بعد انقلابه الدستوري، ظلَّ قيس سعيّد يردِّد على مسامع التونسيين أن تونس غنية ولا حاجة للاستعانة بالخارج لإصلاح اقتصاد بلادهم المتعثر، لكنَّ لغة الخطاب تغيّرت سريعًا وأصبحنا نسمع عن ضرورة التقشف وتحمُّل المسؤولية، ثم بدأنا نشاهد ونسمع حديثًا إن صحَّ، سيمثّل ضربة كبيرة للتونسيين، خاصة أن جميع الحكومات السابقة لم تطبّقه نظرًا إلى كلفته الكبيرة على الشعب التونسي.
الضرورات تبيح المحظورات
تعيش تونس على وقع أزمة اقتصادية ومالية قوية، زادت حدتها بعد انقلاب قيس سعيّد على مؤسسات الحكم في البلاد، وفرض سيطرته على كل السلطات في هذا البلد العربي الذي كان إلى وقت قريب الديمقراطية العربية الوحيدة في المنطقة، إذ ترفض الصناديق المالية ضخّ الأموال لاقتصاد تونس، كما خفّضت وكالات التصنيف تصنيف تونس السيادي.
إلى جانب ذلك، ترفض البنوك المحلية إقراض الحكومة لتغطية حاجيات ميزانية الدولة، خوفًا من أن تجدَ نفسها عاجزة عن استرجاع مستحقّاتها، نتيجة عدم التزام الحكومة بتسديد ما عليها من دين، في ظل العزلة الخارجية التي يعيشها النظام منذ انقلاب قيس سعيّد على مؤسسات الدولة الشرعية، ما من شأنه أن يؤدّي بهذه البنوك إلى الإفلاس.
وسبق أن كشف موقع “ذي بانكر” الدولي، في تقرير حول وضعية البنوك التونسية، عن أن المقرضين المحليين، لا سيما بنوك القطاع العام، يواجهون مخاطر عالية مع وجود ما يصل إلى 15% من إجمالي أصول القطاع البنكي في أذون الخزانة والودائع لدى البنك المركزي التونسي.
تتجلّى أزمة تونس في ارتفاع العجز المالي الذي يُقدَّر، بحسب الميزانية التكميلية لعام 2021، بـ 9792 مليون دينار تونسي (3448 مليون دولار)، مقابل توقعات بعجز في حدود 7094 مليون دينار (2498 مليون دولار) في قانون المالية الأصلي لعام 2021، كما ارتفعت أسعار السلع الأساسية في الفترة الأخيرة وتراجعت القدرة الشرائية للتونسيين، وارتفع معها التضخم والبطالة، فيما تقلّصَت خيارات الحكومة لضبط ميزانية الدولة.
من شروط صندوق النقد الدولي تخفيض الإنفاق العام وترشيد النفقات، إلى جانب إلغاء منظومة الدعم الموجَّه للفئات الفقيرة.
بالتزامن مع تلك المعطيات، ظهرت عدة مؤشرات إلى وجود نية لقيس سعيّد للاستجابة لضغوط المانحين الدوليين وعلى رأسهم صندوق النقد الدولي، خاصة أمام تيقُّن سعيّد والمحيطين به أنه لا سبيل لهم لجمع بعض المال سوى بطَرق أبواب هذه الصناديق الدولية، بعد عجزهم عن إقناع الخليجيين بتمويل ميزانية الدولة الفارغة.
إجراءات موجعة بحقّ التونسيين لإرضاء المانحين
قبل نحو أسبوع، أعلنَ محافظ البنك المركزي التونسي، مروان العباسي، إمكان توصُّل بلاده إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي بشأن برنامج تعاون مالي جديد قبل نهاية الربع الأول من عام 2022، لكنه لم يصرِّح عن المقابل الذي ستقدّمه تونس للصندوق.
التساؤلات لم تدم طويلًا، فقد أجابَ عنها الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، إذ قال إن سلطات بلاده تدرس إمكانية خفض أجور التونسيين بنسبة 10% بهدف التحكم في كتلة الأجور، مؤكدًا في كلمة ألقاها بمناسبة تجمّع نقابي، أن ما تتحدث عنه السلطات خلف الأبواب المغلقة، ليس هو ذاته ما يروَّج في العلن حول سلامة الوضع الاقتصادي والتوازنات المالية.
وقال إن الحكومة التي تجري مفاوضات مع النقد الدولي، “تقول في العلن إنها قادرة على الوفاء بكل الالتزامات للشعب، وتخبرنا في الاجتماعات المغلقة إنه ليس لديها أموال حتى لدفع الرواتب”. كما أوضح الأمين العام للمركزية النقابية أن البرنامج الاقتصادي الذي قدّمته الحكومة خلال اجتماع مع اتحاد الشغل السبت الماضي، يقضي بتجميد الأجور لـ 5 سنوات قادمة ورفع الدعم عن المواد الأساسية والتفويت في عدد من مؤسسات القطاع العام.
يُبيّن هذا الأمر أن نظام قيس سعيّد في طريقه للاستجابة لضغوط صندوق النقد الدولي، ويشترط هذا الأخير على تونس تسريح آلاف الموظفين عبر التشجيع على التقاعد المبكّر وبرامج التسريح الطوعي، وذلك للتحكم في نسبة الأجور التي وصلت إلى 14.4% من الناتج المحلي الإجمالي، نتيجة وصول أعداد العاملين في القطاع العام إلى حوالي 650 ألف موظف وارتفاع الزيادات في الأجور في السنوات الأخيرة.
بعدما تاجرَ قيس سعيّد في حُب التونسيين للقضية الفلسطينية وقول مقولته الشهيرة “التطبيع خيانة عظمى”، وتاجرَ في كرههم للسياسيين ورفضهم للفساد، ها هو الآن يتاجر في معاناتهم.
ومن شروط صندوق النقد الدولي أيضًا تخفيض الإنفاق العام وترشيد النفقات، إلى جانب إلغاء منظومة الدعم الموجَّه للفئات الفقيرة، وبيع عدد من المؤسسات العمومية للخواص على غرار شركة نقل تونس والخطوط التونسية وشركة الكهرباء والغاز وتوزيع المياه.
الكل جائز في سبيل مشروعه الغامض
ليلة 25 يوليو/ تموز الماضي، قال سعيّد إنه اتخذ تلك الإجراءات بهدف إنقاذ التونسيين، لكن مع الوقت تبيّن أن هدفه ترسيخ مشروعه الشخصي وفرض سياسة الأمر الواقع، فمشاكل التونسيين لا تعنيه بقدر ما يعنيه تثبيت مشروع حكمه بشتّى الطُّرق، وحينها ساندَ العديد من التونسيين قيس سعيّد ظنًّا منهم أنه سيرفع عنهم الضائقة وسيخفِّف أزمتهم الاجتماعية والاقتصادية، فطالما كانت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية سببًا في خروج تظاهرات للشوارع مطالبة بالتشغيل ورفضًا للفساد في البلاد، لكن يبدو أن ظنَّهم قد خابَ مجددًا وأن حساباتهم قد أخطأت.
استغلَّ قيس سعيّد حاجة التونسيين إلى سماع خطاب يعدُ بإجراءات تنقذهم من أزمتهم، وصوّرَ للتونسيين واقعًا أخضر وبلدًا غنيًّا يرفض الانصياع لإملاءات الدول الأجنبية وضغوط اللوبيات في الداخل، إلا أن الواقع سرعان ما أثبت أن سعيّد يتاجر في آلام التونسيين.
إذا صح مشروع اقتطاع 10 % من أجور الموظفين لسداد عجز الميزانية، زد على ذلك إجبارية التلقيح للموظفين في القطاع العام و الخاص و خصم شهرية كل من لم يلقح.
هل مازلنا سنسمع شعار كلنا #قيس_سعيد؟
هل الموضفين الزقافنة سيواصلون مساندة هذا المعتوه؟#تونس#يسقط_الانقلاب_في_تونس
— Marwan (@Allah_galleb) October 24, 2021
سبق أن تاجرَ قيس سعيد في حُب التونسيين للقضية الفلسطينية وقول مقولته الشهيرة “التطبيع خيانة عظمى”، وتاجرَ في كرههم للسياسيين ورفضهم للفساد، وها هو الآن يتاجر في معاناتهم ويتقرّب من صندوق النقد الدولي على حسابهم، لكن كما كان البُعد الاقتصادي سببًا في إحكام سيطرة قيس سعيّد على سلطات البلاد، يمكن أن يكون سببًا أيضًا في انتهاء حكمه، خاصة أن التونسي يقبل بكل شيء إلا أن تمسَّ قوت يومه.