نجحت إيران مؤخرًا في غلق صفحات مؤذية لجيرانها، حيث استعادت بالدبلوماسية الكثير من القواسم المشتركة مع دول آسيا الوسطى، والتي يُشار إليها أيضًا بالعامية باسم “الستانات”، باعتبار أن جميع بلدان المنطقة لها أسماء تنتهي بالكلمة الفارسية “ستان” وتعني كلمة “أرض”، وحسب ما يتّضح من الكلمة المشترَكة في تسميه البلدان، فإنها تشترك جميعًا في الكثير من الخصائص المتقاربة للغاية مع إيران.
يدخل في نطاق آسيا الوسطى بجانب أوزبكستان وتركمانستان وكازاخستان وطاجيكستان وقيرغيزستان، أفغانستان ومنغوليا وكشمير وشمال وغرب باكستان، وأحيانًا شينجيانغ -تركستان الشرقية القديمة- في غرب الصين وجنوب سيبيريا في روسيا، وكان تقسيم العالم القديم يُدخل هذه البلدان في مجال الحضارة الإيرانية أكثر من أي دولة أخرى.
في مرحلة ما قبل الإسلام وأوائل الإسلام، كانت آسيا الوسطى إيرانية الثقافة، تتحدث باللغات الشرقية الفارسية، وحتى الآن لغاتهم تحتوي على الكثير من الكلمات الفارسية، ومن اللغة نفسها تُشتَقّ أسماء العديد من الأماكن والمدن، ويعود اقتراح تسمية هذه المناطق كمنطقة جغرافية واحدة تُسمّى بآسيا الوسطى إلى حدود عام 1843 من قبل الجغرافي البروسي ألكسندر فون هومبولت، في إشارة إلى ذلك الجزء من القارة الآسيوية الذي لم يكن بين بلدانه تعريف واضح لحدودهم الجغرافية.
أولويات السياسة الإيرانية
حتى وقت قريب كانت هذه البلدان بعيدة عن أولويات السياسة الخارجية الإيرانية لعدة أسباب، منها أنها لعقود متتالية كانت مناطق نفوذ خالصة للإمبراطورية الروسية ثم الاتحاد السوفيتي وروسيا فيما بعد، ما جعلها موطنًا لحوالي 7 ملايين من أصل روسي و500 ألف أوكراني.
لكن هذه البلدان أصبحت سوقًا مناسبًا للبضائع الإيرانية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ومن التجارة بدأ وعي مختلف يتأسّس على المصالح المشترَكة وأهمية التلاحُم بين الجميع لصدّ أطماع القوى الخارجية، ورفع مستوى العلاقات الاستراتيجية بين الدول ذات الإرث المشترَك، والكثير من المشتركات الباقية حتى اليوم، وهي من الضروريات الأساسية للتحالف.
استغلت إيران علاقاتها الجيدة بروسيا خلال العقد الماضي لتقريب وجهات النظر، وتطمين الحزام الآسيوي المحيط بها من عدم رغبتها في تشييع السنّة، لا سيما أن بعض الدول مثل طاجيكستان كانت وما زالت تنظر إلى طهران بالكثير من الحذر، واتّهمتها رسميًّا منذ سنوات أنها خلف التحريض على انقلاب فاشل دُبِّر للاستيلاء على السلطة.
الاحتقان بين إيران وطاجيكستان عبّر عنه التلفزيون الطاجيكي الحكومي، الذي بثَّ فيلمًا وثائقيًّا يتّهمُ طهران بتأجيج الحرب الأهلية الطاجيكية (1992-1997)، وتوفير الأموال للمعارضة الإسلامية وتدريب المسلحين للقيام بسلسلة من الاغتيالات في منتصف وأواخر التسعينيات.
لا تتوقف الأزمة مع إيران في آسيا الوسطى على طاجيكستان، بل تركمانستان أيضًا لديها صراع مكتوم معها بسبب الخلاف على أولوية بيع الغاز التركماني، فإيران تريدُ احتكار الجزء الأكبر لصالحها، لكن تعثُّرها في السداد بسبب العقوبات الدولية القاتلة عليها، جعل تركمانستان تقرر قطع إمدادات الغاز، ليقررا في النهاية اللجوء إلى التحكيم الدولي، حتى لا تتفاقم الأزمة وتنشب صراعات مسلحة بينهما.
طهران والمنتديات الإقليمية
في السنوات الأخيرة جرى الكثير من المياه في النهر، تغيّرت الحسابات الخارجية الإيرانية، وأصبحت إيران تضع أهمية كبيرة للعوامل الجيوسياسية الإقليمية، تحاول بكل الطُّرق التقرُّب من 110 مليون مسلم داخل هذه البلدان -معظمهم من السنّة- يحيطون بها من كل جانب.
حتى تتجاوز خلافاتها مع دول آسيا الوسطى، لعبت إيران على تجنيب هذه الدول مشروعها للتوسُّع الطائفي، وحاولت ملء الفراغ الذي أحدثته أمريكا بالخروج من المنطقة، بالتوحيد بين سياساتها ومصالح القوى الكبرى المعارضة لأمريكا، التي تتلاقى الآن مع روسيا الحازمة عسكريًّا والصين المتفوقة اقتصاديًّا .
استغلت إيران انشغال العالم بالجهود الأوروبية لإجراء مفاوضات مع الولايات المتحدة والقوى العالمية حول برنامجها النووي، لطرق كل أبواب المنتديات الإقليمية، فحصلت على العضوية في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي يضمُّ أيضًا بروسيا وبيلاروسيا وكازاخستان وأرمينيا وقيرغيزستان، وبدأ الاتحاد عمله رسميًّا في 1 يناير/ كانون الثاني 2015 لخدمة حوالي 5% من سكّان العالم.
خلقَ هذا الاتحاد مساحة تحرُّك أكبر لطهران في هذا الجزء من العالم، يتّضح ذلك من الزيارة التي قامَ بها رئيس الجمهورية الإسلامية السابق حسن روحاني لأرمينيا، قبل يومَين من حضوره قمة الاتحاد الأوروبي الآسيوي، والعديد من البلدان الأخرى الهامة في الاتحاد.
حصلت إيران أيضًا على عضوية منظمة التعاون الاقتصادي، ومنظمة شنغهاي للتعاون، وبهاتين العضويتَين ربحت مكاسب طائلة كان أبرزها اتفاقات تبادل الغاز مع تركمانستان وأذربيجان، واستيراد من 1.5 إلى 2 مليار متر مكعب غاز سنويًّا عبر شبكة خطوط نقل إيران، لا سيما أن كل من أذربيجان وتركمانستان من الدول المطلّة على بحر قزوين ولا تحتاج أي منهما إلى دولة ثالثة لنقل الطاقة عبرها.
هذه النزعة الإقليمية والمشاركة النشطة في المنظمات الإقليمية والدولية، أصبحت من المبادئ الأساسية لسياسة إيران الخارجية في السنوات الأخيرة للتغلُّب على العقوبات الدولية، والاستفادة من قدرات الجيران والقوى الإقليمية، ورصّها جنبًا إلى جنب للحدّ من تأثير العقوبات والالتفاف عليها.
تريد إدارة إيران الإيحاء للعالم بأن عضويتها الكاملة في المنتديات الكبرى، منها منظمة شنغهاي للتعاون، ترجمة حقيقية للتحول في ميزان القوة نحو القوى الناشئة والصاعدة وتحريكه بعيدًا عن القوى الغربية.
ولهذا زادت رحلات كل أجنحة السلطة الإيرانية إلى دول الجوار خلال السنوات الماضية، وجاء فوز إبراهيم رئيسي في الانتخابات الأخيرة ليعزِّز من نفوذ إيران داخل المنظمات الإقليمية المختلفة.
طموحات رئيسي
لا يكتفي الرئيس الجديد لإيران بما حقّقته بلاده من صفقات كبرى، منها اتفاقية التجارة الحرة المؤقتة بين إيران وأوراسيا، وإخضاع 864 سلعة للتجارة التفضيلية من قبل الطرفَين، وتصفير التعريفة الجمركية على حوالي 70 سلعة، وفتح مناقشات كبرى مع الجميع لتوسيع اتفاقية التجارة، وإنشاء منطقة تجارة حرة كاملة الوظائف، بعد أن زادت التجارة البينية مع الاتحاد بنسبة 18.5% عام 2020.
تريد إدارة إيران الإيحاء للعالم بأن عضويتها الكاملة في المنتديات الكبرى، منها منظمة شنغهاي للتعاون، ترجمة حقيقية للتحول في ميزان القوة نحو القوى الناشئة والصاعدة وتحريكه بعيدًا عن القوى الغربية، وتُستمَدّ هذه النظرة من تموضع روسيا والصين الجديد في النظام الدولي، فالبلدان رائدان في منظمة شنغهاي للتعاون، ويشتركان في مصلحة مشتركة لإخراج الولايات المتحدة من المنطقة.
تنظر إيران إلى الصين باعتبارها جهة تيسير التجارة والاستثمار الإقليميَّين فيما يتعلق بمبادرة الحزام والطريق، بينما تعرف أن روسيا تريد استعادة نفوذها وهيمنتها في آسيا الوسطى، وتلبّي لهما هذه الحاجة من خلال الحزام الموالي لها في المنطقة، مقابل دفعهما لتخفيف الضغط الأمريكي-الغربي عليها.
إبعاد دول الخليج
لا يتوانى إبراهيم رئيسي عن بذل كل الجهود الممكنة لإبعاد دول الخليج العربية عن التحالف الإقليمي في هذه المنطقة، حتى تبقى إيران أفضل من يمكنه لعب همزة الوصل في توثيق علاقات البُلدان المجاورة مع الصين وروسيا، ولهذا اختار أن تكون أول رحلة خارجية له على المستوى الدولي بعد فوزه بالرئاسة إلى قمة منظمة شنغهاي للتعاون.
يسابق الرئيس الإيراني البلدان العربية، لا سيما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، لإقامة علاقات رسمية أكثر مع منظمة شنغهاي للتعاون، بحيث يمكن لعضوية إيران في المستقبل إشهار حق النقض ضدّ حصول السعودية والإمارات على عضوية منظمة شانغهاي للتعاون.
يعلم رئيسي باهتزاز ثقة دول الخليج في مصداقية الولايات المتحدة كضامن للأمن، بسبب رحيلها عن أفغانستان، فضلًا عن سحب سلاح الدفاع الصاروخي الأميركي الأكثر تقدُّمًا -نظام ثاد- وبطاريات باتريوت من السعودية، ما ساهمَ في نجاح الحوثيين في ضرب أهداف بالمملكة.
استفاد الرئيس الإيراني من تراجُع الصين وروسيا عن التردُّد في قبول العضوية الكاملة لإيران في المنظمة، لأنهما لا يريدان تعطيل علاقاتهما المتوازنة مع إيران وخصومها، لكنَّ صانعي السياسة في البلدَين المتابعين للأحداث في أفغانستان منحوا إيران فرصة الانضمام إلى شنغهاي، من أجل جذب تعاون طهران في أفغانستان بعد تولّي طالبان الحكم، مع ممارسة أكبر قدر ممكن من الضغط عليها لمنع استخدام عضويتها بشكل سلبي ضد مصالح دول المنظمة.
لكن حتى هذه المفاوضات للابتعاد عن السعودية وإيران وباقي دول الخليج ستقوّي من شوكة إيران، وتجعل لها كلمة مسموعة في قضايا المنطقة، حتى لو كان المقابل مجرد مقايضة على مواقفها تجاه خصومها وتحالفاتهم المستقبلية.