ترجمة وتحرير: نون بوست
تتجه أعداد متزايدة من الناس نحو مغادرة وظائفهم، وهذا الأمر يمكن أن يغير سوق العمل إلى الأبد. ولكن هل نحن بصدد تعميم تفسيرات خاطئة حول أزمة الاستقالات الكبرى؟
يغادر كثيرون من العمال وظائفهم، وقد بلغت هذه الموجة أرقاما قياسية، والعالم يمر الآن وسط ما يمكن تسميته “أزمة الاستقالات الكبرى”، في تشبيه بأزمة الكساد الكبير التي ضربت الاقتصاد العالمي في ثلاثينات القرن الماضي.
ففي الولايات المتحدة، كشفت وزارة العمل أن 3.4 مليون أمريكي غادروا وظائفهم في أغسطس/ آب 2021، أي حوالي 2.9 بالمائة من مجموع القوى العاملة، وهو الرقم الأعلى في السجلات الرسمية.
في بريطانيا أيضا تجاوز عدد الوظائف الشاغرة حاجز المليون لأول مرة في التاريخ، خلال شهر أغسطس/ آب. وهنالك العديد من الأسباب التي تدفع العمال لتقديم استقالاتهم، مثل سوء ظروف العمل، والخوف من الإصابة بفيروس كورونا، والأزمات الوجودية التي يمرون بها. إلا أن الباحثين بصدد اكتشاف المزيد من الأسباب العميقة، في أثناء تجميعهم للبيانات وتحليلها.
ويقول جاي زاغورسكي، الأستاذ المحاضر في مجال الأسواق والسياسات العامة والقانون في كلية الأعمال في جامعة بوسطن: “أعتقد أن هنالك الآلاف من الأفراد الذين ضاقوا ذرعا. إنهم يعانون من الإجهاد من العمل، ويشعرون بنقص التقدير. كذلك هنالك كثيرون من الذين يعملون في قطاعات توفر لهم مرتبات عالية ولكن يشتغلون لساعات طويلة جدا، ولهذا فإنهم بكل بساطة يستقيلون.”
كما يرى أنثوني كلوتز الأستاذ المشارك في علم الإدارة في معهد مايز للأعمال في تكساس “أن هذه الاستقالات ظاهرة قد يكون لها تأثير دائم.” يشار إلى أن كلوتز هو أيضا الأكاديمي الذي ابتكر عبارة “أزمة الاستقالات الكبرى”، وتوقع هذه الموجة منذ آيار/ مايو 2021.
إلا أن هذا الأستاذ إلى جانب خبراء آخرين، ينبهون إلى أن هنالك بعض التفاصيل والحقائق التي يغفل عنها الجميع عند مناقشة تأثيرات هذه الموجة من الاستقالات. إذ أن عدد هؤلاء المستقيلين قد لا يكون مرتفعا بالدرجة التي نعتقدها، وربما تكون الأسباب الحقيقية لا تزال مجهولة لنا. كما يقترح هؤلاء الخبراء أن نتناول التعميمات المنتشرة حول هذه الأزمة بشيء من الحذر، ونراجع نظرتنا لهذه الموجة وتأثيراتها المستقبلية.
البيانات لا تعكس الواقع
يقول جاي زاغورسكي “إن نسبة القوى العاملة التي غادرت مراكزها حاليا في الولايات المتحدة لم تبلغ 3 بالمائة، وهو رقم ليس بالكبير”.
فعليا تمثل هذه النسبة أقلية صغيرة جدا من مجموع العاملين، أما التغطية الإعلامية لهذه الموجة فهي تركز في الواقع على العمال الذين يفكرون في المغادرة. وتقول مارتا مازنسكي أستاذة السلوك التنظيمي في مدرسة إيفي للأعمال في أونتاريو بكندا: “إن نسبة من قدموا استقالاتهم في الوقت الحالي هي أعلى بقليل من المعتاد، ولكن عناوين الصحف ونشرات الأخبار تسلط الضوء على من ينوون الاستقالة.”
إضافة إلى ذلك فإن الأرقام التي يتم اعتمادها لرسم هذه الصورة حول موجة استقالات كبرى سببها الوباء ليست صحيحة مائة بالمائة. إذ يشير زاكورسكي أولا إلى أننا لا نمتلك بيانات طويلة المدى تمكننا من تنسيب حجم الموجة الحالية، بما أن الحكومة الأمريكية شرعت في إصدار إحصاءات حول هذه الظاهرة بداية من العام 2000. إضافة إلى ذلك فإن نسق الاستقالات كان عند مستويات قياسية في 2019 قبل بداية فيروس كورونا.
وهكذا رغم أن عدد المغادرين لوظائفهم حطم الأرقام القياسية في 2020، فإنه من الممكن أن يكون هذا الأمر تحصيل حاصل حتى ولو لم ينتشر الوباء. ويرى زاكورسكي أن الاستقالات بشكل عام تكثر عندما يكون أداء الاقتصاد قويا، وهو ما كان عليه الحال في الولايات المتحدة قبل الوباء.
والآن مع عودة الانتعاش في الأسواق، ليس من الواضح تماما ما إذا كانت التغيرات المرتبطة بكورونا هي الدافع الأساسي لتواصل موجة الاستقالات، أم أن هذه الموجة مرتبطة أكثر بتزايد الاستقرار الاقتصادي. فنفس الأمر حدث بعد الكساد الكبير في 2009، إذ ما إن تعافى الاقتصاد خلال العشرية الموالية حتى ارتفعت أعداد المغادرين لوظائفهم.
الأفكار الشائعة حاليا حول سبب هذه الموجة ليست كلها خاطئة، إذ أن البعض من جوانبها يعزى فعلا إلى كورونا. وعلى سبيل المثال فقد شهد مجال الرعاية الصحية هروبا جماعيا للموظفين، والسبب هو تعرضهم للإجهاد
إضافة إلى ذلك رغم أن هؤلاء العمال ينتمون إلى قطاعات متنوعة، فإن الاستقالات ليس موزعة بالتساوي. فنحن غالبا ما نتحدث عن عمال الياقات البيضاء عندما نناقش أزمة الاستقالات الكبرى، ولكن يؤكد كلوتز أن قطاعات أخرى مثل خدمات الطعام والبيع بالتجزئة شهدت موجة استقالات أثناء وبعد الوباء.
وفي الواقع فإن آخر تقرير لمكتب إحصاءات العمل في الولايات المتحدة، بين أن أكثر قطاع شهد استقالات في أغسطس/ آب 2021 كان الضيافة والطعام، الذي شهد مغادرة 157 ألف عامل من مجمل 242 ألف مغادر. وفي مجال خدمات الطعام، غادر 6.8 بالمائة من العاملين، وهو الرقم الأعلى من بين كل القطاعات، وفي المرتبة الثانية خارج قطاع الترفيه جاء البيع بالتجزئة بنسبة 4.7 بالمائة.
لكن هذه الأرقام ليس بالضرورة مفاجئة أو مرتبطة كليا بالوباء. إذ يقول زاغورسكي إن قطاعات الخدمات تاريخيا تشهد أعلى معدلات الاستقالة، في كل الظروف.
رغم ذلك فإن الأفكار الشائعة حاليا حول سبب هذه الموجة ليست كلها خاطئة، إذ أن البعض من جوانبها يعزى فعلا إلى كورونا. وعلى سبيل المثال فقد شهد مجال الرعاية الصحية هروبا جماعيا للموظفين، والسبب هو تعرضهم للإجهاد وعدم رضاهم عن ظروف العمل خلال أزمة التعامل مع الجائحة. كما أن استقالات عمال الباقات البيضاء هي أيضا مرتبطة بكورونا، بحسب رأي زاغورسكي.
ولكن بشكل عام لا يوجد ما يكفي من البيانات التي تخبرنا ما هي المجموعات التي تشهد استقالات أكثر. إذ يقول كلوتز: “في الواقع نحن لا نعلم من هي الفئات التي تغادر مواقعها أكثر من غيرها، وقد شاهدت تقارير تجزم بأن الناس في منتصف مسيرتهم المهنية هم الأكثر إقبالا على هذا الخيار، فيما أكدت تقارير أخرى أن الجيل الجديد هو المسؤول عن هذه الموجة، فيما يرى آخرون أن التقاعد المبكر هو السبب.”
الإفراط في التبسيط؟
بقطع النظر عن الفئات التي تستقيل، من الجيد أن نرى أن كل شخص يمتلك القدرة على رد الفعل واتخاذ قراره بمغادرة الوظيفة التي لم يعد يطيقها. وبشكل ما يبدو أن الناس اعتبروا أن موجة الاستقالات الكبرى نقطة تحول جعلت القوى العاملة تغادر مواقعها بشكل طوعي، وذلك بهدف الدفع نحو خلق بيئة عمل أفضل. ولكن هذا الأمر لا ينطبق على الجميع، إذ أن بعض العمال لم يتخذوا هذا القرار بدافع الوعي والمقاومة الجماعية.
وتقول مازنسكي: “إن هنالك نوعان من الناس المنخرطين في أزمة الاستقالات الكبرى، النوع الأول هو المهنيين الذين يفاضلون بين ما هو جيد وما هو أفضل. أما النوع الثاني فهو الناس الذين يختارون بين شيء سيء ومضر وسام، وشيء آخر يسمى النجاة. وبالتالي فإن هنالك دافعين متناقضين تماما.”
في المعسكر الأول، هنالك الناس الذين يغادرون وظائفهم بسبب الملل أو لرغبتهم في التطور وتحقيق طموحاتهم، وفي المعسكر الثاني هنالك من يهربون بسبب ظروف العمل التي لا تطاق، أو لأنهم مضطرون لرعاية أطفالهم في فترة غلق المدارس.
هكذا فإن أولئك الذين يغادرون وظائفهم طواعية يتخذون هذا القرار لأسباب مختلفة، وبالتالي فإن استقالاتهم تقدم لنا معلومات متباينة.
وتضيف مازنسكي: “لا يمكنك أن تستقيل إلا إذا كان تمتلك الخيار. وهذا الترف متاح للعمال الذين يتمتعون بوضع مالي جيد ولديهم أقدمية في وظائفهم.”
بعبارات أخرى نحن نرى أزمة الاستقالات الكبرى بعيون المحظوظين الذين يمتلكون القدرة على الاستقالة، مثل كبراء المدراء والعمال الذين يتمتعون بالأمان المالي. ولكن في نفس الوقت يصعب تحليل هذه البيانات لأخذ مزيد من التفاصيل حول الأسباب، وهذا يقدم لنا فكرة مشوهة حول هذه الظاهرة، وقد يشجع البعض على مغادرة وظائفهم بشكل متهور، معتقدين أن الأمر بهذه البساطة.
المشاكل التي تدفع نحو الاستقالة لا تزال موجودة
من السهل أن نوهم أنفسنا بأن موجة الاستقالات الكبرى هي حدث عابر سوف يؤدي إلى تغيير ظروف العمل في كافة الدول. ولكن بسبب تنوع الدوافع نحو اتخاذ هذا القرار عند كل فرد، فإن التغييرات الناجمة عن هذه الموجة سوف تختلف بحسب الفئات وأنواع المهن.
إذ إن بعض الشركات سوف تتجه نحو تحقيق مطالب عمال الياقات البيضاء وخاصة مسألة المرونة والعمل عن بعد، فيما ستتجه شركات أخرى في القطاعات الخدمية نحو الاستجابة لمطالب كانت مطلوبة منذ وقت طويل، متعلقة بظروف العمل والأجور.
وبالنسبة للياقات البيضاء فإن أزمة فيروس كورونا جلبت لهم بعض المكاسب التي لم يكونوا يحلمون بها في السابق، وخاصة القدرة على العمل من المنزل لوقت طويل، وهو ما أراحهم من عناء التنقل، ووفر لهم مرونة أكبر ليقضوا المزيد من الوقت مع العائلة والأصدقاء. والآن لن يتنازل العمال عن هذه المكاسب بسهولة، وإذا واجهوا تعنتا من أصحاب الشركات فإن أعداد الاستقالات سوف تزيد.
أما بالنسبة للياقات الزرقاء، الذين عانوا من التفاوت وانعدام العدالة قبل وخلال الوباء، فإنهم سيتم استرضائهم الآن بأجور أعلى، وتشير الأرقام الحالية في الولايات المتحدة إلى ارتفاع الأجور بسرعة غير مسبوقة منذ أزمة الكساد العظيم.
رغم كل هذا لا نعلم إلى حد الآن ما ستسفر عنه هذه الأزمة، وما إذا كانت ظروف الجميع ستتحسن على قدم المساواة. وإذا لم يتحقق ذلك، فإن هذا سينفي فكرة كون موجة الاستقالات غيرت سوق العمل بشكل شامل.
والأهم من ذلك، يجب على العمال تجنب الانخراط في هذه الموجة بشكل متسرع، وأن يفكروا بشكل أعمق عند مناقشة الأسباب التي دعت غيرهم للاستقالة، وما يعنيه ذلك لمستقبل سوق العمل.
ويقول كلوتز: “إن أسباب أزمة الاستقالات الكبرى تبدو ذات أوجه متعددة، وهي تظهر في أشكال متنوعة، وبالتالي فالأمر ليس بغاية البساطة، بل إنه يزداد تعقيدا مع الوقت.”
المصدر: بي بي سي