تخطت تونس منذ أيام حاجزًا آخر في طريقها نحو تثبيت التجربة الديمقراطية الوليدة عبر نجاحها في تنظيم انتخابات مقبولة عمومًا رغم ما شابها من مشاكل تنظيمية تعلقت بهيئة الانتخابات أو من مظاهر مسّت من الجوهر الأخلاقي لقيمة التنافس السياسي دون المس بجوهر العملية ككل، وأتحدث عن المال السياسي وما أُشيع من شراء للأصوات هنا وهناك.
انتخابات حظت بقبول كافة الفاعلين السياسيين وأفرزت كنتيجة تقدم حزب نداء تونس (الواجهة الجديدة لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي وهو حزب الرئيس المخلوع بن علي) على حزب حركة النهضة الإسلامي المتخلي عن الحكم (وهي سابقة في تاريخ الحركات الإسلامية الحديث)، أفرزت أفول جملة من الأحزاب التي قادت معركة النضال ضد الاستبداد، وظهور كيانات سياسية جديدة كائتلاف الجبهة الشعبية (ائتلاف شيوعي قومي) وحزبي الوطني الحر وآفاق تونس.
ككل المراحل التاريخية، من المهم استخلاص الدروس والعبر حتى ندقق في تفاصيل المشهد تمهيدًا لحسن فهمه والتعامل معه، خاصة وأننا إزاء شعب أعاد النظام القديم إلى الواجهة وعبر صناديق الاقتراع.
1- عجز نخب الثورة
شهد جميع المتابعين للحالة التونسية بأنها رزحت لسنوات تحت سطوة أعتى الدكتاتوريات العربية، وهو ما فسر بالأمس القريب الانتفاضة الديسمبرية (الانتفاضة التي هزت نظام بن علي وأعلنت بداية الربيع العربي)، ورغم مرارة التجربة، نجد اليوم أن التونسيين الذين كانوا أول من لعلعت حناجرهم مطالبة بالحرية والكرامة، يواصلون في السبق التاريخي العربي من خلال إرجاع من يعلنون أنفسهم ورثة للنظام القديم لسدة الحكم ديمقراطيًا! مشهد على غرابته يعود إلى عجز حقيقي لنخب الثورة التي فشلت في إنتاج رسالة سياسية تربط بين قيمة الحرية والفكرة الديمقراطية من جهة، وبين الهم اليومي القاسي ومستلزماته من جهة أخرى، رسالة تنقل مطلب النخبة ليصبح مطلبًا شعبيًا ويكيف القيمة حتى يصبح لها تمظهر تنموي واقتصادي واجتماعي .. ولو بعد حين.
الحريات كانت مطلبًا نخبويًا في مرحلة أولى (المعارضة)، ثم انتقلت لتصبح حلمًا فئويًا (شمل المتدينين الذين ضُيق عليهم)، لكنّها لم تتطور لتصبح مطلبًا شعبيًا وهو ما يفسر ما أصبح يُطلق عليه مجازًا “الانقلاب الديمقراطي في تونس”.
2- الخبز والأمان .. أولاً
ككل الدول التي تحدث فيها هزات من جنس الثورات، مرت تونس بفترة صعبة تميزت بشطط في المطلبية وانخرام لمؤسسات الدولة الحيوية من جهاز أمني وإدارة وهو ما أثر سلبًا على الوضع الاقتصادي المتردي أصلاً؛ فارتفعت الأسعار بأقدار غير مسبوقة رغم محاولات حكومات الثورة السيطرة عليها لكن دون جدوى، فالعاهة أعمق من أن تطبب بمعالجات خفيفة ظرفية.
من جهة أخرى، أعان الوضع الإقليمي المتردي الإرهاب ليجد له في تونس موطئ قدم مستوردًا العتاد من الشقيقة ليبيا ومنتفعًا من خبرات الإرهابيين القابعين في جبال الأخت الكبرى الجزائر؛ ليجد التونسيون أنفسهم أمام مشهد لم يألفوه عناصره ألغام وقنص واغتيال.
اتحد الإرهاب والعبء الاجتماعي ليحولا نعمة الثورة إلى نقمة لدى المواطن البسيط الذي وجد نفسه مضطرًا للمقارنة بين دكتاتورية توفر أمنًا وهميًا ومعيشة أقل صعوبة، وبين ثورة أطلقت الحريات لكنها تزامنت مع ظهور الإرهاب (لسوء حظ القوى الثوريّة)، ومع إثقال كاهله (الجنوح لإيجاد علاقة سببية تربط بينها)، فاختار سجنًا آمنًا على فسحة متعبة.
من بين الدروس التي يجب استخلاصها من هذه الانتخابات أن شعب اليمن الصابر استثناء وليس قاعدة في محيطنا العربي وربما في العالم، وأن أغلب شعوبنا العربية قد ترغب في الحرية تلك الرغبة الفطرية، لكنها غير مستعدة لدفع ثمنها خاصة إن تعلق هذا الثمن بالخبز والأمان.
3- الإعلام .. السلطة الأولى
نداء تونس، الحزب اليافع، رغم قاعدته التجمعية (نسبة لحزب التجمع الديمقراطي المنحل) ما كان ليقدر على تحصيل ما حصل في الانتخابات التشريعية لولا السلوك الانتخابي الساخط لأغلب من صوت له (رصيده الانتخابي الفعلي هش)، إذ تشير التقديرات إلى أن جزءًا هامًا من قاعدته الانتخابية صوتت له ليس اقتناعًا به وإنما عقابًا للترويكا الحاكمة وخاصة حركة النهضة.
وعند محاولة تحليل هذا السلوك العدائي لدى هذه الفئة من الناخبين (فئة حاسمة)، نجد أن الفاعل الرئيس هو الإعلام، إذ نجح الأخير طوال ثلاث سنوات من القصف المستمر أن يصور للثالوث الحاكم صورة قاتمة رُسخت في ذهن المواطن البسيط رغم أن أداءه (الثالوث) لم يكن بالكارثية التي تدفع للتصويت العقابي وبمثل تلك الطريقة الحزينة.
النظام القديم المتحكم في الإعلام نجح أن يحول الأخير من سلطة رابعة إلى سلطة أولى توجه الرأي العام نحو ما يراد له أن يتوجه إليه، وما نتائج الانتخابات إلا ثمرة من ثمار هذا النجاح.
الانتخابات نتائج ورسائل ودروس، طوبى لمن تدبر واستخلص العبر، ولا عزاء لمن صمّ آذانه وأغلق عينيه ومن لم يقدر على تحيين قراءته للمشهد السياسي، لعبة الشّطرنج في تونس ارتقت بنتائج التشريعيّة إلى مستوى متقدم جدًا، الرهانات داخلية وإقليمية وتحتاج إلى عقول باردة .. متابعة ممتعة للجميع.