لطالما تغنى الرئيس التونسي قيس سعيد بالمشروعية الشعبية وادعى أن الشارع يُسانده في كل تحركاته وقراراته، مساندة مطلقة، لكن يبدو أن هذا الأمر مردود عليه إذا ما نظرنا إلى التحركات الشعبية المناهضة له والرافضة لانقلابه الدستوري.
آخر هذه التحركات، ما شهدته العاصمة تونس أمس والعديد من مناطق البلاد بمناسبة ذكرى اندلاع الثورة ضد نظام زين الدين بن علي، فرغم أن سعيد غيّر ذكرى الاحتفال بالثورة من 14 يناير/كانون الثاني إلى 17 ديسمبر/كانون الأول حتى يخرج أنصاره للاحتفال وتأييد قراراته، إلا أن المناهضين لقراراته اكتسحوا الشارع.
مظاهرات واعتصام
يوم أمس كان يومًا حافلًا بالمظاهرات في تونس، فرغم التعزيزات الأمنية الكبيرة وغلق مختلف الطرقات المؤدية إلى وسط العاصمة تونس، فقد تمكن آلاف المحتجين من تنظيم مظاهرة كبيرة منددة بإجراءات قيس سعيد.
نادى المحتجون بإسقاط انقلاب قيس سعيد على مؤسسات الدولة واستحواذه على كل السلطات في البلاد، كما رفعوا لافتات مؤيدة لدستور 2014، الذي قال سعيد في وقت سابق من هذا الأسبوع إنه يرغب في تعديله قبل طرحه في استفتاء.
تحدى آلاف التونسيين، حواجز الأمن المنتشرة في كل مكان والتضييقات التي مورست في حقهم لمنعهم من الاحتجاج ضد قيس سعيد، وخرجوا في الشوارع منددين بسعيد وقراراته في اليوم الذي كان من المفترض أن يخرجوا فيه للاحتفال بذكرى الثورة.
يعلم سعيد والمحيطين به يقينا، أنهم لا يتحكمون في الشارع وأن الذين خرجوا يوم 25 يوليو/ تموز الماضي، لم يكن جميعهم مناصرين لهم
سبق أن أكد القائمون على مبادرة “مواطنون ضد الانقلاب” أن تحركهم الاحتجاجي -في ذكرى الثورة التي أطاحت بنظام بن علي- سيكون مناسبة لإعلان تمسك الشعب بمطالب الثورة ومبادئها ورفض العودة إلى “ظلمات الدكتاتورية والحكم الفردي”.
في سياق التحركات الشعبية المناهضة لقيس سعيد، دخل 50 معارضًا، أمس الجمعة، في اعتصام مفتوح، للمطالبة بإنهاء “الانقلاب على الدستور”، ويعتصم هؤلاء المعارضون أمام مقر نقابة المهندسين وسط العاصمة بهدف “رفض مواصلة العملية الانقلابية والخروج عن المسار الديمقراطي بتونس”.
امتدت الاحتجاجات أيضًا إلى بعض أحياء العاصمة على غرار حي التضامن وحي الانطلاقة، حيث قام بعض الشباب بإشعال العجلات المطاطية وغلق الطرقات ودخلوا في مواجهات مع العناصر الأمنية التي قامت بتفريقهم باستعمال قنابل الغاز المسيل للدموع.
كما شهدت بعض أحياء مدينتي القصرين وسيدي بوزيد مهدا الثورة التونسيين، احتجاجات متفرقة، واستخدمت القوات الأمنية الغاز المسيل للدموع لتفريق المحتجين خوفًا من اتساع رقعة الاحتجاجات ووصولها لمناطق أخرى يصعب السيطرة عليها.
الشعب يُريد مالا تُريد
خروج المظاهرات المنددة بقرار الرئيس التونسي قيس سعيّد في بعض أحياء العاصمة وفي المدن الداخلية، يعني توسع الشريحة الرافضة لقرارته ودخول البلاد مرحلة جديدة، فلوقت طويل ظل قيس سعيد يُردد أن الشعب يدعم قراراته وأن الشعب ينتصر له.
يقدّم الرئيس قيس سعيّد نفسه على أنه المستجيب لشعار “الشعب يريد”، ومصحح لمسار ثورة 2011، دون أن يخفي رغبته بتغيير النظام السياسي في تونس لتركيز السلطات في يده في الوقت الذي يقلل فيه من شأن البرلمان والأحزاب والمنظمات.
ربما ظنّ سعيد أن الآلآف سيخرجون احتفالًا بالقرارات التي أعلن عنها ليلة 13 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، لكن لم يخرج أحد، حتى في ذكرى الاحتفال بالثورة التي غير موعدها لم يخرج إلا بعض العشرات من أنصاره لمساندته، مرددين أغاني وهتافات كانت تتغنى بالرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.
طالما تغنى سعيد بمقولة “الشعب يريد “، لكن يبدو أن الشعب يُريد ما لا يُريده قيس سعيد، فالاحتجاجات والمظاهرات التي خرجت منددة بالانقلاب على الدستور والمسار الديمقراطي، رغم القمع الأمني، تمثل نقطة تحول فارقة فيما يتعلق بالمشروعية الشعبية التي لطالما برر بها الرئيس التونسي قيس سعيّد إجراءاته الاستثنائية.
من الصعب جدا التنبؤ بمآلات الوضع في تونس، في ظل وجود قيس سعيد الذي لا يُستغرب منه شيء
في كل خطاباته كان قيس سعيد يُردد مقولة “الشعب يريد”، وأنه يستمد مشروعيته من الزخم الشعبي الداعم له، واعتبر -في كلمة له يوم 25 يوليو/تموز الماضي- أن “طريقه هو الطريق الذي خطه الشعب”، لكن هاهو جزء كبير من الشعب يخرج للشوارع في مناسبات عديدة، وهو ما سيضعف حجة سعيد فيما يخص الإجراءات التي يقوم بها ويبررها بإرادة الشعب.
يعلم سعيد والمحيطين به يقينًا، أنهم لا يتحكمون في الشارع وأن الذين خرجوا يوم 25 يوليو/ تموز الماضي، لم يكن جميعهم مناصرين لهم، وإنما جزء كبير منهم خرج رفضًا للحكومة وأخرين خرجوا بعد أن سئموا المنازل التي أجبروا على البقاء فيها نتيجة وباء كورونا.
انتهاء سياسة فرض الخيارات؟
في هذا الشأن يقول الصحفي التونسي كريم البوعلي لـ”نون بوست”: “من المعلوم تمامًا أن الشعبية والمشروعية التي لطالما تحدث عنها سعيد طويلًا هي مجرد تسويق مخادع لأن قراراته فردية تنبع بالأساس من رغبته في توسيع الصلاحيات، والشارع – المتحرك على الأقل – اتضح جليًا أنه لا يساير تمشيات الانقلاب منذ 25 يوليو/ تموز الماضي.”
يعتقد البوعلي أن “النفور العام للمسار مردّه بالأساس التركيز على الصراع السياسي ومحاولات تنزيل مشروع سعيد بكل السبل وإهمال الجوانب الاقتصادية والاجتماعية كليًا مع ارتفاع للأسعار ووجود بوادر لرفع الدعم وإثقال الطبقات الوسطى بالضرائب أكثر. “
يضيف محدثنا: “التوجهات السياسية السائدة انعكست على التحركات الشعبية حيث لم يستطع الانقلاب الحشد لمسيرته في 3 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، كما خرجت الأعداد أقل بكثير من مظاهرات “مواطنون ضد الانقلاب” في كل محطاتها بينما مثلت مظاهر ات الأمس حدثًا فارقًا وبينت حجم الهوة بين الشارع المؤيد – قليل العدد – والشارع المعارض.”
يرى الصحفي التونسي أن “مسألة التظاهر والشارع على أهميتها يجب أن تكون مدخلًا ليقتنع رئيس الجمهورية بأن سياسة فرض الخيارات بطريقة أحادية قد ولى وانتهى ولا بد من تشريك جميع التونسيين في تقرير مصير بلادهم بالأدوات الديمقراطية والتشاركية والعودة للدستور وضوابطه وفتح المؤسسة التشريعية وتشكيل حكومة إنقاذ وطني لتحديد المحطات الانتخابية السابقة لأوانها الرئاسية والتشريعية.”
سبق أن طرحت مبادرة “مواطنون ضد الانقلاب”، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، خارطة طريق لإنهاء الأزمة السياسية، تحت اسم “المبادرة الديمقراطية” تتضمن انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة في النصف الثاني من العام المقبل 2022، تجرى طبقًا لقانون الانتخابات المودع في أدراج قصر قرطاج منذ سنة 2019.
من الصعب جدًا التنبؤ بمآلات الوضع في تونس، في ظل وجود قيس سعيد الذي لا يُستغرب منه شيء، لكن ماهو مؤكد أن هذا البلد العربي يعيش على وقع أزمة شديدة مست كل المجالات؛ السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ما يقتضي ضرورة الحوار للخروج منها حتى لا تنزلق البلاد إلى الفوضى.