في مصر، لا يمانع الآباء تحمُّل المزيد من النفقات من أجل الحصول لأبنائهم على تعليم أفضل نسبيًّا، بعدما فقدَ التعليم المجاني الحكومي هيبته وقيمته إثر الانهيار الذي يواجهه منذ عقود طويلة، حيث يرى أولياء الأمور أن أودلاهم هم الاستثمار الحقيقي ورأس مالهم في الحياة.
وهربًا من كابوس المدارس الحكومية، تحولت نظيرتها الخاصة والدولية إلى قِبلة للطامعين في مستوى تعليمي أفضل، ومن ثم مستقبل أكثر إشراقًا، مهنيًّا وأخلاقيًّا واجتماعيًّا، وهنا جاءت الفرصة على طبق من ذهب لأصحاب تلك المدارس لممارسة كافة أنواع الابتزاز المادي، استغلالًا لرغبات شريحة كبيرة من المصريين في محاولة اللحاق بركب التعليم المتميّز والإفلات من شبح التعليم الحكومي المنهار منذ سنوات.
لكن مع مرور الوقت تغيّرَ مفهوم الناس للتعليم الخاص، فلم يعد ذلك الأمل المنشود للباحثين عن مستوى أفضل ومستقبل مضمون، إذ تحول في السنوات الأخيرة إلى مرتع للفساد على كافة المستويات، تجاوز -في بعض الأحيان- ما تشهده المدارس الحكومية، ذلك الفساد الذي تخطّى شتّى الحواجز، ليشمل تحت مظلته جميع أركان العملية التعليمية (الوزارة ورجال الأعمال والمواطنون).
تفشّي رائحة الفساد من بين ثنايا القطاع الخاص دفعَ وزير التربية والتعليم، طارق شوقي، إلى إصدار قرار وزاري بشأن مكافحة الفساد بديوان عام الوزارة والمديريات التعليمية، حملَ رقم 64 لعام 2016، يقضي بتشكيل لجنة لمتابعة الفساد وملاحقة المفسدين، لكن الغريب أن هذا القرار زُجَّ به في ثلاجات التجميد، إذ فوجئ الجميع بوقف اجتماعات تلك اللجنة بقرار مباشر من الوزير دون إبداء الأسباب، الأمر الذي فتحَ الباب أمام الشكوك حول تورُّط الوزارة وقطاعاتها المختلفة في منظومة فساد هذا النوع من التعليم.
التعليم الخاص.. فرصة استثمارية مغرية
أسال قطاع التعليم الخاص لُعاب المستثمرين ورجال الأعمال الباحثين عن الربح المادي السريع، إذ سجّلت المدارس الخاصة نموًّا كبيرًا خلال السنوات الماضية، يمثّل تقريبًا ضعفَي النمو في المدارس الحكومية، حيث بلغ معدل نموها قرابة 4.4% من عام 2014 وحتى عام 2019.
فيما يقدَّر حجم المدفوعات السنوية لطلاب المدارس الابتدائية والثانوية بحوالي 2.2 مليار دولار في العام الدراسي 2016-2017، وفق تقرير مؤسسة “كوليرز إنترناشيونال” المتخصصة في الملف التعليمي، والذي جاء بعنوان “نظرة عامة على سوق قطاع التعليم الأساسي لعام 2020″.
جاء استحواذ العاصمة القاهرة على النصيب الأعظم من المدارس الخاصة والدولية نظرًا إلى ارتفاع مستويات الدخل بها.
أشار التقرير إلى أن عدد الطلاب المسجّلين بالمدارس الدولية والخاصة في مرحلة التعليم الأساسي، زادَ خلال السنوات الخمس الماضية بنسبة 6.3% مقارنة بـ 3.6% في القطاع الحكومي، متوقعًا أنه ستكون هناك حاجة إلى ما يقارب 2.1 مليون مقعد جديد في مدارس القطاع الخاص بمصر بحلول عام 2030، منها حوالي مليون مقعد تقريبًا في القاهرة وحدها.
وجاء استحواذ العاصمة القاهرة على النصيب الأعظم من المدارس الخاصة والدولية، نظرًا إلى ارتفاع مستويات الدخل بها، فوفق “كوليرز إنترناشيونال” فإنه يمكن للعائلات التي تسكن القاهرة سداد الرسوم الدراسية السنوية لتلك المدارس، والتي تتراوح بين 2.5 ألف إلى 30 ألف دولار، مع توقع زيادة عدد الأسر التي يمكنها تحمُّل تلك الرسوم بحلول عام 2030.
ومن المتوقع خلال العقد الحالي أن يرتفع عدد الأسر التي يمكنها دفع رسوم قدرها 2.5 ألف دولار من 80 ألفًا إلى 110 آلاف، فيما يزيد عدد الأسر التي يمكنها دفع رسوم قدرها 6.5 ألف دولار من 30 ألفًا إلى 40 ألفًا، وأن يرتفع عدد الأسر التي يمكنها دفع رسوم بقيمة 15 ألف دولار من 16 ألفًا إلى 21 ألفًا، أما الأسر التي يمكنها دفع رسوم بقيمة 30 ألف دولار فمتوقع أن تزيد من 10 آلاف حاليًّا إلى 16 ألفًا مستقبلًا، بحسب التقرير.
أما عن خارطة المدارس الخاصة مقارنة بالحكومية في مصر، فوفق التقارير الرسمية الصادرة في 2019-2020 يبلغ إجمالي عدد مدارس القطاع الخاص حاليًّا 8171 مدرسة على مستوى الجمهورية، وتضمُّ 70284 فصلًا، فيما إجمالي عدد الطلاب الدارسين بالمدارس الخاصة 2 مليون و332052 طالبًا وطالبة، منهم مليون و232538 طالبًا، ومليون و99514 طالبة، ويعمل بهذه المدارس 91385 معلمًا ومعلمة.
أما القطاع الحكومي فيبلغ عدد المدارس به 47043 مدرسة، تضمُّ بداخلها 429884 فصلًا، يدرس بها 20 مليونًا و121329 طالبًا وطالبة، منهم 10 ملايين و291689 من الذكور، و9 ملايين و859640 من الإناث، ويقوم على العملية التعليمية بداخلها 947282 معلمًا ومعلمة.
مملكة فساد تسع الجميع
“لم أعرف كثيرًا عن التعليم الخاص، ولكن كل ما لدي من معلومات أن التعليم الخاص يمتلك الكثير من الإمكانات التى لا يستطيع التعليم الحكومي أن يمتلكها، ولكن حينما اقتربت من التعليم الخاص، ظهر لي ما كنت لا أتوقعه، مملكة من الفساد، وجدتُ فساد جميع المراحل التعليمية من ابتدائي.. إلخ أمام عينَي، وحينها أيقنت أننا نخضع لمؤامرة كبرى، تعمد إخراج أجيال لا تعرف عن العلم شيئًا إلا اسمه، وكل ما لديهم من فكر ينحصر فى الكرة والغناء.. إلخ”، هكذا عبّر الخبير الأكاديمي أحمد عبد العزيز الشيخ عن صدمته في التعليم الخاص بعدما بات مرتعًا للفساد.
الرأي ذاته تبنّاه الكاتب الصحفي محمد البرغوثي، حين قال في مقال له بصحيفة “الوطن” المصرية، إن التعليم في مصر في كل مراحله من الحضانة للدراسات الاجتماعية تحوّلَ إلى “مستنقع قذر لا يمكن تطهيره بواسطة القائمين على أمره أيًّا كانوا”، مضيفًا أن مقومات نجاح أي تعليم في العالم لا تنطبق على الوضع في مصر بعدما نخرَ الفساد في مفاصل نظامها التعليمي.
وعن رؤيته لمعاول الهدم في منظومة التعليم المصرية، يقول البرغوثي: “سوف نكتشف أن العشرات ممن تعاقبوا على المناصب التنفيذية العليا فى وزارة التربية والتعليم أصبحوا منذ سنوات شركاء بنسب تتفاوت حسب الأهمية فى العديد من المدارس الخاصة، التي انفردت بالطبقة المتوسطة وامتصت رحيق الحياة من عروقها، دون أن تقدم لأبنائها أي تعليم”.
وألمحَ الكاتب المصري أن غالبية المدارس الخاصة لا يوجد بها فصول مخصَّصة لطلبة الثانوية العامة، بعد أن هجر الطلاب المدارس وعزفوا عن الحضور مكتفين بالدروس الخصوصية، وأن تلك المدارس باتت في حيرة من أمرها بعد قرار إلزام الطلاب بالحضور، ما دفع بعضها إلى تجميع الطلاب في الأحواش والحدائق لتلقي الدروس بها.
فيما استعرض الخبير التربوي، أحمد صقر عاشور، أبرز أسباب ومظاهر تفشي الفساد في التعليم الخاص المصري، منها انتشار السوق السوداء فى التعليم، أو نظام التعليم الظل، والمتمثل فى الدروس الخصوصية، وتحول التعليم الخاص إلى تجارة رابحة بوسائل وتحايلات شتّى من القائمين على هذه المؤسسات الخاصة.
هذا بجانب انتشار الرشاوى التي يدفعها أولياء الأمور لقبول الطلاب، سواء كانت رشاوى صريحة أو في صورة تبرعات وهبات قسرية، فضلًا عن قبول مستندات مزوَّرة ضمن مسوِّغات القبول لتمرير أوضاع خاطئة، وفضلًا عن تفشي الفساد فى الامتحانات (مثل التلاعب فى نتائجها أو بتسريبها نظير مقابل)، وهو الحال في الشهادات الأكاديمية التي باتت تمنح نظير رشاوى من خلال التزوير، مع التوسُّع فى منح درجات أكاديمية دون اعتبار للمعايير العلمية والأكاديمية.
الحصول على أي رخصة لبناء مدرسة خاصة جديدة لا يكون إلا بالرشاوى.
وعلى المستوى الجامعي هناك فساد من نوع آخر يخيّم على مراحل المسار الوظيفى للمدرِّسين ولأعضاء الهيئة الأكاديمية فى الجامعات والمعاهد العليا، بجانب جرائم السرقة والتزوير في الرسائل العلمية التي تحتلُّ فيها مصر مرتبة متأخرة، نظرًا إلى عدم التزامها بالمعايير العلمية المهنية، وهو الأمر الذي ربما جعل الدولة الأفريقية قِبلة طلاب وباحثي العرب الباحثين عن درجات علمية بأقل مجهود.
مستقبل الأجيال في خطر
“لا تعليم حكومي نافع ولا خاص… طب أودي ولادي فين؟”.. بنبرات يعلوها الحزن عبّرت سامية عن استيائها من الوضع الذي باتت عليه مدرسة نجلها الأكبر، الطالب في الصف الثاني الثانوي، لافتة أن المدرسة باتت طاردة للطلاب، ومرتعًا للتجاوزات والانتهاكات التي تضع مستقبل أبناء الوطن على المحك.
تكشف ربة المنزل المصرية في حديثها لـ”نون بوست” عن قفزات جنونية في رسوم المدرسة خلال السنوات الماضية، اضطرت لتحمُّلها رغم دخل الأسرة الذي لم يتغير منذ سنوات، أملًا في حصول أبنائها (لديها 3 أبناء، واحد في الثانوية و2 في المرحلة الإعدادية) على تعليم جيد، يساعدهم في الحصول على فرص عمل مناسبة مستقبلًا، كونهم الاستثمار الحقيقي للوالدَين.
لكنها فوجئت أن أبناءها ما عادوا يرغبون في الذهاب إلى المدرسة، لا شرح جيد، ولا تنظيم، ولا حضور لأغلب المدرِّسين، فيما يظلون طول اليوم من دون معلم، هذا مع التكدُّس غير المسبوق في أعداد الفصول، بعض الفصول تجاوز 50 طالبًا في مدرسة خاصة، في مقابل ذلك كانت الدروس الخصوصية هي الملجأ الوحيد، وفي تلك قصص وروايات لما تشهده من فساد وابتزاز كفيل أن يقضي على أي أسرة بالضربة القاضية.
فيما يشير السيد، ويعمل صحفيًّا، إلى أنه اضطر لدفع رشاوى للمدرسة لقبول ولده الطالب في الإعدادية والراغب في الانتقال من مدرسة إلى أخرى، مضيفًا: “طلبوا مني تأثيث فصل كامل من الأدوات والأجهزة، وحين سألت عن سبب تلك المساعدات طالما أنها ستُكتب باسم المدرسة، أخبروني أن هذا شرطًا وضعه مدير المدرسة ولن يقبل أي طالب إلا بعد استيفائه”.
وأشار إلى أنه تدخّلَ بصورة رسمية لدى وزير التربية والتعليم عبر مذكرة رسمية في المدرسة، مستغلًّا علاقته ببعض المقرّبين من الوزير بصفته الصحفية، لكنه بعد أسبوع تقريبًا فوجئ برفض قبول نجله، وحين ذهب للمدرسة للسؤال عن السبب، قيل له: “خلي الوزير ينفعك”.. “هنا أيقنت أننا في مافيا وليس منظومة تعليمية”، هكذا علّقَ الصحفي المصري.
فيما كشف شعبان، الذي يعمل مدرِّسًا في إحدى المدارس الخاصة بالجيزة، أن التعليم الخاص تحول إلى “تكية” فساد، يشارك فيها الجميع، لافتًا إلى أن الكل يأكل على موائد أولياء الأمور، بدءًا من الوزارة مرورًا بأصحاب وملّاك المدارس، وأن الطلاب هم الضحية الأبرز في تلك المنظومة.
تراجعَ مؤشر مصر في جودة التعليم عامًا تلو الآخر، حيث كانت في المركز قبل الأخير (139 من 140 دولة).
ويضيف في حديثه لـ”نون بوست” أن الحصول على أي رخصة لبناء مدرسة خاصة جديدة لا يكون إلا بالرشاوى، علمًا أن هناك أسماء معروفة بعينها داخل الوزارة تتقاضى رواتب شهرية من ملّاك المدارس نظير تمرير أوراقها وعدم عرقلتها بما فيها من تجاوزات وانتهاكات، وهو ما تعوِّضه المدارس من خلال زيادة الرسوم الدراسية التي يتحملها المواطن، في غيبة تامة من التدخل الحكومي الذي لا يلقي بالًا لمئات الرسائل والاستغاثات الواردة له من الأسر المغلوب على أمرها.
ونتيجة منطقية لما سبق، تراجعَ مؤشر مصر في جودة التعليم عامًا تلو الآخر، وسواء كانت في المركز قبل الأخير (139 من 140 دولة)، بحسب منتدى دافوس الاقتصادي العالمي، أو في المركز الـ 93 كما أشار وزير التعليم المصري.
بات الفساد المستشري في جنبات منظومة التعليم في مصر على مرأى ومسمع من الجميع، دون إنكار، ولعلّ هذا ما دفع الوزير ذاته لتشكيل لجنة لمكافحة هذا الفساد، قبل أن يأمر بوقف عملها دون أسباب، لتدفع الأجيال القادمة الثمن الفادح الذي لا شكّ أنه سيضع مستقبل الدولة الأقدم تعليميًّا في المنطقة على المحك.