كان تجنيد المسلمين المهاجرين دومًا عملية صعبة بالنسبة لأجهزة المخابرات الغربية، فعلى سبيل المثال، حاول قسم شرطة نيويورك على مدار عقود أن يجند المهاجرين المسلمين، حتى تم إحراجه في النهاية عام 2013 في قضية نتج عنها تفكيك معظم وحدة التجنيد في القسم، كان العمل الأساسي لهذه الوحدة هو ابتزاز المسلمين الذين يتم القبض عليهم أو احتجازهم بأية تهمة، حتى لو كانت مخالفات المرور!
لكن الأمر يبدو مختلفًا بعض الشيء في هذا الكتاب، فتحت عنوان “العميل ستورم: حياتي داخل القاعدة”، قامت دار بنجوين بنشر مذكرات الجاسوس الدنماركي “مورتن ستورم” عن رحلته داخل تنظيم القاعدة وعلاقته بعدد من أجهزة المخابرات الغربية، كان ستورم البالغ من العمر 38 عامًا هو المصدر الرئيس للمعلومة التي اُغتيل على أساسها الدكتور “أنور العولقي” في اليمن.
أكثر العملاء نجاحًا قبل مورتن ستورم كان “عمر ناصري”، والذي وُلد في الستينات لأبوين مغربيين، إذ عمل جاسوسًا نجح في اختراق القاعدة، وشارك في عدد من معسكرات التدريب في أفغانستان واستطاع تمرير معلومات بالغة الأهمية للمخابرات الفرنسية والبريطانية، وكشف عن الكثير من تلك الأسرار في سيرته التي نشرها عام 2006 “من داخل الجهاد: حياتي داخل القاعدة، قصة جاسوس”.
ولد ستورم في مدينة كورسور بشرق الدنمارك عام 1976 لأب سكير هجر أمه لتتزوج من رجل واظب الاعتداء عليه جسديًا وجنسيًا، ارتكب ستورم أول جريمة في سجله (سطو مسلح) وهو في الثالثة عشرة من عمره لينضم إلى واحدة من أكبر عصابات الدراجات النارية في الدنمارك بعد ذلك.
وفقًا لقصته كان ستورم دائم التعامل مع المهاجرين المسلمين من أعضاء الطبقات الاجتماعية السفلى في الدنمارك ولطالما شعر بالتعاطف معهم لكونهم من المنبوذين اجتماعيًا مثله تمامًا، وكان أول تعرضه للتعاليم الإسلامية في كتاب عن السيرة النبوية باللغة الدنماركية في المكتبة المحلية.
أعجب ستورم للغاية بكفاح النبي محمد ضد القوى السائدة في المجتمع الجاهلي ودعمه للمهمشين، أعلن ستورم إسلامه ليأخذه أصدقاءه من المسلمين المهاجرين إلى سهرة سكر وعربدة احتفالاً بإسلامه، لكن إسلامه هذا دخل مرحلة جديدة بدخوله إلى السجن في العاصمة البريطانية لندن (كان ستورم قد هرب إلى لندن خوفًا من بعض أعضاء عصابته القديمة) ليتعرف على رفيق الزنزانة “سليمان” الذي عهد بتثقيفه وتربيته دينيًا؛ لينضم ستورم بعد خروجه إلى مجتمع مسجد ريجينت بارك بالمدينة العجوز ويتعرف على الدكتور “عمر بكري” شيخ جماعة المهاجرين، استكمالاً لرحلة بحثه عن المعنى، على حد قوله.
حصل ستورم على منحة سعودية في هذه الفترة (نهاية التسعينات) لدراسة اللغة العربية وأصول الدين في اليمن، نجح ستورم في أهداف المنحة تمامًا حتى إنه وصف الزنداني في لقاء ما بالمبتدع المفرط في دينه، ولدى عودته من اليمن إلى لندن استقبله الدكتور “أنور العولقي” بوليمة احتفالاً بنجاحه، وبدأ ستورم في توطيد علاقته بإخوانه في هذه الفترة وكون معهم مدارس رياضية للملاكمة والفنون القتالية لتدريب الشباب المسلم، ولم يمنعه هذا من ارتكاب عدد من الجرائم البسيطة.
لكن مروره بأزمة إيمانية عميقة ومفاجئة في العام 2006 غير كل ذلك على حد قوله، لكن مما لم يذكره ستورم على سبيل المثال أن عودته لعدد من عاداته التي لم يتوقف عنها في حقيقة الأمر مثل تعاطي الكوكايين قد سبق ذلك، وتزامن مع هذه الأزمة تواصله مع عدد من أفراد جهاز المخابرات الدنماركي ممن حاولوا تجنيده مسبقًا، كان سؤال كون المسلم مسيرًا أم مخيرًا هو ما دفع ستورم إلى أزمته الإيمانية، إلا أن ما يربط ذلك بمئات الآلاف من الدولارات والجنيهات الإنجليزية التي تقاضاها من عملاء أجهزة الاستخبارات الدنماركية والأمريكية والإنجليزية يبقى غير مفهوم إلى الآن.
وعلى العكس من ستورم، الذي يقول إن النقود – بشكل أو بآخر – كانت سببًا رئيسيًا فيما فعل، يؤكد ناصري (أو يّدعي) أنه قدم خدماته لأجهزة المخابرات كي يواجه انحدار الإسلاميين ناحية العنف، بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح برئيس الجزائر المنتخب عام 1992.
واظب ستورم على لقاء هؤلاء العملاء في المطاعم الفاخرة بمدن مثل لندن وبانكوك وسنغافورة وتزويدهم بالمعلومات، ويبدو من حديثه وطريقة سرده فخره الشديد بتغير موقفه وما تسبب به من أذى للجماعات التي انتمى لها في يوم من الأيام، يبرر ستورم هذا بأفعال المتضررين من أفعالهم وأقوالهم الداعمة للإرهاب وأذى الأبرياء.
لكن لحظة الندم الصادقة فيما يخص اغتيال العولقي في سبتمبر 2011 نتيجة أمر شديد الاختلاف، فلم يف العملاء الأمريكيون بسداد الخمسة ملايين دولار الموعودة في حالة إرشاده عن العولقي.
يثير كل ما سبق مما اُستخلص من الكتاب مجموعة من التساؤلات المهمة فيما يخص طبيعة حركة التحول إلى الإسلام في الغرب والانضمام للحركات السنية السلفية على عدة مستويات.
بالأساس من الواجب تفحص هذه النزعة في سياق التطورات الاجتماعية والفكرية في الغرب؛ فمساحات الاغتراب الواسعة وانعدام العدالة الاجتماعية وتدهور التماسك والقيم الاجتماعية كلها نتجت عن مستويات متقدمة من التحديث والتمكن الرأسمالي من دول الغرب، وآثار كل هذه الحقائق الاجتماعية تبدو جلية على المجتمعات الغربية على كافة المستويات بداية من الإنتاج الأكاديمي ونهاية بمعدلات الانتحار والإجهاض الجنونية، كل الضغوط السابقة تدفع بآلاف الشباب في العالم الغربي إلى البحث عن تفسير ومعنى لهذه الصعوبات، ومحاولة الوصول إلى مجموعة حلول لهذه المشاكل؛ واندفاع الشباب إلى الحركات الإسلامية انطلاقًا من هذه الظروف فقط وليس بالضرورة بضمان لمستوى أدائهم وإيمانهم بقيم هذه الحركات.
وعلى مستوى آخر يصبح التساؤل عن مدى أصالة مثل هذه الحركات ملحًا، ففي مثل هذا السياق تصبح التفرقة بين المنتج الاجتماعي الحقيقي والصنائع المخباراتية عملية صعبة للغاية، وإن حدث وافترضنا الأصالة من الأساس فإن القلق من الاختراق والتوظيف المخابراتي لهذه الجماعات الأصيلة حسنة النوايا يصبح في محله تمامًا، كل هذه الأسباب تجعل السرديات المتحدثة عن سيطرة الإسلام على أوروبا وأنه الدين الوحيد المتنامي في القارة العجوز شديدة السطحية، فالتحولات الديموغرافية الواسعة والتغير السريع للغاية في منظومات القيم المختلفة مما نتج عن معدلات العولمة سريعة التزايد لهي مجموعة من المتغيرات شديدة التعقيد، ومن غير الممكن التعامل مع مثل هذه المتغيرات بمقولات تعتمد على تفسيرات ببساطة جمل “بما إن … إذن”.