ترجمة وتحرير: نون بوست
لا تزال الاستقالة الجماعية الكبرى التي حدثت السنة الماضية في ذروتها. وفقًا لمكتب إحصاءات العمل، استقال ما يقرب من 3٪ من القوى العاملة الأمريكية في تشرين الأول/ أكتوبر، بعد ارتفاع قياسي في أيلول/ سبتمبر. جزء من الاستقالات عبارة عن إجازات أو تقاعد مبكر أو خروج من العمل بسبب مسؤوليات الرعاية، لكن هذا لا يُظهر سوى جزء من الصورة الكاملة.
على مستوى عالمي، وفي كثير من الحالات، لا يترك العمال وظائفهم فحسب، بل يعيدون تشكيل حياتهم المهنية. يستغل البعض أزمة التوظيف الحالية للوصول إلى مناصب أفضل، ويختار آخرون العمل في مشاريعهم الخاصة، وقد ارتفع عدد العاملين لحسابهم الخاص في الولايات المتحدة بـ500 ألف شخص منذ بداية جائحة كورونا.
يتحول كثيرون إلى صناعات ومهن جديدة تقدم أجورًا أعلى أو تتماشى أكثر مع أهدافهم. يقول أنتوني كلوتز، أستاذ إدارة الأعمال في جامعة “تكساس إيه آند إم” بالولايات المتحدة، وصاحب مصطلح الاستقالة الكبرى: “نشهد الكثير من الحركة بالنسبة للأفراد الموهوبين في مجال الصناعات التي يرتفع عليها الطلب مثل التكنولوجيا. يجد الناس وظائف تمنحهم الأجر المناسب والمزايا وترتيبات العمل التي يستحقونها على المدى الطويل”.
لا تعني “الاستقالة الكبرى” مجرد مغادرة العمل، بل يشير الاضطراب الحالي في سوق العمل إلى حركة كبيرة من الموظفين في جميع المجالات. امتلك العمال القدرة على التغيير، وحاولوا استغلالها لخلق توازن أفضل بين العمل والحياة الخاصة واتخاذ خيارات مدروسة فيما يتعلق بحياتهم المهنية. يقول كلوتز: “أصبح لدى العمال قدرة أكبر على ملاءمة العمل مع حياتهم، بدلًا من أن يعيشوا تحت الضغط”.
ساعدت “تأملات الناس أثناء فيروس كورونا”، كما يسميها كلوتز، الكثير من الناس في العثور على المزيد مما يريدونه خارج العمل، وتحقيق أهدافهم الشخصية. لكن هل يعد ترك الوظائف مجرد ظاهرة ناتجة عن الإغلاق الذي فرضه فيروس كورونا، أم أنه مقايضة واسعة لتشكيل مستقبل جديد؟ إذا كان الأمر كذلك، فقد تترتب عنه آثار طويلة المدى بالنسبة لقوى العمل على مستوى العالم.
التحوّل الكبير
رغم وجود العديد من التحولات الكبرى في سوق العمل سابقا، سواء كانت فرص عمل جديدة نابعة من الازدهار الاقتصادي عقب الحرب، أو فقدان الوظائف بسبب الكساد أو الركود، إلا أن الحركة الواسعة التي نشهدها اليوم مختلفة تماما.
تقول غريس لوردان، أستاذة العلوم السلوكية في كلية لندن للاقتصاد: “يكمن التميز في أن الأشخاص في بيئة العمل لديهم حاليا القدرة على الاختيار. خلال الثورة الصناعية على سبيل المثال، لم يكن معظم الناس ماهرين بما يكفي للحصول على وظائف عالية الدخل. حاليا، هناك طلب كبير على العاملين في مجال المعرفة لدرجة أن هناك نقصًا في المهارات”.
مكنت الفرص التي أتاحها العمل عن بُعد الملايين من العمال من القيام بآلاف الوظائف الجديدة التي لم تكن متاحة في السابق. كوسيلة لاجتذاب المواهب، يقوم العديد من أرباب العمل بالتكيف مع نماذج العمل الهجينة، أو تقديم أجور أعلى.
وتعتقد لوردان أن موجة تغيير الوظائف في سوق العمل عبارة عن تحوّل كبير: يغير العمال مسار حياتهم المهنية، ويشقون طريقهم تدريجيًا إلى الشركات التي تقدم بدورها ظروف عمل وامتيازات تتناسب مع احتياجاتهم. وتضيف: “ستلاحظ خلال الفترة القادمة أن العديد من العمال يغيرون وظائفهم لأنهم يبحثون ببساطة عن العمل المرن والهجين، وينتهي بهم الأمر في الشركات التي تقدم هذه الفرص. من ناحية أخرى، سينتقل الأشخاص الذين يفضلون المكتب والعمل بدوام كامل إلى الشركات التي تقدم هذه الخيارات، ومن المرجح أن يتقاضوا أجرا أعلى”.
إميلي هي واحدة ممن غيروا مسار حياتهم المهنية، وقد كانت تعمل مدربة شخصية في صالة ألعاب رياضية في المنطقة المالية بلندن، قبل أن تصبح مديرة مشروع رقمي.
ينتقل العديد من العمال إلى القطاعات المطلوبة التي تزيد فيها فرصة تقديم عمل هجين. وفقًا لاحصائيات في المملكة المتحدة بلغ تدفق العمال الذين ينتقلون إلى خدمات البرمجيات وتكنولوجيا المعلومات أكثر من الضعف على أساس سنوي
تقول إميلي: “كنت أعمل لساعات طويلة من دون أن أتواصل مع أحد، وهو ما جعلني أشعر بأنني أقل قيمة لأنني كنت في وظيفة خدمية. كان قطاع اللياقة البدنية من آخر القطاعات التي أعيد فتحها بعد الإغلاق. لذلك، انتقلت إلى شيء أكثر استقرارًا وقابلية للتكيف، حيث عرضت خدماتي عن بُعد مقابل المزيد من المال وساعات عمل أقل”.
تؤكد الإحصائيات هذه الظاهرة، حيث ينتقل العديد من العمال إلى القطاعات المطلوبة التي تزيد فيها فرصة تقديم عمل هجين. وفقًا لاحصائيات “لينكد إن” في المملكة المتحدة في الفترة الممتدة بين آب/ أغسطس وتشرين الأول/ أكتوبر 2021، بلغ تدفق العمال الذين ينتقلون إلى خدمات البرمجيات وتكنولوجيا المعلومات أكثر من الضعف على أساس سنوي. كان قطاع البيع بالتجزئة هو الأكثر تضررًا من حيث الانقطاع.
مازال يتعين على العديد من الشركات تطوير سياسات عملها طويلة المدى مما يعني حدوث مزيد من التغييرات والتقلبات. تقول لوردان في هذا السياق: “يعتمد جزء كبير من الحركة الحالية على مكافآت خارجية: المزيد من الأجور والوظائف. بمجرد أن تستقر الأعمال التجارية، باعتماد نموذج عمل هجين أو شخصي أو جديد تماما، سنلاحظ العديد من الأشخاص الذين يتحركون وفقا لتوازنهم بين العمل والحياة”.
حقق بعض العمال بالفعل توازنًا أفضل بين العمل والحياة الشخصية. يقول ديفيد، الذي كان يعمل محاميا لدى الشركات:” لقد أجبرني الإغلاق على التوقف. قضيت مزيدا من الوقت مع زوجتي، واكتشفت معنى الحياة الصحية ونمت جيدًا. جعلني هذا التوقف أدرك صعوبة العمل في واحد من أكبر مكاتب المحاماة في العالم. لطالما كنت تحت الضغط من أجل تسليم العمل، وأعمل بانتظام لمدة تزيد عن 60 ساعة في الأسبوع. لذلك استقلت”.
انتقل ديفيد منذ ذلك الحين من لندن إلى مكتب محاماة شمالي إنجلترا. رغم أنه اضطر إلى تخفيض راتبه بشكل كبير، إلا أن المقابل لا يقدر بثمن. يقول ديفيد السياق: “لقد تمكنت من استعادة درجة من الاستقلال الذاتي”.
نظرة على المدى البعيد
تتمثل إحدى مزايا الاستقالة الكبرى في أن العمال سيكونون في نهاية المطاف قادرين على خلق وظائف تتناسب بشكل أفضل مع حياتهم. يقول كلوتس: “سنرى المزيد من الأفراد يتمتعون بمزايا عمل تتلاءم مع احتياجاتهم الشخصية. في بداية حياتهم العملية، لا يمانع الأشخاص أن يعملوا في المكتب لأنهم يتطلعون إلى التطور الوظيفي، لكن بعد ذلك يمكنهم الانتقال إلى العمل الهجين أو الرقمي”.
يجد العديد من العمال الشباب المبتدئين، الذين كانوا جزءًا كبيرًا من الاستقالة الكبرى في القطاعات التي دمرها فيروس كورونا مثل الضيافة والبيع بالتجزئة، المهن التي تناسبهم بشكل أفضل. يقول سالفاتوري نيغرو، الرئيس التنفيذي لمؤسسة (JA Europe) التعليمية – وهي مؤسسة غير ربحية مقرها بروكسل: “في الوقت الحالي، نلاحظ أن الشباب يغيرون وظائفهم كل 18 شهرًا”.
مع ذلك، لا تمثل هذه الاتجاهات بالضرورة تحولًا دائمًا. تقول لوردان: “هذه مرحلة انتقالية. بمرور الوقت، سيعرف العمال الشركات الكبيرة التي تقدم نموذجا هجينا. لكن في الوقت الحالي، لا تزال الشركات تجرب سياسات العمل الجديدة وما إذا كانت بحاجة إلى تكييف نماذجها مع متطلبات السوق”.
ويتفق معها كلوتز على أن التغيير الحالي سيستغرق سنوات قبل أن يستقر في النهاية، ويقول: “بينما تقوم المؤسسات بإجراء تعديلات، يهاجر الموظفون إلى بحثا عن مزايا العمل التي يريدونها في هذه المرحلة من حياتهم. يمكننا أن نلاحظ اضطراب سوق العمل في ظل موجة الاستقالات من جهة، ومحاولة الشركات تقديم حلول لموظفيها من جهة أخرى، وهو ما يستغرق بعض الوقت”.
في خضم هذا “التحول الكبير”، يتخذ العمال خطواتهم التالية على نحو مدروس بحثا عن الوظائف التي تناسب احتياجاتهم، وقد يؤدي هذا في نهاية المطاف إلى حياة مهنية أكثر إرضاءً لملايين الأشخاص. ويقول كلوتز: “إذا كان لفيروس كورونا جانب إيجابي، فهو أننا نأمل في أن يحسن بيئة العمل”.
المصدر: بي بي سي