين عملوا في صيانة طائرات الهليكوبتر والطائرات المقاتلة الأفغانية. قال ميللر: “لن تتمكن الشركات من حماية الناس هناك إذا لم يكن لديها حماية شاملة سواء من الولايات المتحدة أو قوات الناتو”.
في أيار/ مايو الماضي، علم رئيس أركان الجيش ووزير الدفاع، ياسين ضياء، أن القيادة المركزية الأمريكية المشرفة على الحرب الأفغانية ستحاول توفير “صيانة عن بُعد” للطائرات عبر اتصالات الفيديو على أجهزة “آيباد” بواسطة متخصصين في قطر.
يتذكر ضياء: “قالوا إن الميكانيكي التابع لنا سيفتح تطبيق زوم بينما يقوم الشخص الآخر من قطر بإخباره بما يجب فعله”. ويُذكر أن القيادة المركزية كانت تخطط لفتح ورشة لإصلاح الطائرات في الإمارات العربية المتحدة، على بعد حوالي ألف ميل من أفغانستان، لكن طائرات الهليكوبتر الأفغانية لم تكن قادرة على التحليق إلى هذا الحد، في حين أن اجتياز الطائرات الأفغانية المجال الجوي الباكستاني تطلّب مفاوضات معقدة مع الجيش الباكستاني.
قال مسؤول رفيع المستوى في وزارة الخارجية أنه بحلول حزيران/ يونيو “لن تكون الطائرات الأفغانية قادرة” على الاستمرار في العمل. وبغض النظر عن مسألة الصيانة، كانت المشكلة الأساسية، وفقا لمسؤول رفيع في وزارة الدفاع، هي “أننا كنا نغادر”. وبما أن الجيش الأفغاني بأكمله صُمم للعمل بمعونة أنظمة وخبرات الولايات المتحدة، انهارت القوات الأفغانية بمجرد انتهاء هذا الدعم.
في السنوات الأخيرة، ورث الجيش الأفغاني عشرات القواعد العسكرية. وحسب صالح، النائب الأول للرئيس، كان من الممكن الدفع عن هذه القواعد ولكن لم يكن من السهل توفير الإمدادات لها”، في ظل استيلاء طالبان على المزيد من الأراضي وإغلاق الطرق السريعة.
في ذلك الربيع، كتب صالح في رسالة بريد إلكتروني: “كانت هناك أيام كنت أتلقى فيها ما يصل إلى ألف رسالة على “واتسآب” أو هاتفي من هذه القواعد المحاصرة التي يطلب العاملون فيها المساعدة”. قام العديد من الجنود الذين تقطعت بهم السبل بنشر قصص اليأس التي عاشوها على وسائل التواصل الاجتماعي. وأضاف صالح: “ارتفعت معدلات الفرار من الجندية إلى 700 جندي في اليوم بسبب الجوع والعطش ونقص الإخلاء الطبي والدعم اللوجستي والجوي”.
في أوائل تموز/ يوليو، عاد غني ومستشاروه من زيارتهم لواشنطن، وأظهروا ثباتهم وتفاؤلهم، لكن محب اعترف قائلا “كنا في الحقيقة يائسين للغاية”. عندما بدأ انسحاب القوات الأمريكية، سيطرت طالبان على حوالي ثمانين منطقة إدارية من أصل أربعمائة منطقة إدارية في أفغانستان، وذلك وفقا لتقديرات صحيفة “لونج وور جورنال”.
بحلول العاشر من تموز/ يوليو، سيطرت طالبان على أكثر من مئتي منطقة إدارية، وسرعان ما استولت على المعابر الحدودية المؤدية إلى إيران وباكستان، إلى جانب عائدات جمركية مربحة، ثم طوّقت المدن الكبرى واحتلت مناطق جديدة قريبة من كابول. ذكر محب: “لم نتمكن من وقف هذا الزحف، ولم نكن متأكدين تماما مما يمكن أو لا يمكن للأمريكيين توفيره”، وبدأ الانهيار بوتيرة متسارعة.
عندما بدأ الحديث عن الحرب، تطرق غني إلى الأخطاء الأمريكية، ولاسيما إصرار الأمريكيين على لتفاوض مع طالبان. وقد أخبر بلينكن بأن مفاوضيه في الدوحة أبلغوه أن “كل ما تريده طالبان هو انتصارٌ عسكري. مع احترامي، أخطأ زملاءنا الدوليون في قراءة نوايا طالبان وشخصيتها…. هل لدى زملائك وموظفيك أي تأويل آخر؟”.
في 23 تموز/ يوليو، اتصل بايدن بغني، وقال: “لست بحاجة إلى إخباركم بشأن التصورات حول العالم، وفي أجزاء من أفغانستان. على ما أعتقد، إن الأمور لا تسير على ما يرام فيما يتعلق بالقتال ضد طالبان”. كان الجنرالات الأمريكيون يحاولون إقناع غني بوضع خطة عسكرية جديدة؛ بحيث تركز القوة الجوية على الدفاع عن المراكز السكانية الرئيسية مثل كابول. اقترح بايدن أن يعقد غني مؤتمرا صحفيا في الأسبوع التالي مع سياسيين أفغان معروفين، بمن فيهم عبد الله ودستم وكرزاي، إلى جانب محمد محقق، زعيم أقلية الهزارة الأفغانية. واقترح بايدن “توحيد لجهود” مع وزير الدفاع بسم الله خان، “لدعم هذه الاستراتيجية الجديدة” للدفاع عن كابول والمدن الكبرى.
أضاف بايدن “أنا لست رجلا عسكريًا، لذا فأنا لا أخبرك بالشكل الذي يجب أن تبدو عليه الخطة بدقة”، ولكن إذا وافق غني على هذه الفكرة، “لن يتسنى لكم الحصول على المزيد من الدعم العسكري الأمريكي فقط، بل أيضًا تعزيزًا لمشروع التغيير. سنواصل تقديم الدعم الجوي القريب، إذا عرفنا ما هي الخطة والمسار”.
أجابه غني بأنه سيعقد مؤتمرًا صحفيًا في ظل الحاجة إلى المزيد من الطائرات الأمريكية لشن غارات جوية على طالبان، مؤكدًا: “المهم هو الدعم الجوي القريب”. ردّ بايدن: “الدعم الجوي القريب لن ينجح إلا إذا كانت هناك استراتيجية عسكرية على الأرض لدعمه”. وأشار إلى أنه سيطلب من أحد كبار جنرالاته الاتصال بغني على الفور لمزامنة الخطط العسكرية.
بعد يومين، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) أنها بدأت في تنفيذ ضربات جوية مكثفة ضد طالبان استمرت في “الأسابيع المقبلة”. ظهر غني مع مجموعة من القادة السياسيين وسافر إلى المحافظات والقواعد العسكرية لحشد القوات المسلحة. وفي الثاني من آب/ أغسطس، عندما عرض الاستراتيجية العسكرية الجديدة لحكومته على البرلمان، انتقد إدارة بايدن قائلا: “سبب وضعنا الحالي هو أن القرار تم اتخاذه بشكل متهور”. مع ذلك، توقع أن تكون الأمور في حكومته “تحت السيطرة في غضون ستة أشهر”.
قرّر غني السفر إلى طهران لحضور مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي في 5 آب/ أغسطس. لعدة سنوات، كان غني يتفاوض على اتفاقية أمنية واقتصادية مع إيران. وقبل مغادرته تحدث مع بلينكن، وأمضي الدقائق العشر أو الخمس عشرة الأولى من المكالمة في التطرق إلى العواقب المحتملة للاتفاق بين كابول وطهران على السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وحذر بلينكن غني قائلاً: “إذا تم انتهاك قوانين الولايات المتحدة، فإن ذلك قد يوقف الدعم الأمريكي”. وخلال المحادثة، كان هناك افتراض بأن الحكومة الأفغانية صامدة وقادرة على الاستمرار.
عندما بدأ الحديث عن الحرب، تطرق غني إلى الأخطاء الأمريكية، ولاسيما إصرار الأمريكيين على لتفاوض مع طالبان. وقد أخبر بلينكن بأن مفاوضيه في الدوحة أبلغوه أن “كل ما تريده طالبان هو انتصارٌ عسكري. مع احترامي، أخطأ زملاءنا الدوليون في قراءة نوايا طالبان وشخصيتها…. هل لدى زملائك وموظفيك أي تأويل آخر؟”.
ردّ بلينكن أنه لا يزال أمام غني طريقة أخرى لإيجاد اتفاق “دون إضعاف موقفه”. عمل خليل زاد على اقتراح جديد: وقف إطلاق النار لمدة شهر مقابل إطلاق سراح ثلاث آلاف سجين. ولكن غني رفض ذلك قطعيًا لأنه في حال إطلاق سراح الآلاف من سجناء طالبان “ستنهار البلاد… لن تقاتل قواتنا الأمنية مرة أخرى”.
حاولت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون لأسابيع تجنب إجلاء موظفيهم أو الأفغان الذين عملوا معهم خوفا من يبدو ذلك أشبه بإجلاء جماعي ولكن بحلول أوائل آب/ أغسطس كان الجيش البريطاني قد أخلى مقر جهاز استخبارات أفغاني كان يعترض اتصالات طالبان.
في السادس من آب/ أغسطس، استولت طالبان على زرنج في مقاطعة نيمروز جنوبًا، لتكون بذلك أول عاصمة إقليمية تسقط أمامها. وفي اليوم التالي، دعت السفارة الأمريكية جميع مواطنيها إلى مغادرة أفغانستان. واصل مكتب غني نشر تقارير عن التطورات الحاصلة عبر منصات التواصل الاجتماعي وحول حملة التحديث في أفغانستان. غابت الواقعية عن البيانات الصحفية، فيما اعتبرته أكبر “ربما آلية للتكيف”، مشيرةً إلى أن “التظاهر اليومي بأن الحياة طبيعية” بدا وكأننا “نعيش في عالم موازي”. في العاشر من آب/ أغسطس، أعلنت صفحة غني الرسمية على فيسبوك عن مشاريع بنى تحتية جديدة، بما في ذلك مشروع في مدينة قندوز الشمالية، حيث يرفرف علم طالبان الآن.
عندما غزت طالبان أفغانستان في منتصف التسعينيات، واستولت على بعض المدن الأفغانية بأقل قدر ممكن من المعارك، ووافقت على استسلام الأعداء دون التسبب في أعمال انتقامية فورية. كانت التغيرات السريعة وغير الدموية في السلطة عبارة عن نمط متكرر في الحرب الأهلية الأفغانية، تعكس إحساس المقاتلين بالانتماء، حتى في خضم العنف الذي لا يرحم. كان الاستسلام والإفراج المشروط والهدنة المحلية المؤقتة من الممارسات الراسخة، إلى جانب القتل الانتقامي والإعدام الموجز.
في الصيف الماضي، أفاد بسم الله خان بأن طالبان كانت تعرض المال على الجنود الأفغان وتصريح عبور من أجل حمايتهم من المضايقات بعد استسلامهم وعودتهم إلى أوطانهم. وبحلول آب/ أغسطس: “كانت الأموال تغير ولاء الجنود بمعدل سريع”، وذلك حسب ما صرح به أحد كبار العسكريين البريطانيين، حيث كانت “طالبان تشتري القوات الأفغانية”.
حاولت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون لأسابيع تجنب إجلاء موظفيهم أو الأفغان الذين عملوا معهم خوفا من يبدو ذلك أشبه بإجلاء جماعي ولكن بحلول أوائل آب/ أغسطس كان الجيش البريطاني قد أخلى مقر جهاز استخبارات أفغاني كان يعترض اتصالات طالبان.
كانت عواصم المقاطعات الأفغانية تسقط الواحدة تلو الأخرى، في 12 آب/ أغسطس، سقطت غزنة. في ذلك المساء، قام بلينكن ولويد أوستن، وزير دفاع بايدن، بالاتصال بغني لإبلاغه أنّ ثلاثة آلاف جندي سيتوجّهون على متن الطائرات للسيطرة على مطار كابول. وفي الحقيقة، لم يتم إرسال القوات للدفاع عن كابول ضد هجوم طالبان، وإنما من أجل حماية الأفراد الأمريكيين الذين يتمّ إجلاؤهم. وفي اليوم التالي، استولت طالبان على مدن كبرى في قندهار وهرات. تحت الحصار، غادر دوستم البلاد قاصدا أوزبكستان، وتبعه عطا محمد نور، الزعيم القوي المستقل الآخر في الشمال.
أملا في التوصل إلى اتفاق قد يوقف هجوم طالبان على كابول، طلب زاد وفريقه من غني تعيين وفد بقيادة عبد الله وكرزاي للسفر إلى الدوحة والعمل على انتقال منظم مع بردار وزملائه. كانت الفكرة أنّ غني سيقبل كل ما يتفاوض عليه هذا الوفد، بما في ذلك التنحي عن منصبه. قال غني إنه مستعد للتخلي عن السلطة في حالة إجراء انتخابات لتحديد خليفته على المدى الطويل. رفض الأمريكيون ذلك ووصفوه واعتبروه طلبا غير الواقعي. يوم السبت 14 آب/ أغسطس، وسط تقارير تفيد بوجود وحدات من طالبان داخل كابول، تخلى غني عن طلبه. وكان يأمل ببساطة أن يحدث انتقال منظم للسلطة بدعم من “لويا جيرغا”.
أخبر غني بلينكن أنه مستعد لقبول ما يتفق عليه مبعوثوه وإدارة بايدن مع طالبان. في المقابل، طلب منه بلينكن “إرسال الوفد إلى الدوحة” في أسرع وقت ممكن، “ليُظهر لطالبان أنّ المفاوضات جادة”، مشيرا إلى ضرورة “وقف إطلاق النار لضمان هذه العملية”.
من جهته، طلب منه غني “الحرص قدر ما يستطيع على أن تكون مفاوضات جادّة”، وظلّ مصّرا على أنّ أي نقلٍ للسلطة يجب أن يصادق عليه البرلمان الأفغاني. وأضاف “أرجو أن تبلغوا طالبان بأنّ هذا ليس استسلاما”. ومن جانبه، قال بلينكن “الجدية هي بالضبط ما نريده أيضًا”.
في سياق متصل، أخبره غني أنه إذا رفضت طالبان هذا الجهد الأخير لتحقيق انتقال منظم للسلطة أو لم تتفاوض بحسن نية فإنه “سيقاتل حتى الموت”. تم تشكيل الوفد الذي طلبه بلينين – والذي ضمّ 13 شخصًا، بمن فيهم ابن دوستم وكرزاي وعبد الله ومحب – وأعلن أنهم سيقررون مصير الجمهورية الإسلامية في المفاوضات مع طالبان. وذكر محب أن غني أخبره أنه بهذا القرار شعر بأنّ الجمهورية الإسلامية لم تعد موجودة.
في دول العالم الفاشلة، “تتغدى الشبكات الشرسة من الإجرام والعنف والمخدرات على السكان المحرومين والأراضي الخارجة عن السيطرة”، هذا ما قاله غني في كتابه الصادر في سنة 2008. هذه المشكلة تكمن “في قلب أزمة نظامية عالمية”. كانت أفغانستان دولة فقيرة لكنها كانت تنعم بالاستقرار والسلم في معظم القرن العشرين، إلى غاية الغزو السوفيتي سنة 1979، الذي نتج عنه 42 عاما من الحرب المستمرة كانت القوى الخارجية السبب وراء معظمها.
لجأت باكستان والسعودية والولايات المتحدة إلى تمويل وتسليح المتطرفين الأفغان من أجل قتال السوفييت في الثمانينات. ومن جهتها، دعمت باكستان طالبان ماليا وعسكريا من أجل ضمان وصولها إلى السلطة في منتصف التسعينات. ساهم الغزو الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية بعد 11 أيلول/ سبتمبر في تمكين أمراء الحرب الفاسدين من التحكم في أفغانستان باسم مكافحة الإرهاب، وبعد سقوط طالبان فشل الأمريكان في منع باكستان من إحياء هذه الحركة مجددا.
بحلول الوقت الذي أصبح فيه غني رئيسًا للبلاد في سنة 2014، تمتعت الميلشيات المتمردة طوال عقد من الزمن بالملاذ الآمن والمساعدة السرية من الجيش الباكستاني وجهاز المخابرات، وقد قوّضوا قدرة الجمهورية الإسلامية على الحكم والدفاع عن نفسها. في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا كان الرأي العام ضد الحرب في أفغانستان مما أدى إلى تقليص القوات والمساعدات. ورغم الجهود التي بذلها غني لتعزيز الديمقراطية في أفغانستان، لم يكن من المتوقع أبدًا أن يتمكن من تخطي هذا التاريخ المضطرب للبلاد، خاصة بعد عام 2017، عندما كان على الجمهورية الاسلامية التعامل مع القرارات المتهورة لدونالد ترامب.
من الصعب تقييم القرار الأخير الذي اتخذه غني بمغادرة بلاده نهائيا بصفته رئيسًا. في آب/ أغسطس الماضي، اتهم سفير أفغاني سابق لدى طاجكستان غني بسرقة أكثر من 150 مليون دولار أثناء فراره من أفغانستان، دون تقديم أي دليل يدعم مزاعمه. وقد وصف غني هذه المزاعم “بأنها كاذبة تماما وبشكل قاطع”. وفي الولايات المتحدة، أجرى المفتش العام الخاص بإعادة إعمار أفغانستان تحقيقا بخصوص هذا الموضوع، ولكن من غير المعروف ما مدى صحة هذه الاتهامات.
في أواخر تموز/ يوليو، ناقش غني ومحب لأول مرة إمكانية الاضطرار إلى الفرار. كانت إحدى أولويات غني حماية مجموعة كتبه. كان يفضل الانسحاب من العاصمة إلى شرق أفغانستان، حيث يتمركز حلفاءه السياسيون والعسكريون. اعتقد محب أنه إذا بات السفر إلى الخارج ضروريا، فإن طاجكستان وأوزباكستان ستكونان الوجهة الأنسب، حيث يمكن الوصول إلى البلدين في رحلة واحدة على متن إحدى طائرات الهليكوبتر الأربع من طراز مي-17 التابعة للرئيس الأفغاني.
في آب/ أغسطس، طلب محب من قهار كوتشاي، قائد جهاز الأمن الرئاسي، وضع خطة طوارئ على هذا المنوال. لكن مع وصول طالبان إلى ضواحي كابول وإسراع الولايات المتحدة بإجلاء مواطنيها وحلفائها الأفغان، لم يكن محب يعرف ما إذا كان هو وغني قد فكّرا في إخلائهم من قبل واشنطن.
يوم 14 من ذلك الشهر، علم محب أنّ أحد زملائه في القصر الرئاسي كان ضمن قائمة الأفغان المعرضين للخطر التي وافقت عليها السفارة الأمريكية لإجلائهم. بعد ظهر ذلك اليوم، تحدث محب عبر الهاتف مع أحد معارفه في وزارة الخارجية. وخلال نقاش حول محادثات السلام، توقف محب ليسأل “هل هناك خطة إخلاء لنا، أنا وغني؟” فطلب المسؤول طلب كتابيًا. آنذاك، كتب محب رسالة نصية قال فيها: “أود أن أطلب إدراجي أنا والرئيس غني في خطة الإخلاء الخاصة بكم في حالة عدم نجاح التسوية السياسية”. فجاءه الرد “تم استلام الرسالة”.
شعر محب بالاضطراب جراء عدم انتظام تبادل الرسائل، وهو ما دفعه إلى الاعتقاد بأن شركاءه لن يقوموا بإنقاذه، لذلك اتصل بمسؤول كبير في الإمارات الذي أكد له أن دولة الإمارات ستوفر الدعم له ولكبار مساعديه. وأضاف محب أنه وعده بإرسال طائرة تنفيذية إلى كابول يوم الإثنين 16 آب/ أغسطس، وأن الطائرة ستبقى رابضة في المطار مع تأهب الطيارين للسفر فور تلقي الإشارة.
لمنع التسريبات التي قد تصل إلى طالبان أو تنظيم الدولة، لم يُبلغ ويلسون غني بحقيقة أن المنطقة الخضراء لم تعد آمنة ولا بقرار إخلاء السفارة. واحتفظ مسؤولو وزارة الدفاع بقائمة من الجنرالات الأفغان وكبار مسؤولي الدفاع الذين من المقرر إجلاؤهم من البلاد
كان محب طرفًا في دردشة جماعية على تطبيق “سيغنال” ضمت بعض مسؤولي المخابرات والأمن في البلاد. في ليلة الـ 14، وردت بعض الأخبار السيئة بشأن سقوط ننغرهار في أيدي طالبان، مثلما حدث في العديد من المقاطعات الأخرى. صباح الأحد 15 آب/ أغسطس، توجّه محب من مقر إقامته الرسمي إلى مكتب غني لحضور اجتماعهم اليومي الخاص بالموظفين على الساعة التاسعة صباحًا. وصلته حينها رسالة من أن عناصر من طالبان وصلوا إلى كابول، وأن المسلحين قد يكونون عناصر متخفين من طالبان قرروا الكشف عن هويتهم، أو مجرمين متنكرين في هيئتهم، أو قد يكونون قوة غزو. كانت هناك أيضًا تقارير عديدة تفيد بأن رجال شرطةٍ وجنود وحراس في كابول يقومون بخلع زيهم الرسمي ويعودون إلى منازلهم.
صباح ذلك اليوم في الدوحة، ذكر خليل زاد نه التقى بردار في فندق ريتز كارلتون. وقد وافق بردار خلال مناقشتهما على “عدم دخول كابول” وأنه سيسحب من وصفهم ببضع “مئات” من عناصر طالبان الذين دخلوا العاصمة بالفعل. بناء على تنازلات غني في اليوم السابق، كان خليل زاد يأمل ترتيب وقف إطلاق النار لمدة أسبوعين ونقلٍ منظم للسلطة في كابول، على أن تتم مباركته من طرف لويا جيرغا. كان خليل زاد على اتصال بعبد السلام رحيمي، مساعد غني، وقد أبلغه بهذه الخطة. ومن جهته، أخبر رحيمي الرئيس غني بأنّ طالبان تعهدت بعدم دخول كابول، وذلك بناء على تأكيدات من خليل زاد وممثلي طالبان، لكن غني يكن واثقًا فيما قيل له.
كان قصر أرغ والسفارة الأمريكية في ما يسمى بالمنطقة الخضراء في كابول محميان بالجدران الواقية والحراس المسلحين. وكانت مهمة الدعم الحازم تراقب الشوارع من منطاد المراقبة المجهز بكاميرات عالية الدقة. في حوالي الساعة التاسعة من صباح ذلك اليوم، استنتج روس ويلسون، القائم بالأعمال الأمريكي في كابول، بعد اطلاعه على مجموعة متنوعة من التقارير، أن العديد من رجال الشرطة والحراس قد تخلوا عن مواقعهم لدرجة أن شبكة الأمن في المنطقة الخضراء في الشوارع قد انهارت فعليًا. قام بالتشاور مع المسؤولين في واشنطن وأمر بالإخلاء الفوري لجميع الأفراد الأمريكيين المتبقين في مجمع السفارة إلى مطار كابول.
لمنع التسريبات التي قد تصل إلى طالبان أو تنظيم الدولة، لم يُبلغ ويلسون غني بحقيقة أن المنطقة الخضراء لم تعد آمنة ولا بقرار إخلاء السفارة. واحتفظ مسؤولو وزارة الدفاع بقائمة من الجنرالات الأفغان وكبار مسؤولي الدفاع الذين من المقرر إجلاؤهم من البلاد، بينما اعتبر البنتاغون عملية إجلاء غني المحتملة مشكلة على وزارة الخارجية النظر فيها. وحسب مسؤولي الدولة، لم يُنظر في هذه المسألة رسميًا.
كان صباح 15 آب/ أغسطس ساخنا. في حوالي الساعة الحادية عشرة، انضم محب إلى الرئيس غني ودبلوماسي من الإمارات العربية المتحدة. في منطقة الاجتماعات الخارجية، في حديقةٍ بجانب مكتب الرئيس. وأثناء مناقشتهم لخطة الإخلاء المحتملة، تمكنوا من رؤية سرب من طائرات الهليكوبتر الأمريكية من طراز شينوك وبلاك هوك تحلق في الأفق، وكان صوت محركاتها يبدو مثل صوت الطبول المكبوتة. ثم سمعوا طلقات نارية قادمة من مكان ما خارج أراضي القصر. فقام الحرس الشخصي بدفع غني إلى الداخل.
في الظهيرة، اجتمع محب مع غني في مكتبته. واتفقا على وجوب مغادرة رولا زوجته والموظفين غير الأساسيين إلى الإمارات العربية المتحدة في أقرب وقت ممكن. وفرت جهات الاتصال الخاصة بمحب في الإمارات العربية المتحدة مقاعدًا لهم على متن رحلة طيران الإمارات التي من المقرر أن تغادر كابول في الساعة الرابعة بعد ظهر ذلك اليوم. طلب غني من محب مرافقة رولا إلى دبي، ثم الانضمام إلى فريق التفاوض في الدوحة، لإنهاء المحادثات مع خليل زاد وبردار حول تسليم كابول.
في حوالي الساعة الواحدة ظهرًا، تلقى محب رسالة نصية مفادها أن خليل حقاني، زعيم إحدى شبكات طالبان المسماة على اسم عائلته، يرغب في التحدث معه. وقد تلقى مكالمة رقم باكستاني. يتذكر محب أن فحوى رسالة حقاني كانت في الأساس “الاستسلام”. قال إنهم يمكن أن يجتمعوا بعد أن يصدر محب بيانًا مناسبًا. عندما اقترح محب التفاوض أولاً، كرر حقاني نفس الكلام ثم أغلق الخط. بعد ذلك، تواصل محب مع توم ويست، نائب خليل زاد في الدوحة، لإبلاغه بالمكالمة. فطلب منه ويست عدم الذهاب إلى أي اجتماع لأنه قد يكون فخًا.
عاد محب إلى منزل غني في حوالي الساعة الثانية. اصطحب رولا في موكب سيارات إلى مهبط للطائرات العمودية خلف قصر ديلكوشا. كان من المقرر أن يتجهوا إلى مطار حامد كرزاي الدولي للحاق برحلة طيران الإمارات. ثلاث من طائرات مي-17 الخاصة بالرئيس كانت حينها في أرغ بينما كانت الرابعة في المطار. زوّد الطيارون المروحيات بالوقود بالكامل لأنهم أرادوا السفر مباشرة إلى طاجكستان أو أوزبكستان، في أقرب وقت ممكن، كما فعل طيارون عسكريون أفغان آخرون طالبوا باللجوء في الأيام الأخيرة. لم يرغب الطيارون في الصعود إلى المطار مع رولا لأنهم تلقوا تقارير تفيد بقيام جنود أفغان مارقين بالاستيلاء على طائرات الهليكوبتر أو إيقافها عن العمل هناك. حينئذ، اقترب رئيس الحرس الرئاسي كوتشاي من محب قائلا: “إذا غادرت، فسوف تعرّض حياة الرئيس للخطر”. سأله محب “هل تريدني أن أبقى؟”. فأجاب: “لا، بل أريدك أن تصطحب الرئيس معك”. في تلك اللحظة، شك محب في مدى بقاء جميع أفراد الحرس الشخصي لغني موالين له إذا دخلت طالبان أرض القصر، خاصة بعد أن أكد كوتشاي أنه لا يملك الوسائل لحماية الرئيس. ساعد محب رولا في ركوب مروحية الرئيس وطلب منها الانتظار. وعاد مع كوتشاي إلى القصر. في تلك الأثناء، كان غني واقفا في الداخل فأخذ بيده وقال: “سيدي الرئيس، حان الوقت، يجب أن نذهب”.
أراد غني الصعود إلى الطابق العلوي لجمع بعض أغراضه، لكن محب كان قلقًا ذلك أن كل دقيقة يتأخرون فيها تنطوي على مخاطرة بإثارة ذعر الحراس وتمردهم. صعد غني إلى السيارة، دون جواز سفره.
عند مهبط طائرات الهليكوبتر، اشتبك الموظفون والحرس الشخصي بشأن من سيسافر معهم. قال الطيارون إن كل مروحية يمكن أن تقل ستة ركاب فقط. ولكن إلى جانب كل من غني ورولا ومحب، صعد تسعة مسؤولين آخرين على متن الطائرة، وكذلك فعل أفراد من الأمن الرئاسي تاركين وراءهم العشرات من موظفي القصر الآخرين – بمن فيهم رحيمي، الذي كان لا يزال يتحدث مع خليل زاد حول وقف إطلاق النار ولم يكن لديه أي فكرة عن المكان الذي ذهب إليه غني أو محب.
في حوالي الساعة الثانية والنصف، بدأ الطيارون بتشغيل المحركات. حلقت طائرات مي-17 الثلاثة ببطء فوق حدائق القصر، واتجهت شمالًا، محلقة فوق أسطح منازل كابول باتجاه ممر سالانغ، وبعد ذلك إلى نهر أمو داريا وأوزبكستان.
المصدر: ذا نيويوركر