تمزقت الجغرافيا السورية إلى مناطق نفوذ وسيطرة، وتمزّق معها كل شيء، فحاكموا كل إقليم يرسخون فيه ما يحفظ استمرار وجودهم كسلطة أمر واقع، يتشبثون بها في كل القطاعات، ومن ذلك استغلالهم القطاع الأبرز -أو قل الأخطر-، وهو التعليم، الذي يعاني الكثير من التحديات منذ عقد من الزمن، بدءًا من تضرر البنية التحتية للمؤسسات التعليمية وصولًا إلى اتخاذ المناهج وسيلة لبرمجة الأجيال وأفكارهم وقناعاتهم كل منطقة بحسب أجندة من يحكمها.
وكثيرًا ما كان التعليم قطاعًا إستراتيجيًا لدى أي سلطة، لقدرته على تعويم الأجندات والأفكار على نطاق واسع، وترسيخ سرديات السلطة وروايتها للحدث التاريخي، المحلي والإقليمي، لذا تعمد منظمات الحكم الجديدة إلى إعادة بناء المناهج الدراسية لتتفق مع أهدافها وتعريفها للقيم والأحداث والمفاهيم، وهو الأمر الذي سرى في سوريا بمختلف أقاليمها.
في هذا التقرير، نلقي الضوء على طبيعة المناهج التعليمية في مناطق نظام الأسد، ومناطق الإدارة الذاتية الكردية، ومناطق المعارضة السورية، وكيف تتفاعل البيئات المحلية مع تلك المناهج.
المناهج التعليمية في مناطق الإدارة الذاتية
تواصلُ لجنة التربية والتعليم في الإدارة الذاتية، الذراع المدنية والإدارية لميليشيا “قسد” التي تسيطر على شمال وشرق سوريا، فرض مناهج تعليمية للصفوف الدراسية في مدارسها العامة، تحتوي في معناها الأعم على رؤيتها السياسية التي تقدِّس رموز التنظيمات الكردية، إلى جانب تعديلات وتشابيه تمسُّ الأديان والعُرف المحلي.
تمثّلت آخر تلك التغيُّرات في المناهج التعليمية التي اعتمدت في 6 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، حيث أصدرت ميليشيا “قسد” قرارًا بتوحيد المناهج الدراسية في المناطق التي تُسيطر عليها، وأقرَّت لجنة التربية والتعليم التابعة لها في مدينة منبج وريفها شرقي مدينة حلب ذلك القرار أثناء اجتماعها السنوي.
ويحتوي المنهاج الجديد الذي فُرض في مدينة منبج، بحسب ما نقلت مصادر محلية لـ”نون بوست”، على دروس في قسم القراءة من مادة اللغة العربية التي تدرَّس للصفوف الإعدادية والثانوية، وتعرض هذه الدروس قصص بعض المقاتلين الذين قُتلوا في صفوف “قسد” وتقدم كشهداء وأبطال، بالإضافة إلى مقارنة وتشبيه النبي محمد برجل الدين الفارسي زرادشت، مؤسس أسّسَ الديانة الزرادشتية.
اعتبر الأهالي في مدينة منبج أن ما تحتويه هذه الكتب هي تشويه للدين، لأنها تشبّه أشخاصًا ظهروا قبل الإسلام بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام، ما دفع الأهالي إلى رفض المناهج التي فرضتها، وهدّدوا بإضراب شامل عن المدارس الحكومية التابعة للجنة التربية والتعليم، ما دفعَ “قسد” إلى إلغاء القرار الخاص بتوحيد مناهج مناطق سيطرتها على ضفتي نهر الفرات شمالي سوريا، بينما بقيت المناهج الجديدة تدرَّس في المدارس التعليمية في مناطق شرقي الفرات.
ويقول المدرِّس محمود الماضي، من مدينة القامشلي شمالي الحسكة، خلال حديثه لـ”نون بوست”: “أقدمَت هيئة التعليم على تغيير مناهج التعليم بالكامل، وفرضت بدلًا عنها مناهج مؤدلجة خاصة بها في المراحل الابتدائية الأولى، باللغة الكردية والسريانية والعربية، إلّا أن الخطورة تكمن في مضمون هذه المناهج”.
وأضاف: “ألغت الإدارة الذاتية مادة القومية، وأقرّت بدلًا عنها مادة أسمتها “الأمة الديمقراطية” التي طرحها عبد الله أوجلان، كما غيّرت مادة التاريخ بالكامل، وضمّنتها بحوثًا عن تاريخ الأكراد والسريان في المنطقة، وأغفلت التاريخ الأموي والعباسي، كما تمّ إلغاء مادة التربية الإسلامية، ووُضعت بدلًا عنها مادة “الثقافة والأخلاق”، ضمّنتها بحوثًا تمجّد الطبيعة، وبحوثًا أخرى عن الديانات الوثنية القديمة، ركّزت فيها على الديانة الزرادشتية”.
جنولوجيا
كما عملت أيضًا على تغيير مادة الجغرافيا، وتضمينها خرائط لكردستان، شملت شمال سوريا من المالكية إلى المتوسط غربًا، وجنوب وشرق تركيا، وشمال العراق، وغرب إيران، بمصور واحد متّصل؛ بينما أصدرت مادةً جديدةً هذا العام اسمها “الجنولوجيا” وتعني “علم المرأة”، تتحدّث في أبواب منها عن التعصُّب الجنسي، وأخرى عن التحرُّر الجنسي، وفصول تتحدّث عن ظلم المرأة في الإسلام.
بالإضافة إلى إصدار مادة أسمتها “تاريخ الأديان والمعتقدات”، تتحدّث فصولها عن الديانات الوثنية القديمة والديانة الزرادشتية وديانات أخرى، وقد اعتبر كثير من المهتمّين أن ذلك نوعًا من التبشير بأديان غريبة عن المنطقة، بحسب ما تحدّث المدرِّس محمود الماضي لـ”نون بوست”.
ويؤكد الماضي “أن الإدارة الذاتية اعتمدت على مناهج وبحوث مؤدلجة تؤجِّج النزعات القومية، والنعرات الطائفية في المجتمع، ورأى أن ممارسات الإدارة الذاتية تهدف إلى العبث بثقافة وتاريخ المنطقة، وعقائدها، وقيمها، ومفاهيمها، وثقافتها، وحضارتها.
ولاقت هذه المناهج رفضًا شعبيًّا عامًّا، كونها قومية مؤدلجة من جهة، وكونها غريبة عن ثقافة وتاريخ المنطقة والمجتمع من جهة أخرى، إضافة إلى أن هذه المناهج غير معترَف بها ولا بشهادتها وبالتالي أقصت طلاب المنطقة من دخول الجامعات السورية أو الدول الإقليمية، ما جعل الأهالي يتخوفون على مستقبل أبنائهم واللجوء إلى مدارس النظام في المنطقة أو النزوح إلى خارجها.
مناهج النظام
تعمل حكومة نظام الأسد على فرض سرديتها لأحداث العقد المنصرم، من خلال تزوير الحقائق وتزييف الوقائع واستبدال الرواية الفعلية لما جرى بروايات تتسق وخيالات الأسد، ولطالما عمدت حكومته إلى تخصيص مساحة خاصة ضمن المناهج التعليمية تمجّد رأس النظام السوري سواء الابن أو الأب، خلال أكثر من 5 عقود مضت.
في هذا السياق، نقلت صحيفة “الوطن” الموالية، في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني، عن وزير التربية في حكومة نظام الأسد دارم طباع، حول استعدادات تجريها الوزارة لطرح مشروع جديد يُضاف إلى المنهاج الدراسي العام المقبل، تحت مُسمّى “أسباب الحرب على سوريا”.
والمنهاج عبارة عن برنامج تربوي يحدِّد الأسباب التي أوصلت سوريا إلى ما عليه الآن، من وجهة نظر حكومة نظام الأسد، ومن المقرَّر بعد الانتهاء من إعداده أن يدخل إلى عدد من المقررات الدراسية في مختلف المراحل التعليمية، ضمن عدة مواد من بينها التربية القومية والتاريخ واللغة العربية والتربية الإسلامية، وفقًا لما نقلته الصحيفة.
وحول الموضوع، يقول صلاح الدين هوى، مدير التربية والتعليم بحلب سابقًا، خلال حديثه لـ”نون بوست”: “استغلَّ نظام الأسد المناهج التعليمية في سوريا لنشر أفكاره التي تمجِّد حزب البعث الحاكم، الذي تسبّب في تحويل الكثير من أبناء سوريا إلى مجرمي حرب يدافعون عنه، وهذا ما كانت تهدفُ إليه عملية استغلال المناهج”.
وأضاف: “يريد نظام الأسد من خلال منهاج “الحرب على سوريا” تصوير نفسه المدافع عن سوريا، وتبرير جرائمه في حربه الممنهجة ضد الشعب السوري، وهذا ما ترنو إليه مساعيه في إعادة الصورة النمطية التي كان يحرص على تقديمها للأطفال من خلال المواد التدريسية التي ترسّخت في عقولهم لأجيال قادمة”.
بينما ستترتّب العديد من المخاطر على الجيل القادم من الأطفال، لأن التعليم يصل إلى شريحة كبيرة ستكون من الشباب لاحقًا، وسيتحولون إلى قتلة في سبيل بقاء النظام على سدّة الحكم، لكن قد يكون أثر ذلك ضعيفًا في حال عمل الإعلام المعارض والثوري على توضيح الأسباب الرئيسية للثورة السورية، بحسب ما أوضح صلاح الدين هوى.
بينما تسعى إيران إلى التغلغل في قطاع التعليم الحكومي بشكل متزايد لمنافسة اعتماد اللغة الروسية في التعليم الحكومي كلغة ثانية، ما دفع إيران إلى إقامة “المركز الأكاديمي للتربية والثقافة والبحوث” الإيراني باتفاقية مع جامعة دمشق، لتبادل قاعدة البيانات العلمية البحثية، والمشاركة في إنشاء حاضنة للأعمال وحديقة للعلوم والتكنولوجيا.
يأتي ذلك بعد مضي شهر على توقيع جامعة دمشق اتفاقًا مع جامعة “مالك الأشتر” الإيرانية مذكرة تفاهم في مجال الأبحاث والدراسات العليا، ومجال الصناعات والعلوم التقنية والميكانيك والروبوتك وعلوم الكومبيوتر، مع تزايد نشاطها في الجامعات السورية الحكومية، إلى جانب الأنشطة التعليمية التي تنفّذها الجمعيات الإيرانية في محافظات سوريا مختلفة.
يرى صلاح الدين هوى أن إيران تحاول التغلغل في الملف التعليمي الحكومي، إلى جانب عملها على استقطاب الأطفال من قبل الجمعيات الدعوية والخيرية، لنشر الفكر الشيعي، وخلق حاضنة ضمن شرائح المجتمع السوري تحفظ لها بقاءها في سوريا وتحويلها إلى دولة شيعية.
وأكّد أن إيران ترى الملف التعليمي وسيلة فعّالة لتزوير وتزييف الحقائق الدينية والتاريخية، وتشويه المعتقدات الدينية والفكرية لدى الأطفال، مستغلةً الوضع المتردي لتجنيد أكبر عدد ممكن من الشبّان ليقوموا بخدمة الحرب في الوكالة، التي تشنّها إيران في مناطق الأغلبية السنّية.
في مناطق المعارضة
تعدّ المناهج التعليمية في مناطق سيطرة المعارضة السورية الأكثر ثبوتًا رغم التحديات التي تعتريها، لكن في الوقت ذاته تغيب العديد من المواد التدريسية عن التعليم في الشمال الغربي من سوريا، وعلى وجه التحديد ريفَي حلب الشرقي والغربي، بينما يبقى قطاع التعليم في إدلب يفتقر لوجود المناهج وغياب الجهات العاملة على طباعته، مع غياب شبه تام للتعليم الحكومي.
وأثار كتاب مدرسي للصف الأول الابتدائي يحمل اسم “السيرة النبوية” ردود فعل غاضبة في الشارع السوري، لاشتباه تضمنه من إساءة للرسول الكريم، حيث وُزِّعت الكتب ضمن المناهج الدراسية في مدينة الباب في ريف حلب الشرقي، وبعض البلدات المجاورة لها، في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني.
يحتوي الكتاب على صور تعبيرية ضمن دروس تتحدث عن أخلاق وعلاقة النبي الكريم مع ابنته وزوجته وأمه، وتظهر الصور التعبيرية رسومات تحاكي الأنشطة التي جرى الحديث عنها بوصفها من أخلاق النبي، ما خلق لبسًا من أن الصور هي تمثيل لهيئته الشريفة، الأمر الذي أشعل غضبًا واسعًا في المناطق التي وزعت فيها الكتب. وضمَّ الكتاب أيضًا صورًا لخريطة الوطن العربي، بعد تغيير اسم الخليج العربي إلى “الخليج الفارسي”.
ودعا الأهالي والمعلمين في ريفَي حلب الشمالي والشرقي إلى محاسبة الجهات المسؤولة عن تدقيق وتوزيع الكتب والمنهاج الدراسي، بينما قام بعض المعلمين بإحراق الكتب التي تمَّ توزيعها استنكارًا لمحتواها، وتهاوُن الجهات المعنية في القضية التي تمسُّ الدين والأعراف المحلية كما يصفها الأهالي.
وفي 8 ديسمبر/ كانون الأول، أعربَ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن أسفه لنشر كتاب مدرسي في المناطق السورية المحرَّرة، يحتوي على رسوم تصويرية يشتبه بتمثيلها هيئة النبي، وقال: “إن المسؤولين فتحوا تحقيقًا عن هذا العمل المشين”.
وتبيّنَ أن “مركز استشراف للدراسات والأبحاث” هو الجهة المشرفة والمسؤولة عن المادة العلمية في المنهاج، حيث تمَّ تكليف المركز من قبل وزارة التربية التركية في طباعة وتأليف الكتاب، وبرّرَ المركز في بيان له أن هدف الصور تهيئة التلميذ للدخول إلى الدرس فقط، لفهم المضمون ليس أكثر.
ويقول عضو اللجنة التأسيسية في نقابة المعلمين في ريف حلب، محمد الدبك، خلال حديثه مع “نون بوست”: “إن الصور التي يحتويها الكتاب الذي تمَّ توزيعه لا يوجد لها غرض سياسي، ومع ذلك لا يمكن إغفال هذا التهاون في قضية إعداد المناهج التعليمية وتدقيقها وفقًا لمعايير دينية ومجتمعية”.
واعتبر أن السبب الرئيسي يعود إلى غياب دور مديريات التربية التابعة للمجالس المحلية، التي يجب عليها تدقيق المناهج قبل توزيعها لمعرفة مضامينها، كي لا تقع في هكذا إشكالات كأنها جهات منفِّذة يغيب عنها القرار.
وتُطبَع المناهج التعليمية المعدلة من قبل الحكومة السورية المؤقتة في تركيا، ويتم توزيعها على التجمعات التربوية في ريف حلب، وأبرز ما يتمّ طباعته من المواد اللغة العربية والتركية والإنكليزية والرياضيات والعلوم والفيزياء والكيمياء، بينما غابت التربية الدينية والتاريخ والجغرافيا.
وحول الموضوع، يرى الدبك “أن سبب غياب هذه المناهج يعود إلى غموض مستقبل المنطقة، لأنه لم يتمَّ التوصُّل إلى تفاهمات سياسية فعلية تحاكي مستقبل ريف حلب الذي تشرف على إدارته تركيا في الوقت الحالي”.
أخيرًا.. يعيش قطاع التعليم في سوريا حالة فوضى في المناهج الدراسية يفرضها الواقع السياسي المنقسم إلى أقاليم حكم متنافرة، ولا يبدو أن هذه الحال ستتحسن قريبًا. ولا تكمن المشكلة في تعدد المناهج، إنما في استخدامها من قبل الأطراف الحاكمة في تلك الأقاليم أداة لتدجين الأجيال وغزو أفكارهم وقناعاتهم، كل حسب أجندته، وهو ما قد يبشر بمستقبل مروّع لبلدنا سوريا.