لا تبتعد روسيا عن مدينة تدمر السورية الأثرية أبدًا، وكذا تفعل إيران التي تحشد قواتها هناك بحجّة قتال تنظيم “داعش” المتواجد في البادية السورية، حيث استطاع الطيران الروسي والنظام السوري والميليشيات الإيرانية، بالإضافة إلى التنظيم الإرهابي، أن يتمكّنوا منها ويقضوا على وجهها الجميل وينهبوا خيراتها أو يدمِّرو آثارها التي تشهدُ على تعاقب الحضارات وتروي التاريخ بآثار الحجرية.
جعلت موسكو مدينة تدمر تحت عينها دائمًا، ومنذ أيام أجرى الجيش الروسي وعناصر نظام الأسد مناورة عسكرية في تدمر، حيث تقول التقارير إن تنظيم “داعش” ينشط هناك، ونقلت وسائل إعلام روسية تلقّي عناصر النظام تدريبات على البحث عن الألغام وتفجيرها عن بُعد، مستخدمين معدّات روسية، كما شمل التدريب استخدام أسلحة رشاشة وإجراء مناورات تحاكي مواجهة عناصر تنظيم “داعش”، وطبعًا هذه المناورات ليست الأولى من نوعها في المدينة.
إضافة إلى الآثار، ارتبط اسم مدينة تدمر لدى السوريين بسجنها الذي حصلت فيه أشنع المجازر التي قادها آل الأسد ضد الشعب السوري، حيث قُتل فيها نحو ألف معتقل رميًا بالرصاص والقنابل اليدوية.
وبنيَ سجن تدمر في ستينيات القرن الماضي باعتباره سجنًا عسكريًّا، لكن حافظ الأسد جعلَ منه مع مرور الوقت أكبر معتقل في البلاد، يضمُّ آلاف المعتقلين السياسيين وعلى رأسهم معتقلو جماعة الإخوان المسلمين.
وقعت في هذا السجن مجزرة بعد محاولة اغتيال استهدفت حافظ الأسد في يونيو/ حزيران 1980، أثارت غضب الأسد وحمّل جماعة الإخوان المسلمين مسؤوليتها، فأرسل رفعت الأسد جنودًا من سرايا الدفاع التي كان يقودها آنذاك إلى سجن تدمر، وأمرهم باقتحامه وقتل من فيه، وعليه أتى الجنود بالمروحيات من دمشق إلى تدمر ودخلوا السجن وأعدموا المئات، ومن ثم نقلوا الجثامين بواسطة شاحنات وتمَّ دفنهم في قبور جماعية في البادية السورية.
تدمر والثورة السورية
بدأ الحراك الثوري في مدينة تدمر منذ بداية الانتفاضة الشعبية، حيث انطلقت المظاهرة الأولى إثر وصول خبر لأهالي المدينة بمقتل أحد المجنّدين في نظام الأسد على يد قائده، وذلك بعد أن رفضَ المجنّد إطلاق النار على المتظاهرين في درعا.
كما انتفضت تدمر بعد ما حصل في اعتصام الساعة بمدينة حمص، وتوالت المظاهرات في المدينة بحركة أقوى لتصبح الحركة الاحتجاجية يومية في المدينة، نتيجة لذلك وضعَ النظام حواجز داخل المدينة، وكان أول صدام بين المتظاهرين العزّل ورجال الأمن المسلحين في 3 أغسطس/ آب 2011، حينها أطلقت قوات الأمن النار باتجاه المتظاهرين وجرحت منهم العشرات.
في جمعة “بشائر النصر”، خرجت مظاهرة كبيرة في المدينة وأيضًا واجهها النظام بإطلاق النار وقتلَ من المتظاهرين 6 وجرحَ العشرات، في هذه الأثناء كانت تدمر تستضيف النازحين من مدينة حمص التي شنَّ عليها النظام الأسدي حملة عسكرية مسعورة، وسط تضييق منه على إدخال المستلزمات الأساسية للمدينة، وفي ديسمبر/ كانون الأول 2011 شارك أهالي تدمر بالإضراب الأكبر في سوريا وهو “إضراب الكرامة”، وخرجوا بمظاهرات حاشدة وتشكّلت في هذا الشهر نواة الجيش الحر في المدينة من عدة منشقين عن الجيش النظامي.
بدأت عمليات الانشقاق تتزايد في المدينة، وبدأت تتشكل عناصر تابعة للجيش الحر لحماية المتظاهرين بأسلحة خفيفة، إثر ذلك بدأت قوات النظام حملة عسكرية كبيرة على المدينة تمَّ من خلالها قطع كافة الاتصالات وحاصرت المدينة ونصبت الحواجز حولها، وخلال هذه الحملة التي شنّها جيش النظام السوري تبيّن لأهالي تدمر أن بعض الضباط كانوا قد اتخذوا من هذه الحملة غطاءً للتغطية على السرقات التي قاموا بها تلك الفترة، حيث طالت المدينة الأثرية المشهورة في تدمر.
الجدير بالذكر أنه في شهر يونيو/ حزيران 2012، قام الجيش الحر في المدينة بنقل محتويات متحف تدمر الأثرية كالتماثيل واللقى المعدنية إلى مخزن تحت الأرض، وقاموا بتدعيمه خوفًا عليه من السرقة والإتجار به، يأتي ذلك في الوقت الذي تضررت فيه الآثار الخارجية نتيجة تمركُز النظام فيها، وفي شهر فبراير/ شباط خاضَ الجيش الحر في تدمر معارك كبيرة مع النظام السوري، وكان الجيش الحر قد سيطر على أجزاء من المدينة، ولكن النظام أعمل آلته الحربية في تدمير المدينة وقصفها بكافة الأسلحة ليسيطر عليها كاملًا في سبتمبر/ أيلول 2013.
“داعش” والمدينة الأثرية
في شهر مايو/ أيار 2015 سيطر تنظيم “داعش” على مدينة تدمر بعد معارك مع قوات النظام السوري لمدة 9 أيام، حيث استباح التنظيم الإرهابي المدينة وأجرى فيها مذابح طالت الأطفال والنساء، وتروي الشهادات أن 400 قتيل جرى تصفيتهم في تلك المذابح وتُركت جثثهم في الشوارع بعد أن مُثّل بها.
في الشهر ذاته فجّر “داعش” سجن تدمر الشهير الذي حدثت فيه المجزرة التي تحدثنا عنها بداية هذا التقرير، وكان السجن خاليًا، إذ إن النظام السوري أفرغه قبل تسليم المدينة لأيدي التنظيم، وتقول الروايات أن كثيرًا من السجناء تمَّ إعدامهم قبل إخلاء السجن، وبتفجير السجن يكون “داعش” قد قضى على أحد أهم شواهد الإجرام الأسدي الذي لا يمكن أن ينساه السوريون.
حرص تنظيم الدولة على إظهار قوته في المدينة وتحدّيه للعالم، من خلال اعتداءاته على الشواهد التاريخية والآثار التي تدلُّ على الحضارات المتعاقبة على المكان، إذ إن مدينة تدمر الأثرية تعدُّ من مواقع التراث العالمي، فقام التنظيم بإعدام 25 جنديًّا من جيش النظام على المسرح الروماني الشهير على يد أطفال صغار أو ما كان يُسمّيهم بـ”أشبال الخلافة”.
خلال فترة السيطرة على المدينة، قام “داعش” باغتيال عالم الآثار والمدير الأسبق للآثار في المدينة خالد الأسعد، ثم قام بتعليق جثته في ميدان تدمر، ولم يكتفِ التنظيم بذلك، إذ قام بتفجير معابد المدينة الأثرية من بينها معبد بل ومعبد بعل شمين، إضافة إلى نسف قوس النصر وهو المعلم الأثري الأشهر، وأدانت حينها اليونسكو الأمر واعتبرته جريمة حرب.
خلال فترة سيطرة التنظيم على المدينة حتى أواخر عام 2015، نزح معظم السكان جرّاء تصاعد المعارك مع تدخُّل الطيران الروسي في المعركة وشنّ أولى غاراته في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، وبعد معارك شديدة سيطرت قوات النظام السوري وروسيا على المدينة في أواخر مارس/ آذار 2016.
بعد أشهر من إعادة السيطرة على المدينة، عاد تنظيم “داعش” إلى المدينة وسيطر عليها أواخر عام 2016، وقال حينها محافظ حمص، طلال البرازي: “إن القيادات الميدانية في القوات السورية اتخذت قرارًا بالانسحاب من وسط مدينة تدمر في ريف حمص بسبب الهجوم الواسع من قبل تنظيم “داعش””، وقال إن “القوات السورية انتقلت لمراكز إسناد في محيط المدينة”، مؤكدًا استهداف الجيش لعناصر التنظيم في تدمر وتحقيق إصابات مباشرة.
بالتزامن مع هذه المعارك، كان النظام السوري وروسيا يقصفان أحياء حلب، ونتيجة ذلك رأى مراقبون حينها أن إعادة سيطرة التنظيم على مدينة تدمر تأتي في صالح النظام السوري وروسيا، لصرف الأنظار عن حملة الإبادة التي كانوا يقومون بها في المدينة العريقة حلب، إذ إن النظام “تساهلَ في تسليم تدمر بسرعة كبيرة، كما اعترف سريعًا أيضًا بوسائل إعلامه الرسمية أنه فقد السيطرة على المدينة على غير العادة، وذلك كله من أجل إثبات أن الإرهاب يستهدف النظام وروسيا اللذين يقومان بمحاربته في حلب”.
في مارس/ آذار 2017، أعلنَ النظام السوري استعادة السيطرة على مدينة تدمر، في محافظة حمص وسط البلاد، من تنظيم “داعش” بإسناد جوي من المقاتلات الروسية، وبرّي من المجموعات المدعومة إيرانيًّا.
التنافس الإيراني الروسي
منذ السيطرة على تدمر نهائيًّا عملت روسيا وإيران على تثبيت نقاط لهما في المدينة الأثرية، لما لها من أهمية استراتيجية جغرافيًّا وتاريخيًّا، أضف إلى ذلك خيراتها الباطنية الوفيرة، وبالطبع لا تعمل طهران وموسكو في المدينة جنبًا إلى جنب، إنما يقودهما التنافس لإثبات تواجد كل منهما بأدوات مختلفة.
مثلًا موسكو تعمل على توسيع نشاط مرتزقتها من “مجموعة فاغنر” في المدينة، حيث تذكر التقارير أن المدينة شهدت في الأيام الماضية تحرُّكات جديدة لعناصر “فاغنر” الروسية، تمثّلت بإنشاء موقع جديد لعناصرها في أحد أحياء المدينة، ويضمُّ هذا الحي تواجدًا للميليشيات الشيعية.
ونُشر المرتزقة التابعين للمنظمة المدعومة روسيًّا، والتي تقاتل على عدّة جبهات في العالم، على مدخل المدينة الغربي قرب القلعة وفي حي المتقاعدين المجاور، بعد أن قاموا بتجهيز غرف وكتل أسمنتية مسبقة الصنع لحمايتهم من أي هجوم محتمَل.
وفي ظل السباق المحموم للسيطرة على المدينة، أفادت تقارير أن “عائلات عراقية وأفغانية وصلت إلى مدينة تدمر، واستوطنت في منازل مستولى عليها سابقًا من قبل ميليشيات إيران في المدينة”، وقالت التقارير إن هذه العائلات دخلت المدينة عبر حافلات قادمة من شرقي سوريا، وفي نطاق التغيير الديمغرافي تواصلُ طهران توطين عوائل ميليشياتها في المدينة وافتتاح مكاتب لهم والعمل على إحداث نشاطات من أجلهم.
وفقًا لصحيفة “الشرق الأوسط“: “ظهرت ملامح تحركات شعبية ضد وجود ميليشيات عراقية وأفغانية تابعة لإيران كانت فرضت سيطرتها الكاملة على مدينة تدمر ومنطقة السخنة وسط البادية السورية شرقي حمص، وتضييق على السكان الأصليين، ووضعهم أمام خيارات الولاء أو المغادرة”.
وفي شهادة نقلتها الصحيفة عن أحد أبناء المدينة، فإن إيران جعلت تدمر في وضع صعب، وتقول الشهادة: “لم تبقَ أمام من تبقّى من العوائل التدمرية الأصلية التي ما زالت تعيش في المدينة، ويبلغ تعدادها نحو 400 عائلة، سبل للعيش فيها، إما اعتناق المذهب الشيعي، وإما عمل أبنائها مجبرين لدى الميليشيات الإيرانية والأفغانية في بناء المقارّ العسكرية وحراستها ليلًا، وإما العمل في الحفريات بوسائل بسيطة للبحث عن اللقى الأثرية لصالح الميليشيات، وهذه هي الضمانات الوحيدة التي تؤمّن لك استمرار الإقامة والعيش في مدينتنا التي ولدنا وعشنا فيها لسنوات”.
ويحذِّر المدنيون الذين فضّلوا الخروج من المدينة من “خطورة الوضع الإنساني الذي يعيشه ما تبقّى من سكان بادية حمص بما فيها مدينة تدمر من عملية التغيير الديمغرافي، التي يقوم بها الحرس الثوري الإيراني، من خلال جلب أسر وعوائل عناصر ميليشيات لواء فاطميون الأفغاني وحركة النجباء العراقي، وتوطينها في المنطقة، فضلًا عن عمليات إجبار السكان على بيع منازلهم بأسعار زهيدة للمتنفّذين في الميليشيات، فضلًا عن حرقها وتخريبها لبساتين البلح والتمر المحيطة بالمدينة”.
وبعد السيطرة على تدمر من يد “داعش”، قامت الميليشيات الإيرانية بحملة تنقيب جديدة عن الآثار في المنطقة الأثرية في مدينة تدمر وصحرائها الشرقية الممتدة باتجاه دير الزور، حيث استقدمت الميليشيات آليات إلى المنطقة مع حظر على المناطق التي تنقّب فيها، وتعرضت لجنة من مديرية المتاحف والآثار السورية للاعتداء من قبل الميليشيات، بعد محاولتها الدخول إلى منطقة المدينة الأثرية.
أما بالنسبة إلى روسيا، فإنها تتغاضى عن الوجود الإيراني حاليًّا طالما أنه لا يشكّل خطرًا على أعمالها، إذ إن موسكو بدأت عبر قواتها في سوريا بإنشاء عمليات تنقيب عن الآثار في المنطقة بهدف نقلها إلى الأراضي الروسية، كما حوّلت الخبراء السوريين إلى مراقبي عمّال في مواقع الآثار ضمن عقود أُبرمت بين الطرفَين، ليتمَّ إخراج القطع الأثرية وترحيلها عبر الطيران.
كما أنشأت موسكو مستودعات لتخزين الآثار بمطار تدمر العسكري، بهدف استقبال الآثار التي يستخرجونها من المنطقة الوسطى في سوريا، وفقًا لما ذكره تقرير لـ”تلفزيون سوريا” أواخر عام 2020.
الجدير بالذكر أن روسيا في عام 2016 طرحت مشروعًا لإعادة إعمار مدينة تدمر وجميع الأماكن الأثرية، كما أعلنت “أكاديمية العلوم الروسية” أن جهود بعثة الخبراء الروس التي أرسلتها إلى تدمر أثمرت عن تشكيل نموذج ثلاثي الأبعاد عن المدينة الأثرية.
ويُذكر أن الجيش الروسي قام ببناء قاعدة عسكرية في مدينة تدمر ضمن المدينة الأثرية، وتحتوي القاعدة الروسية على دفاعات جوية وعربات مدرَّعة، بالإضافة إلى مهبط طائرات مروحية.
وتسعى روسيا إلى توسيع نفوذها في تدمر لكي تحمي الاستثمارات النفطية والطاقوية في المنطقة، إضافةً إلى الاستعداد لأي اتفاقيات ممكن أن تحصل في المنطقة الشرقية لسوريا والتي تسيطر عليها القوات الأمريكية.
ختامًا؛ تُعتبَر حالة مدينة تدمر السورية الأثرية كحالة سوريا، تتنازع عليها الأطراف كافة، لكن ما تحتويه هذه المدينة من آثار وخيرات يجعلها عامل جذب لكل من روسيا وإيران، ويبدو أنهم يريدون تعويض جزءًا من خسارتهم التي تكلّفوها بانخراطهم بالحرب إلى جانب النظام، وذلك عبر تهريب الآثار وبيعها والتنقيب عن الخيرات والاستحواذ عليها.