قالوا عنه إنه المنجز الأهمّ للثقافة العربية خلال القرن الحالي، وإنه ملحمة كبرى، وإنه مشروع القرن، وإن اللغة العربية بعده لن تكون كما كانت قبله، وإن تاريخ المعاجم العربية يكتب صفحة جديدة بهذا الإنجاز.. لذلك، فإننا نسلط الضوء في هذه المادة على المعجم التاريخي للغة العربية، وذلك تزامنًا مع الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية الذي يوافق يوم الـ18 من ديسمبر/ كانون كل عام.
إنجاز طال انتظاره
يحكي لنا الأستاذ الدكتور صلاح فضل، رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة الذي أشرف على المشروع، جذور فكرة ذلك المعجم والمراحل التي مر بها، فيقول إن اللغة العربية حُرمت من وجود معجم تاريخي لها، بالرغم من أن الأمم المتقدمة، قد عكفت على إعداد معاجم تاريخية “تقبض” بها على ناصية لغاتها الحية منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين.
تعود فكرة تدشين معجم تاريخي للغة العربية في الأساس إلى ثلاثينيات القرن الماضي، وذلك بالتزامن مع تدشين مجمع القاهرة للغة العربية بشكل رسمي؛ ولكن المشروع تعثر كثيرًا منذ ذلك الوقت، لأسباب كثيرة، على رأسها صعوبة تمويل هكذا مشروع ضخم، في ظل عدم تبنيه من أي مؤسسة أو دولة كبيرة.
في القرون الأولى، كان اللُّغويون العرب القدامى قد عرفوا فكرة المعجم التاريخي قبل أن تظهر بشكل علمي ممنهج، على مضض، في المعاجم الأولية التي بدأوا تدشينها في القرن الثاني الهجري، مثل معجم “العين” للخليل بن أحمد، وذلك عبر رصد “التطورات” الصوتية التي تطرأ على بعض المفردات؛ ولكنها محاولات تتلاءم مع الإمكانيات المتاحة أمامهم خلال ذلك التوقيت، في ظل غياب مفهوم “المعجم التاريخي” الذي يعد مفهومًا معاصرًا بشكل رئيس.
وفقًا لفضل، فإن مؤسسي مجمع القاهرة من الرعيل الأول، ومن جاءوا بعدهم، “توهموا” إمكانية الاستعاضة عن المعجم التاريخي، بمشروع آخر يتضمن 3 معاجم كبيرة نسبيًا، ولكنها لا تشبه المنهج التاريخي في شموله ومنهجه، وهي سلسلة المعجم الوجيز والوسيط والكبير.
ما الذي تغيّر؟
يجيب الأستاذ الدكتور عبد الحميد مدكور الأمين العام لمجمع اللغة العربية على هذا السؤال قائلًا إن أهم ما استجد في الأعوام الثلاثة الأخيرة التي أنجزت خلالها الأجزاء الـ17 الأولى من المعجم، والتي تضم مجهودًا معجميًا لمفردات العربية بداية من جذورها الأولى وحتى القرن السابع عشر، على أساس الأصوات الخمسة الأولى في الأبجدية العربية، من الألف إلى الجيم، هو توفير التمويل اللازم من جهة، إلى جانب تعاظم دور التكنولوجيا في خدمة اللغات.
فقد أعلن الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة ورئيس المجمع اللغوي التابع لها قبل بضعة سنوات، تكفله الكامل بالتمويل اللازم لإنجاز هذا المشروع طوال مدة العمل عليه، باعتباره كنزًا مدفونًا يحتاج بعض الجهد لاستخراجه.
وفي نفس الوقت، فقد تطورت التكنولوجيا إيجابًا في خدمة اللغات الطبيعية، فما أنجزته المعاجم العربية العشرة خلال 3 سنوات فقط، عبر 300 باحث من معظم الأقطار العربية، كان ليحتاج أعوامًا أطول بكثير من تلك المدة، وربما لم يكن من الممكن إخراجه بهذه الصورة قبل 50 عامًا من الآن.
وكما يقول مدكور، فإن هذا المعجم يختلف كليًا عن أي معجم سابق دشنه الأسلاف، من حيث كونه يعتمد على كلّ المادة اللغوية المتاحة بالعربية خلال 17 قرنا في كل العلوم، الأدبية والتجريبيّة والدينية، وذلك خلافا للمعاجم الأولى التي كانت تعتمد في مادتها على الشعر والقرآن فقط.
بالإضافة إلى ذلك، فإن المعجم يغطي كل المجهود اللغوي العربي الصافي المعروف في عصر الاحتجاج، والذي حفظه الأسلاف خوفًا على العربية من آثار الاختلاط، مرورًا بالمفردات التي امتزجت بالعربية نتيجة الانفتاح على اللغات الهندية واليونانية والفارسية والسريانية عبر الترجمة بداية من العصر العباسي، وذلك وصولًا إلى آثار اختلاط العربية بالحضارة الأوروبية الغربية في القرون الأخيرة.
يعني ذلك، أن الباحث العربي، أو المهتم بالعلوم العربية، سيتمكن بضغط زر على المنصة الخاصة بالمعجم، من معرفة جذور أي مفردة عربية، بداية ظهورها، طريقة ظهورها في نص أو نقش، تطورها الدلالي بين الحقول المختلفة، وعلاقتها باللغات الأخرى إن وجدت “التأثيل”، واستخداماتها بين الحقيقة والمجاز، وحتى اندثارها حال كونها مفردة توقف استخدامها، وهو ما يقدم عرضًا بانوراميًا لتطور الثقافة العربية، على امتداد التاريخ والجغرافيا بشكل غير مسبوق، كما يؤكد فضل ومدكور.
تفاصيل العمل
ما دشنه الشيخ القاسمي حاكم الشارقة مطلع نوفمبر/ تشرين في افتتاح الدورة الـ40 لمعرض الشارقة للكتاب بمركز إكسبو الشارقة، كان كما سبق ذكره، الأجزاء السبعة عشر الأولى من المعجم والتي تضم الأصوات من الألف إلى الجيم، على أن يكون حجم كل جزء 720 صفحة.
بمجرد تبني المشروع ماليًا، اتفق القائمون على المشروع، الذي شاركت فيه 7 معاجم عربية إلى جانب معجميّ القاهرة والشارقة، هي السودان وموريتانيا والجزائر وتونس والمغرب والأردن وسوريا، على ضرورة استغلال ذلك الدعم والطفرة التقنية والعمل الجماعي، لإنجاز المشروع على مرحلتين في موعد أقصاه نوفمبر/ تشرين من العام الحالي.
وبناء على تلك الخطة، فقد أنجز الجزء الأول من المشروع الذي ضم 8 مجلدات، لأصوات الألف والباء والتاء، بحلول أغسطس/ آب 2020، وفي غضون العام، كان الباحثون والتقنيون قد أنجزوا الجزء الثاني الذي جاء في 9 مجلدات، تضم مواد حرفي الثاء والجيم، قبل الموعد المحدد.
خلال تلك المدة، يمكن القول إن دور مجمع القاهرة كان إشرافيًّا إذ تعود جذور المشروع إليه تاريخيًا، إلى جانب دور تنسيقي من معجم الشارقة، وقد شارك في المشروع كبار الباحثين العرب في هذا المضمار، العمل المعجمي، مثل الدكتور محمد المستغانمي، وهو جزائري يعمل في دولة قطر، والذي تولى الإدارة التنفيذية للمشروع، حتى غطت تلك المرحلة ما يصل إلى 1900 جذر لُغوي.
مستقبل المعجمية العربية
من المنتظر أن يستمر المشروع خلال السنوات القادمة بهذه الوتيرة الزمنية السريعة، في ظل ضمانة تمويلية من إمارة الشارقة، وتدريب الكوادر البحثية على العمل المعجمي، وذلك حتى الانتهاء من مادة المعجم التي ستضم كامل الأبجدية العربية بعد اكتمال المشروع، مع إتاحة مواد 20 ألف جذر، مستخلصة من 20 ألف عنوان لعشرات الآلاف من أمهات الكتب العربية بداية من تاريخ معرفتنا بالعربية حتى القرن الـ17 الميلادي.
يتوقع الدكتور صلاح فضل، أن المعاجم العربية التقليدية، التراثية والمعاصرة، والتي تعتمد على تصنيفات مختلفة، لكنها أقل شمولًا من ذلك المعجم، سيقل الاعتماد عليها ولن تصبح شائعة مع انتهاء ذلك المشروع وإتاحة مادته كاملة للجمهور على موقع إلكتروني وتطبيق ذكي.
ومع ذلك فإن المجهود لن ينتهي، إذ إن المعاجم التاريخية، في بنيتها، مثل دوائر المعارف الكبرى، تحتاج إلى مجهود دائم في المراجعة والمتابعة والتمحيص والتحديث، لتلافي أي أخطاء خلال الإعداد وتعديل أي جهد يجد الباحثون ضرورة تعديله، حتى يظل المعجم في خدمة كل من يلج إليه قاصدًا التعرف على جذور أي مفردة عربية.
ومن ناحية أخرى كما يقول فضل، فإن اللغة العربية تنتظر منا تطويع التكنولوجيا لخدمتها في مضمار آخر، وهو الترجمة الآلية للغة العربية، فلا يزال هناك صعوبات دلالية كثيرة في بنية العربية لم تذلل كي تتواءم مع الذكاء الصناعي، ما يؤدي إلى شيوع ترجمات غير دقيقة، وبالأخص في اللغة الأدبية غير التقنية (اللغة العالية)، وذلك من أجل اللحاق بباقي اللغات الحية في العالم التي قطعت أشواطًا طويلة في هذا الحقل، حقل المعالجة الآلية للغة.