يؤكد البنك الدولي منذ أعوام أن سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار لا يتناسب مع حجم الاقتصاد العراقي والمشكلات التي يعانيها، إذ طالب البنك الدولي حكومة رئيس الوزراء العراقي الأسبق، حيدر العبادي، بتخفيض قيمة العملة العراقية امام الدولار منذ عام 2014، إلا أن أزمة الحرب على تنظيم “داعش” أدّت إلى عدم استجابة الحكومة العراقية آنذاك.
ومع تظاهرات أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وما أعقب ذلك من استقالة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، واجهَ العراق أزمة اقتصادية كبيرة رافقها بدء تفشّي فيروس كورونا في العراق، وما تلا ذلك من انهيار كبير في أسعار النفط عالميًّا، ما وضع الحكومة العراقية الجديدة لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في أزمة مالية كبيرة، أدّت إلى تأخُّر رواتب الموظفين والمتقاعدين لأشهر عديدة، لتتخذ الحكومة خطوات نحو الإصلاح الاقتصادي تمثّلت بتبنّي ما أطلقت عليه وزارة المالية “الورقة البيضاء”.
الورقة البيضاء وتخفيض العملة
جاء مشروع الإصلاح الاقتصادي الذي أطلقت عليه الحكومة “الورقة البيضاء” ضرورةً لإصلاح النظام الهيكلي لاقتصاد البلاد بحسب وزير المالية والحكومة العراقية، حيث كان من بنودها تخفيض قيمة العملة العراقية أمام الدولار الأمريكي.
وبعد أسابيع على التلويح بتغيير سعر صرف العملة الوطنية، أقرَّ البنك المركزي العراقي في 19 ديسمبر/ كانون الأول 2020 تخفيض قيمة الدينار العراقي بـ 23%، ليكون سعر صرف الدولار الواحد 1460 دينارًا بعد أن كان 1200 دينار لكل دولار.
وفي الوقت الذي تسبّبت به الخطوة الحكومية في استياء كبير لدى العراقيين، عزا المركزي أسباب تخفيض قيمة العملة إلى ما وصفه بـ”التشوهات الهيكلية” في الاقتصاد العراقي، التي أفقرت المالية العامة للدولة، وقيّدت قدرة الإصلاح الذي تسعى إليه حكومة مصطفى الكاظمي.
إيجابيات
كثيرة هي الدراسات التي تناولت إيجابيات وسلبيات تخفيض العملة على القطاع العام والخاص، إلا أن المستشار الاقتصادي للحكومة العراقية، مظهر محمد صالح، وصفَ الفوائد المتحقِّقة من تخفيض قيمة العملة العراقية بـ”الكبيرة” التي لا يمكن التفريط بها، مؤكّدًا على أن ما يُتداول عن العودة لسعر الصرف القديم باتَ من الماضي، وأن تغيير سعر الصرف وتخفيض قيمة الدينار العراقي أعطى قوة لكثير من المفاصل الاقتصادية، لا سيما في مجال الصناعة.
ويتّسق تصريح مستشار الحكومة الاقتصادي مع تصريحات البنك المركزي العراقي الأخيرة، التي أكّدت أن رفع سعر الصرف أدّى إلى زيادة تنافسية المنتج المحلي، إضافة إلى أنه أسهم بتخفيض ضغط النفقات على وزارة المالية بنسبة 23%، ما مكّن وزارة المالية من تجاوز الأزمة الناتجة عن انخفاض أسعار النفط عالميًّا خلال عام 2020 والأشهر الأولى من عام 2021.
الرابح الأكبر
يرى العديد من خبراء الاقتصاد أن الحكومة العراقية كانت الرابح الأكبر من تغيير سعر صرف الدينار العراقي، ومن هؤلاء الخبير الاقتصادي همام الشمّاع، الذي أوضحَ أن تغيير سعر الصرف فيه إيجابيات كبيرة للحكومة وسلبيات أكبر على الشعب العراقي.
ولفتَ إلى أن الحكومة استفادت من تخفيض قيمة الدينار في تعزيز ميزانيتها المالية من خلال توفير ما قيمته 23% من رواتب الموظفين والمتقاعدين، والذين يتقاضون رواتب من الحكومة مثل المتعاقدين والأجراء اليوميين.
وفصّل الشمّاع في هذه الزاوية خلال حديثه لـ”نون بوست”، ليوضِّح أن رواتب الموظفين تُصرَف بالدينار، في حين أن واردات الدولة من النفط بالدولار، ما يعني أن الحكومة وبدل أن تشرع بتخفيض رواتب موظفي الدولة والمتقاعدين، واحتمال مواجهتها بردّ فعل شعبي قد يجدد تظاهرات أكتوبر/ تشرين الأول، ذهبت باتجاه تخفيض قيمة العملة بما أوصلها للهدف ذاته.
ويذهب في هذا المنحى في أن الحكومة العراقية هي الرابح الأكبر بما نسبته 90%، وأكّد عضو اللجنة المالية في البرلمان السابق والنائب الفائز بالانتخابات الأخيرة، جمال كوجر، أن الحكومة وفّرت ما بين 20-23 تريليون دينار نتيجة انخفاض القيمة الحقيقية لرواتب الموظفين والمتقاعدين، ما أثّر إيجابًا على الموازنة التشغيلية والاستثمارية في موازنة عام 2021، مبيّنًا أن الاستفادة الشعبية قد تظهر على المدى الطويل.
عملية تخفيض قيمة الدينار عزّزت من احتياطي البنك المركزي بالدولار، لكن السبب الحقيقي يعود لارتفاع أسعار النفط، لا سيما أن الحكومة العراقية نقضت كثيرًا من بنود الموازنة.
وفيما يتعلق بتعزيز حجم الاحتياطي النقدي بالدولار في البنك المزكري العراقي، يعلق كوجر في حديثه لـ”نون بوست” بالقول: “إن تغيير سعر الصرف للدينار العراقي أدّى إلى زيادة حجم الاحتياطي لدى البنك المركزي بما يقدَّر بـ 15 مليار دولار ليصل إلى قرابة 65 مليار دولار نهاية العام الحالي”.
وفي هذا الصدد، يرى الأكاديمي وأستاذ الاقتصاد محمد الحمداني، أن تعزيز حجم الاحتياط النقدي بالدولار لدى البنك المركزي كان يمكن أن يتمَّ من خلال إجراءات مكافحة الفساد وغسيل الأموال الذي يتم منذ 18 عامًا، من خلال عمليات تهريب الدولار واستفادة بعض الدول المجاورة من ذلك، في إشارة إلى إيران التي تعاني من عقوبات اقتصادية قاسية فرضتها الإدارة الأمريكية عليها بسبب الملف النووي لطهران.
ويضيف الحمداني في حديثه لـ”نون بوست” أن عملية تخفيض قيمة الدينار عززت من احتياطي البنك المركزي بالدولار، لكن السبب الحقيقي يعود لارتفاع أسعار النفط، لا سيما أن الحكومة العراقية نقضت كثيرًا من بنود الموازنة التي أقرّها مجلس النواب، والتي منعَ فيها الحكومة من أي تعيينات جديدة، إلا أن الواقع يشي بأن قرابة 600 ألف موظف جديد أضيفوا إلى الموظفين العراقيين.
سلبيات
كثيرة هي السلبيات التي أفرزتها خطوة الحكومة العراقية بتخفيض قيمة الدينار العراقي، ومنها بحسب الخبير الاقتصادي همام الشمّاع ارتفاع مجمل الأسعار في البلاد بعد أيام قليلة على الخطوة الحكومية، لافتًا إلى أن أسعار العقارات ارتفعت لما نسبته 50%، فضلًا عن ارتفاع أسعار جميع المواد الاستهلاكية والغذائية والكهربائية وبنسبة أكبر من نسبة تخفيض قيمة العملة، ما أدّى إلى ركود اقتصادي وارتفاع مستوى التضخُّم.
وعزا الشماع ذلك إلى تراجع الثقة الشعبية بالحكومة، والخوف من إقدام البنك المركزي على تغيير آخر لسعر صرف العملة، مشيرًا إلى أنه وبعد عام على تغيير سعر صرف الدينار ارتفعت نسبة البطالة ومستوى التضخم لأرقام كبيرة.
ويؤكد ما ذهب إليه الشمّاع تصريحات وزارة التخطيط العراقية التي جاءت على لسان المتحدث باسمها، عبد الزهرة الونداوي، الذي أشار إلى ارتفاع معدل التضخم السنوي بنسبة 6.8% في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي مقارنة بالشهر ذاته من العام الماضي 2020.
وعن السلبيات، وبالعودة إلى النائب جمال كوجر، فإنه حددها في 3 محاور، حيث يتمثّل أولها بتراجُع قيمة إيرادات الشعب العراقي في القطاعَين العام والخاص بما نسبته 23%، إضافة إلى فقدان العراقيين الثقة بالحكومة بما انعكسَ على ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية بنسبة أكبر بكثير من تغيير سعر الصرف.
ويفصّل كوجر في المحور الثالث ليضيف أن المطالبات البرلمانية خلال الأشهر الماضية بإعادة سعر الصرف إلى وضعه السابق، أدّت إلى سحب العملة الصعبة من السوق السوداء، وعدم استقرار أسعار السلع حتى الآن.
وتؤكد ذلك تصريحات الإطار التنسيقي الرافض لنتائج الانتخابات، والمتكوِّن من تحالف الفتح ودولة القانون وكتل سياسية أخرى، حيث كشف القيادي في الإطار التنسيقي، أحمد الموسوي، عن تعهُّد الكتل المنضوية في الإطار بإرجاع سعر صرف الدولار مقابل الدينار إلى سابق عهده، مضيفًا أنهم في الإطار سيكشفون للشعب العراقي خفايا ذلك، وأن الأسباب كانت لأهداف غير اقتصادية.
أهداف الحكومة
كثيرة هي الأهداف التي كشفتها الحكومة من خلال تخفيض قيمة الدينار العراقي، حيث يقول أستاذ الاقتصاد في الجامعة العراقية، عبد الرحمن المشهداني، إن الحكومة خططت لهدفين اثنين لدعم التنمية الاقتصادية من خلال تخفيضها لقيمة العملة الوطنية، حيث يتمثل الأول بدعم الصناعة والزراعة، والآخر المحافظة على احتياطي البنك المركزي.
وتابع في حديثه لـ”نون بوست” أن تغيير سعر الصرف وحده ليس كافيًا لتحقيق التنمية الاقتصادية، لا سيما أن العراق يفتقد للزراعة والصناعة الحديثة، فضلًا عن فتح الحدود على مصراعيها لبضائع دول الجوار، خاصة من إيران وتركيا اللتين تتمتّعان بقدرة تصديرية كبيرة نتيجة تراجع سعر صرف عملتهما، وفق المشهداني.
وفيما يتعلق بالصناعة، كشفَ المشهداني عن أن تغيير سعر الصرف كان خاطئًا في ظل المعطيات الاقتصادية التي تشير إلى أن 90% من احتياجات العراق الاستهلاكية مستوردة من دول الجوار والصين، وأنه كان على الحكومة إعفاء المواد الخام (غير المتوفرة محليًّا) الداخلة في الصناعة المحلية من الضرائب والجمارك.
أما فيما يتعلق باحتياطي البنك المركزي، فأوضح في ختام حديثه لـ”نون بوست” أن زيادة الاحتياطي بما يقدَّر بـ 15 مليار دولار خلال العام الحالي لم يكن نتيجة تخفيض قيمة الدينار العراقي، بل يُعزَى ذلك إلى انتعاش أسعار النفط عالميًّا، وأن أي انهيار لأسعار النفط في الأشهر القادمة سيؤدّي إلى تراجع الاحتياطي النقدي مرة أخرى، لا سيما أن حجم الاحتياطي النقدي الكبير للدولة لا يعني بالضرورة قوة اقتصادها في ظل غياب الصناعة والزراعة.
وعن إمكانية إرجاع سعر صرف الدينار إلى وضعه السابق، وفق ما تعهّد به الإطار التنسيقي، استبعد النائب جمال كوجر ذلك في عام 2022، ولأسباب عديدة أوضحها في 4 نقاط.
مضى عام كامل على تغيير سعر صرف الدينار العراقي وتخفيض قيمته، إلا أن تبعات ذلك لا تزال واضحة في الشارع العراقي الذي ازدادت معدلات البطالة والفقر بين صفوفه.
ويعدِّد كوجر تلك الأسباب في أن موارد الدولة العراقية لا تزال محدودة، في ظل تراجع أسعار النفط وخطورة عودة الإغلاق نتيجة جائحة كورونا، مبيّنًا أن تكلفة استخراج برميل النفط العراقي تتراوح بين 12-13 دولارًا لكل برميل، ما سيضع العراق في مأزق اقتصادي كبير في حال انهيار الأسعار.
أما عن السبب الثاني، فيرى أن الضعف الاقتصادي للدولة العراقية نتيجة عدم القيام بإصلاحات حقيقية، يعني أنه لم تنتفِ الحاجة إلى رفع سعر الصرف، فضلًا عن استمرار الفساد المستشري في الوزارات والمؤسسات الحكومية.
وعن السبب الثالث، يقول كوجر: “إن نفقات الحكومة العراقية لا تزال في ارتفاع كبير، لا سيما أن هناك أرقامًا فلكية أضيفت إلى الموازنة التشغيلية، خاصة مع زيادة أعداد الموظفين والمتعاقدين مع الدولة الذين زاد عددهم خلال عام 2021”.
ويختتم كوجر حديثه لـ”نون بوست” ليضيف أن السبب الرابع يتمثل في أنه في حال إعادة سعر الصرف الى وضعه السابق، فإن ذلك سيولّد مطالبات بتعويضات من قبل المستثمرين والمقاولين المتعاقدين مع الحكومة، لا سيما أن عقود الدولة تتمُّ بالدينار العراقي، وبهذا لن تخاطر الحكومة بتلك الخطوة لإدراكها مدى خطورتها ومدى المشكلات التي ستسبِّبها.
مضى عام كامل على تغيير سعر صرف الدينار العراقي وتخفيض قيمته، إلا أن تبعات ذلك لا تزال واضحة في الشارع العراقي الذي ازدادت معدلات البطالة والفقر بين صفوفه، وسط تصريحات سياسية تؤكد محاولاتها على إعادة سعر الصرف ونفي البنك المركزي لذلك، بما يضع الاقتصاد العراقي في وضع ضبابي لن تتضح معالمه حتى إقرار موازنة العام 2022، التي تنتظر مصادقة المحكمة الاتحادية على نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، ومن ثم انعقاد البرلمان وتشكيل الحكومة، ثم إقرار الموازنة التي يرجِّح مراقبون أنها قد تتأخر حتى النصف الثاني من العام القادم.