في 19 ديسمبر/ كانون الأول 2018 خرجَ الآلاف من السودانيين في أفواج ثورية، من مدن عطبرة وبورتسودان والدمازين والقضارف ومدن أخرى، ضد نظام الرئيس المعزول عمر البشير، قبل أن تصلَ بعد أسبوع تقريبًا إلى العاصمة الخرطوم، حيث القصر الجمهوري.
لم يكن يتوقع الكثير حينها أن قطار الربيع العربي ما زال قادرًا على الانطلاق نحو محطات جديدة، بعدما استنزفَ وقوده في الكثير من المحطات العربية الأخرى، لكن الأمور جاءت عكس كافة التوقُّعات، إذ استطاع الثوار الإطاحة بنظام الإنقاذ وعزل البشير في 11 أبريل/ نيسان 2019، بعد 30 عامًا من التربُّع على رأس السلطة في البلاد.
الإطاحة بالبشير كانت لحظة فارقة في تاريخ السودان، تلك اللحظة التي حاول فيها العسكر اختطافها لحسابهم ومن أجل مصالحهم، فيما كان يراها الثوار نقطة انطلاق نحو سودان جديد، سودان بلا عسكرة، سودان يقوم على المدنية والديمقراطية، سودان مستقلّ سياسيًّا ولديه السيادة الكاملة على قراراته وتوجُّهاته.
وبين الحالمين بالمدنية والنهوض بالدولة الجديدة، والمتمسّكين بالعسكرة والعصور الظلامية، سقطَ السودان في فخاخ المؤامرات والانقلابات والمخططات، المدعوم بعضها من الخارج، من أجل إجهاض مكتسبات الثورة التي فضحت الكثير من الوجوه وأسقطت عدة أقنعة، لتدفع البلاد ثمنًا باهظًا جرّاء هذا الصراع الذي لم يُحسَم بعد.
اليوم تمرُّ 3 سنوات كاملة على انطلاق شرارة الثورة السودانية، وسط إصرار ثوري على المقاومة والمضيّ قدمًا في طريق الانتقال الديمقراطي والحفاظ على مكتسبات الثورة التي يحاول العسكر اختطافها يومًا تلو الآخر، دفع السودانيون خلالها الثمن غاليًّا، مئات القتلى وآلاف المصابين ومثلهم من المعتقلين، وتشبُّث بالأمل في مواجهة مخططات اليأس عبر فرض الأمر الواقع بالقوة.
إصرار على المقاومة
فشل العسكر في الرهان على عنصر الوقت لتفتيت لُحمة الثوار وتشتيت قواهم وبثّ سموم الإحباط في نفوسهم، فبعد مرور 1095 يومًا على انطلاق الثورة لا يزال الحراك مستمرًّا في الشارع، بنفس الزخم والسخونة والإصرار، إن لم يكن أكثر، بعد الدروس المستفادة التي تعلّمها السودانيون على مدار الأشهر الماضية، خاصة بعدما كشف الجنرالات عن وجههم الحقيقي الطامع في الاستئثار بالسلطة، بعد سقوط شعارات التشاركية والمدنية وتعزيز الانتقال الديمقراطي.
وخلال الأيام الماضية شحنَ السودانيون بطارياتهم الثورية للمشاركة في مليونية 19 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، تلك الفاعلية التي يؤكّد بها الثوار إصرارهم على إكمال ثورتهم المختطَفة مهما كانت العقبات، رغم الانتهاكات التي يمارسها العسكر بحقّهم من قتل وتنكيل واعتقالات وتهديد، وتهجير أحيانًا، كما في المناطق الشرقية.
بجانب الفشل الداخلي الذاتي للمكوّن المدني بالسلطة الانتقالية، هناك إفشال آخر متعمَّد من قبل العسكر لتشويه صورة المدنيين، الأمر الذي يصبُّ في مصالحهم الرامية إلى الانفراد بالسلطة دون مشاركة من أي تيار آخر.
عشرات المسكّنات والحبوب المخدِّرة قدّمها الجنرالات لتهدئة الشارع الثائر، وإخماد نار الثورة المشتعلة داخل صدوره، لكنها لم تؤتِ ثمارها، حيث تتصاعد وتيرتها يومًا بعد يوم، بعدما فَقَدَ السودانيون الثقة في وعود العسكر وعهودهم التي تبخّرت مع مرور الوقت، لتصبح مجرد شعارات جوفاء كان الهدف منها كسب الوقت ومغازلة الخارج.
أيقنَ السودانيون أن الشارع هو الضمانة الحقيقية لبقاء ثورتهم على قيد الحياة، وأن التمسُّك بالشوارع والميادين هو الحل الوحيد للحفاظ على مكتسبات الثورة، وأن التفاوض -إن وُجد- لن يكون إلا وهُم في حراكهم حتى تتحقّق كافة مطالبهم، التي يأتي على رأسها عودة العسكر إلى ثكناتهم وتسليم السلطة للمدنيين وفق الوثيقة الدستورية الموقعة في أغسطس/ آب 2019.
السلطة الانتقالية المدنية.. سقوط متعمَّد
فشلت السلطة الانتقالية في مكوّنها المدني، المتمثل في حكومة عبد الله حمدوك وحاضنته السياسية (تحالف قوى الحرية والتغيير)، في تلبية طموحات الشارع، بدءًا من اختيار وزراء ومسؤولين ضعاف الخبرة، وتغليب المحاصصة على الكفاءة، وهو ما اتّضحَ بشكل كبير في الاستئثار بالسلطة على أعضاء التحالف دون غيرهم.
هذا بخلاف الانشغال بالسيطرة على الكعكة بعيدًا عن مصلحة الوطن العليا، ما أوقعَ السلطة في شباك الانقسامات والتشرذمات التي فتّتَت أواصرها وأجهزت على قدراتها المحدودة بطبيعة الحال، الأمر الذي انعكس على الأداء العام فكان الفشل هو النتيجة المنطقية لتلك المقدمات الكارثية التي لفظها الشارع شكلًا ومضمونًا.
وبجانب الفشل الداخلي الذاتي للمكوّن المدني بالسلطة الانتقالية، هناك إفشال آخر متعمَّد من قبل العسكر لتشويه صورة المدنيين، الأمر الذي يصبُّ في مصالحهم الرامية إلى الانفراد بالسلطة دون مشاركة من أي تيار آخر، وذلك من خلال وضع العراقيل أمام الحكومة وزيادة الاحتقان الشعبي والطائفي ضدّها.
ولعلّ استثارة قبائل البجا في شرق السودان، ودعمها في تصعيدها ضد الحكومة، أحد أبرز الأدلة على هذا التوجُّه، حتى وصل الأمر إلى رفع سكّان الولايات الشرقية شعار “إسقاط الحكومة” وتعيين أخرى عسكرية، وهو ما كان يتناغم مع مخطط الجنرالات، دون أن يحرِّكوا ساكنًا إزاء هذا التصعيد في تلك المنطقة الاستراتيجية الحيوية، التي تشكّل عصب الاقتصاد الوطني ورئته الوحيدة على الموانئ البحرية.
ثم جاء مقترح العسكر بتوسيع الحاضنة السياسية عبر فتح المجال أمام القوى الأخرى للمشاركة في السلطة، ليُكشَف الوجه التآمري الحقيقي للجنرالات، هذا المقترح الذي يبدو ظاهره الرحمة لكنَّ باطنه التآمُر لتفتيت المكوّن المدني وبثّ روح الفتنة بين القوى، وهو ما كان بالفعل، حيث انقسم تحالف قوى الحرية والتغيير إلى قسمَين، جبهة ومجلس مركزي، هذا بخلاف السجال الدائر بين القوى الثورية والأخرى التقليدية والجماعات المسلحة التي وجدت نفسها بدعم العسكر على منصات الحكم والتشاركية في السلطة.
وعلى عكس ما تشتهي سفن العسكر، جاءت الرياح الثورية لتطيح بمخطط تمرير الانقلاب، إيذانًا بهبّة ثورية جديدة لا تبقي ولا تذر، ولن تبارح مكانها إلا بالعودة إلى الثكنات وتسليم السلطة للمدنيين.
الانقلاب العسكري.. سقوط الأقنعة
بعد فشل مساعي التفتيت، لم يجد العسكر أمامهم سوى اللعب على المكشوف، ومن هنا جاء انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، هذا الانقلاب الذي أطاح من خلاله عبد الفتاح البرهان بالحكومة والولاة وكافة مؤسسات الدولة التي تشكّلت بعد الثورة، لينفرد ورفاقه وحدهم بالسلطة دون منازع.
وقد سبق هذا الانقلاب محاولة أخرى تمّت صبيحة 21 سبتمبر/ أيلول الماضي، لكنها قوبلت بالفشل، ما دفعَ المؤسسة العسكرية لتغيير خطتها وتحويل الخطوة إلى أزمة سياسية بينها وبين المدنيين، وذلك بالحديث عن فشل الحكومة ومسؤوليتها عن تأجيج الوضع، بجانب اتّهام 4 أحزاب داخل تحالف الحرية والتغيير، هي الأمة القومي والتجمع الاتحادي والبعث والمؤتمر السوداني، باختطاف القرار السياسي والتنفيذي، وتمكين كوادرها في أجهزة الدولة.
توقع الجنرال أن خطوته تلك ستمرُّ مرور الكرام، لكنه فوجئ بهبّة شعبية غير متوقعة، أضفت زخمًا جديدًا على الثورة التي كادت أن تبرد في ثلاجات الوعود الزائفة والمسكّنات المضلِّلة، لتعود روح الثورة مجددًا إلى الشارع من خلال المواكب المليونية المستمرة، ما وضع العسكر في مأزق حقيقي، داخليًّا وخارجيًّا.
وأمام تلك الوضعية لم يجد البرهان ورفاقه بدًّا من العودة إلى التصريحات والشعارات الرنّانة لطمأنة الشارع المتفجِّر، رافقها تراجعًا نسبيًّا عن بعض قراراته الانقلابية وعلى رأسها إعادة حمدوك لرئاسة الحكومة مرة أخرى، وهي الخطوة التي كان يهدف من خلالها الجنرالات تهدئة الرأي العام، لكن المفاجأة كانت على عكس السيناريو المرسوم.
وعلى عكس ما تشتهي سفن العسكر، جاءت الرياح الثورية لتطيح بمخطط تمرير الانقلاب، فبعد عدة ساعات من بيان البرهان الانقلابي فوجئ الجميع بآلاف السودانيين يغلقون الطرق الرئيسية ويسيطرون على الجسور ويحيطون بالقصر الجمهوري، أمام مقرّ القيادة العامة للجيش، إيذانًا بهبّة ثورية جديدة لا تبقي ولا تذر، ولن تبارح مكانها إلا بالعودة إلى الثكنات وتسليم السلطة للمدنيين.
اتفاق حمدوك-البرهان واللاءات الثلاث
لم يتحمّل البرهان الضغوط الممارسة عليه دوليًّا وداخليًّا، فكان لا بدَّ من العودة خطوة للوراء، وعليه جاء الاتفاق الموقَّع مع حمدوك في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بالقصر الجمهوري بالخرطوم، لتجاوز الأزمة الراهنة، يتضمن 14 بندًا، أبرزها إلغاء قرار إعفاء حمدوك من رئاسة الحكومة وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، وإشراف مجلس السيادة على الفترة الانتقالية، والاستمرار في إجراءات التوافق الدستوري والقانوني والسياسي الذي يحكم الفترة الانتقالية، والالتزام الكامل بالوثيقة الدستورية إلى حين تعديلها بموافقة الجميع، ومحاسبة المتورِّطين في قتل المتظاهرين.
وبدلًا من أن يضفي هذا الاتفاق نوعًا من الطمأنة كما كان يأمل العسكر، إذ به يزيد الوضع تأزُّمًا، وسط هجوم شعبي كاسح على دوافع هذه الخطوة التي اتُّهم فيها حمدوك بالتواطؤ مع الجنرالات لتمرير انقلابهم، ليفقدَ الرجل المقرَّب من الغرب حاضنته السياسية، ورغم خروجه لتبرير هذه الخطوة في بيان له، لم يقنع الشارع الثائر ضده والمعتبر إياه مصطفًّا إلى فريق الانقلابيين.
وبينما كان البرهان يودُّ من خلال هذه الخطوة فتح قناة اتصال مع القوى الثورية بعدما اشتدَّ الضغط عليه، إذ به يقابَل بشعار ثلاثي أسقطَ كافة مخططاته: “لا شراكة – لا مساومة – لا شرعية”، وهو الشعار الذي استفزَّ القوات المسلحة التي بدورها أسقطت في مقابله عشرات القتلى ومئات المصابين منذ ليلة الانقلاب وحتى اليوم.
نجح الشارع في فرض سطوته بصورة لافتة، بعدما اتحدت كافة مكوّناته (نقابات وجمعيات وكيانات ومؤسسات عمالية واجتماعية) على كلمة واحدة، لا تراجُع قبل إسقاط الانقلاب، فكان الإضراب السياسي والعصيان المدني السلاح الأبرز حضورًا لدى الثوار، استطاعوا من خلاله تحقيق جزء كبير من الأهداف المنشودة التي لم تكتمل بعد.
الاحتجاجات وحدها لا تكفي
في الأول من الشهر الجاري قال رئيس الوزراء السوداني، عبد الله حمدوك، أنه لن يبقى في منصبه إن لم يتمَّ الالتزام بالاتفاق السياسي الموقّع بينه وبين المؤسسة العسكرية بقيادة البرهان، ملوِّحًا بالاستقالة حال التراجع أو التباطؤ في تنفيذ ما تمَّ الاتفاق عليه، حسبما نقلت وكالة “رويترز”، في خطوة تعكس حجم النزاع المكتوم بينه وبين الجنرالات.
العزلة السياسية التي يعاني منها حمدوك، والانتقادات التي تعرّض لها، دفعته للخروج بتصريحات حاولَ من خلالها الكشف عن الأسباب التي دفعته لإبرام هذا الاتفاق، وكان أبرزها حقن دماء السودانيين، وتجنيب بلاده العقوبات الدولية، بجانب الحفاظ قدر الإمكان على مكتسبات الثورة وعلى رأسها الالتزام بالمسار الديمقراطي وتسليم السلطة للمدنيين.
بات واضحًا أن الاحتجاجات الشعبية رغم قوتها وتأثيرها الواضح، إلا أنها وحدها لا تكفي لتغيير المشهد وإعادة بوصلته الثورية مرة أخرى، ولا بدَّ من وجود حاضنة سياسية ترعى هذا الحراك وترسم له طريقه بما يحقِّق أهدافه المنشودة.
عاود رئيس الوزراء التذكير بمبررات تلك الخطوة خلال بيان له بمناسبة مرور 3 سنوات على الثورة، مجدِّدًا التأكيد على أنه سعى عبر الاتفاق إلى وقف عمليات الاعتقال السياسي وإطلاق سراح المعتقلين وحماية حقّ الثوار والثائرات في التعبير السلمي، داعيًا إلى مواصلة الحوار بين مختلف المكوِّنات لتقويم مسار الثورة.
وجّه حمدوك رسالة للثوار حثّهم فيها على مواصلة إشعال جذوة الثورة واستعادة زخمها كلما ظنَّ البعض أنها خبت وحان أوان إخمادها، مؤكدًا: “ستظلُّ مواكبكم وأدوات التعبير السلمي هي السلاح الأوحد والمُجرَّب في إنجاز شعارات الثورة، وسيكون النصر حليفنا طالما التزمنا بالسلمية الكاملة”، وذلك بعدما ألمحَ إلى وجود تراجع كبير في مسيرة الثورة بما يهدِّد أمن البلاد واستقرارها، وينذر ببداية الانزلاق نحو هاوية لا تبقي وطنًا ولا ثورة، وفق ما جاء في بيانه المنشور على صفحته على فيسبوك.
بات واضحًا أن الاحتجاجات الشعبية رغم قوتها وتأثيرها الواضح، إلا أنها وحدها لا تكفي لتغيير المشهد وإعادة بوصلته الثورية مرة أخرى، ولا بدَّ من وجود حاضنة سياسية ترعى هذا الحراك وترسم له طريقه بما يحقِّق أهدافه المنشودة، ومن ثم جاء الحديث عن اتفاق سياسي أشبه بوثيقة جديدة تجمع كافة القوى وتكون حاضنة وداعمة لحكومة حمدوك المتوقع تشكيلها قريبًا، بما يضمن التحول نحو المسار الديمقراطي المنشود، ويفوّت على العسكر مخططهم الذي يعتمدُ على سياسة “فرِّق تسُد” بين المكوّن المدني.
3 سنوات ربما تكون فترة كافية للشارع السوداني لإعادة تقييم حراكه واستراتيجيته في الحفاظ على مكتسبات ثورته، ففي تلك السنوات انكشفت الكثير من الحقائق وسقطت عدة أقنعة طالما مارسَت الكذب والتضليل على الشعب السوداني لتنفيذ أجندات بعينها، ومن ثم إن الدروس المستفادة من الماضي، بأخطائه ونجاحاته، ربما تكون خارطة جديدة لما هو قادم، حال قراءتها بشكل جيد بما يجنِّب السقوط في فخاخ العسكر مرة أخرى.