يحظى بيرغمان بمرتبة أسطورية عند محبّي السينما، مرتبة يقبع بها صفوة عباقرة الفن السابع، هؤلاء الأساتذة الكبار الذين أعادوا تعريف الفن من الناحية البصرية التقنية، وكانوا دون سواهم يملكون القدر الكافي من الجسارة ليستكشفوا المناطق الأكثر ظلمة، ويتلمّسوا الشك، متسائلين عن ماهية الوجود وحقيقة الحياة، لذلك ربما حيوات البعض منهم لم تكن مترَعة بالسعادة.
هذا يمكن إرجاعه إلى عدم تمتُّعهم بالقدر الكافي من العادية، وقلّة اشتباكهم مع الحياة الاجتماعية، بجانب تفاعلهم الغريب مع المكان والزمان، وهذه هي النقطة التي يدور حولها الفيلم، أي التفاعل مع المكاني والزماني بطريقة استثنائية تمنح البعض شعورًا مختلفًا بهما، يصل لدرجة مكوث بعض المخرجين في مكان منعزل حتى نهاية حياتهم، مفضّلين التعاطي مع المجتمع من خلال الأعمال الفنية دون غيرها.
وبيرغمان واحد من أولئك الاستثنائيين، التي كانت علاقتهم بالمكان غريبة، فقد قضى -وهو مخرج عالمي- 40 سنة من حياته، أي من عام 1966 حتى وفاته عام 2007، في جزيرة فورا (Fårö) السويدية المنعزلة على البحر، ويقول عن ذلك في مذكراته “المصباح السحري”:
“لا أعرف ماذا حدث. إذا أراد المرء أن يكون جديًّا، يمكن القول إنني وجدت الطبيعة الخاصة بي، وطني الحقيقي. إذا أراد المرء أن يكون هزليًّا، يمكن التحدث عن الحب من النظرة الأولى… ارتباطي بجزيرة فورا له جذور عديدة، أولها حدسي؛ فالجزيرة تتوافق مع أعمق تخيلاتك من حيث الشكل، النِّسَب، الألوان، الآفاق، الأصوات، الصمت، الأضواء وانعكاساتها، هنا الأمان. لا تسألني لماذا، التفسيرات هي تبريرات خرقاء يدركها المرء متأخِّرًا. في مهنتك تبحث عن الوضوح، التناسب، الجهد، المرونة، التنفُّس، تمنحك طبيعة الجزيرة وفرة من كل تلك الأشياء”.
خلّف بيرغمان وراءه إرثًا فنيًّا هائلًا، بيد أن الأمر تجاوز الإرث السينمائي، وتحول إلى إرث إنساني له خصوصية مكانية كبيرة، وأثر إبداعي هائل، يمكن القول إن بيرغمان أحيا جزيرة فورا مرتين، أول مرة عندما مكث فيها لأكثر من 40 عامًا وحوّلها إلى موقع تصوير للعديد من أفلامه المهمة، والمرة الثانية عندما مات وتركَ تراثًا يربط الجزيرة كمكان بالعالم الخارجي، ليصنع منها رمزًا إبداعيًّا ويطوّعها لتصبح ملجأ لكل المبدعين في العالم، أي أنها تحولت من مجرد جزيرة تتميز بطبيعة خلّابة على البحر، إلى مصدر إلهام للعديد من الفنانين حول العالم.
يوظف فيلم “جزيرة بيرغمان” هذه النقطة بشكل جيد، لأنه يؤسِّس قصته على المكان، يبني فوقه طبقات من الدراما ويشتبك من خلاله مع الشخصيات بشكل أعمق، بحيث يصبح المكان شيئًا مركزيًّا، تتمحور حوله الأحداث بشكل ضروري، لأن الحكاية تنطلق من وجود المكان ذاته، ولا تكتمل في مكان آخر غيره، لذا المكان يحمل خصوصية كبيرة بالنسبة إلى العمل السينمائي.
تدور القصة في متنها حول العملية الإبداعية، وهو شيء شديد التعقيد، حين تتجه كريس (الممثلة فيكي كريبس) وتوني (الممثل تيم روث) إلى جزيرة فورا/ بيرغمان، بغرض تصفية الذهن والتركيز على إنهاء مشاريعهما الإبداعية القادمة، يستكشف الرفيقان منزل بيرغمان، وينفصل كل منهما في مكان مختلف، أشبه بعزلة إبداعية، تسمح لهما بالانفراد والتركيز على إعمال الخيال وتصفية الذهن من انشغالات ثانوية.
منذ البداية ومع مرور الوقت، تبدو بعض التلميحات كأشياء مثيرة للريبة، فالمرأة المسؤولة عن إرشادهما داخل المنزل تشير إلى غرفة النوم وتردِّد بخفّة ساخرة أن فيلم Scenes from a Marriage صُوِّر هنا، وتضيف أن هذا العمل كان مسؤولًا عن زيادة معدل الطلاق.
بعدها يتناولون الشراب في مطعم، يلمّح أحد الحضور إلى أن بيرغمان لم يكن شخصًا عائليًّا، رغم إنجابه لـ 9 أبناء من 5 نساء، لأنه كان ينخرط في حياته الفنية بشكل يعزله عن عالمه الاجتماعي بشكل قاسٍ، أو كما قال أحد الرجال في المشهد ذاته: “كان بيرغمان قاسيًا في حياته مثلما كان قاسيًا في فنه”؛ هذه الأقاويل كان تعبث برأس كريس من ناحية تقدريها لبيرغمان الفنان، ولكنها على العكس لم تؤثر على توني الذي أعرب عن حبّه للمخرج الأسطوري دون شروط.
وضعت المخرجة ميا هانسن لاف ذلك النوع من التلميحات لتضيف عنصرًا كاشفًا للمبدع ذاته، وتظهره كشخص ناقص، مشيرة إلى الوجه المروع للعملية الإبداعية، وهذه السمات تمتدُّ لأبطال الحكاية أنفسهم، لأنهم يشتغلون في مهن إبداعية وينغمرون فيها، ويتعرضون لضغوط الآلية الإبداعية.
بجانب ذلك، ترصد الكاميرا الشخصيات -حتى نصف الفيلم تقريبًا- وهي محاصرة بضرورة معرفة بيرغمان، مطوّقة بشبحه، ليس على المستوى المكاني فقط، إنما على المستوى الكوني، لأن تأثيره يمتد ليطول أغلب التخيلات، كأن الأبطال مطاردون بشبح بيرغمان، ولكن الفارق أنهم هنا بإرادتهم، لا يتروعون عن رؤية ما تبقّى من بيرغمان.
طوعت المخرجة ميا هانسن لاف المونتاج لتصنع عالمًا داخل الآخر، فالقصة من الخارج تبدو أكثر هدوءًا وأقل تعقيدًا، يمكن تقسيمها لقسمَين، القسم الأول أكثر اتّساعًا فيتعلق بفضاء المكان المترامي، ويتبدّى المكان في بعض الأحيان كاستعارة للعملية الإبداعية نفسها وحبسة الكتابة، فكلما تستكشف شخصية كريس جزءًا من المكان تستكشف معه ركنًا من العملية الإبداعية، والحقيقة أن الفيلم كله يتعلق بشخصية كريس ومدى تأثرها بقصتها وبالمكان.
تظهر علاقة كريس وتوم كعلاقة هشّة، تحيطها هالة من الحميمية لتبدو من الخارج كعلاقة هادئة ورصينة، ولكن من الداخل هي علاقة صديقَين يمارسان المهنة نفسها، يحاولان مساندة بعضيهما من أجل الخروج بأفضل نتيجة ممكنة، فيستمرّان في إقصاء علاقتهما الحميمية في سبيل نجاح العلاقة الإبداعية.
حتى أنهما لا يتلازمان في رحلة استكشافهما للجزيرة، ويختار كل منهما طريقته الخاصة لمعرفة المكان، فينساق توم في رحلة تعريفية لمعالم الجزيرة، وتتجول كريس مع شخص يعمل على متن الجزيرة ويعرف خباياها، ربما الخوف من مصير بيرغمان العائلي هو ما يدفعهم لترك مساحة كافية للذات، وعدم الذوبان في العلاقة، حيث من الصعب أن يحارب الفنان على جبهتَين، جبهة الفن وجبهة العائلة.
تعاني كريس من حبسة الكتابة، لا تستطيع ترجمة أفكارها وتخيلاتها إلى صيغة أدبية، وتحكي لتوم الذي يبدو عليه عدم الاهتمام بسماع قصتها ولكنه مضطر للقيام بذلك على أي حال، وحين تبدأ كريس الحكي، يتحول فعل الحكي الممارَس بالكلمات إلى لغة بصرية.
من دون تمهيد، تصنع المخرجة فيلمًا داخل فيلمها الأكبر، بحيث تصبح قصتها الأساسية التي تتسم بالعمومية وعاءً لقصة أكثر خصوصية وأشد تكثيفًا، لتنطلق حكاية أخرى، ليست غريبة عن الحكاية الرئيسية، بل تتقاطع مع رافد من روافدها، لأنها تجري بالمكان ذاته، بجانب كونها منسوجة في لا وعي كريس، أي أنها أشبه بمدخل ذكي لاستعراض مشاعرها، ومعرفتها عن قرب، فتخيلات الكاتب وأفكاره في كتاباته هي إسقاط على ذاته.
في سيناريو القصة الثانية، تسافر إمي (الممثلة ميا فاشيكوفسك) إلى جزيرة فورا لتحضر حفل زفاف أحد أصدقائها المقرّبين، لتجتمع مع حبيبها القديم جوزيف (الممثل آندرس دانييلسن لاي) على متن الجزيرة بعد سنوات من انفصالهما، ولكن من الواضح أن إمي تعاني من اضطراب عاطفي، وما زالت لا تستطيع تجاوز انفصالها عن جوزيف، خصوصًا أنهما تربّيا في المكان نفسه، ووثاقهما أكبر من وثاق عاطفي لحبيبَين، بل رباط مقدس تأسّس في مستهلّه على صداقة، ثم ارتقى بعدها ليخلق جذوة محبّة لا تنطفئ مهما طال الزمن.
وعلى الرغم من انتماء كليهما الآن إلى علاقات عاطفية شبه مستقرة، من المفترض أن تفرض قيودًا على فرصة انفتاح جرح قديم، ولكننا عكس ذلك نصطدم بعدة انفراجات شعورية تمنح العلاقة المنتهية بريقًا وهيجانًا، يُترجَمان من خلال انجذاب جنسي وحنين عاطفي.
وقوع الحبيبان السابقان في فخّ العلاقة كان له وقع مدوٍّ كسقطة أخلاقية، ليس فقط على المستوى الجسدي، ولكن على مستوى قداسة العلاقة العاطفية ذاتها، فهما يدينان بالإخلاص لشريكَيهم حتى لو كانا في نهاية العالم، ظهرَ هذا واضحًا في شخصية جوزيف، في شعوره العميق بالندم، ومحاولته عدم الانخراط أكثر في علاقة منتهية، بل لا ينظر إليها كعلاقة في الأساس.
بالنسبة إلى جوزيف، كان الأمر مجرد تحايل على ذكرى قديمة، انبعاث شهوة، نزوة مباغتة على جزيرة نائية، ستظل حبيسة رمال الشاطئ، وإذا خرجت ستغرقها المياه ويأكلها الملح، سيتجاوزها مع مرور الزمن، بيد أن إمي كانت ترى الأمور بشكل مختلف، فالإشكالية هنا لا ترتبط بكون الشخص يحتاج إلى طرف آخر يحبّه، فهذا الطرف موجود بالفعل بالنسبة إلى كليهما.
إلا أن المفارقة تتعلق بهوس إمي الواضح بجوزيف، والشعور بجاذبية الحنين التي تدفعها دائمًا للتقرب إليه، كأنها تحاول التكفير عن خطيئة، تطلب الغفران عن طريق الحب، عن طريق خطيئة أخرى، فالموضوع بالنسبة إليها ليس أخلاقيًّا بقدر ما هو عاطفي، فقلبُ إمي الذي يقصي زوجها أو حبيبها الموجود في البلاد، ويفسح مجال لعلاقة قديمة أن تتسلق الجدار، رغم إفصاحها أنها ما زالت تحب زوجها أو حبيبها الحالي.
وهنا تحاول أن تطرح إشكالية القلب الذي يتّسع لاثنين، ولكن يسمح بوجود واحد وغياب الآخر، تحاول إمي الوصول إلى نقطة معيّنة من النشوة تنسيها كل شيء، تحاول خداع نفسها، وتثبيت لحظة معيّنة، تعطيها نوعًا من القداسة عن طريق ارتداء ثوب أبيض يشبه فستان الزفاف، بتلك الطريق تحاول إمالة جوزيف، وإمالة اللحظة ذاتها إلى جانبها، بحيث تصدّق بكل جوارحها أن هذا هو الوضع الحالي، وسيستمرّ كذلك.
هذه الأخيلة الرقيقة والثقيلة في الآن ذاته، يتمُّ التعبير عنها بسيناريو غير نمطي، مثل أغلب أفلام المخرجة ميا هانسن لاف السابقة، لا تستعمل حبكة كلاسيكية، وفي هذا الفيلم تدمجُ بين قصتَين بشكل نموذجي، لدرجة أنهما يذوبان داخل بعضيهما، كل واحدة منهما تتشكّل في وعي المشاهد بالأخرى، والقصتان بشكل عام منفصلتان عن الزمن بشكله المعهود، لا تخضعان إلا لليومي.
وتحاول المخرجة من خلال تصوير سينمائي هادئ وإيقاع بطيء تكثيف الكثير من لحظات الفرح والرقص والبكاء، ثم ترتدّ لعالمها بمرونة، لترصد سيران الأمور كيفما شاءت الأقدار، كاشفةً معضلة الحب والاكتفاء، بجانب عرضها لمفاهيم سلوكية مشوَّهة على عكس الأنماط التي يتمُّ تصدريها خلال الأفلام الرومانسية أو الدراما المعهودة، وربما تبدو النهاية غريبة، وغير مطمئنة، ومفتوحة، وفي بعض الأحيان غير مفهومة لتداخل الخطوط السردية داخل بعضها، فتبدو في نهاية الأمر كتجربة مُلغَزة، وهذا يناسب نمط الكتابة ونوع القصة التي تحاول فهم تجربة عاطفية وسلوكية مشوَّهة.
تختزل القصة الأولى نفسها في القصة الثانية، فما يحدث في القصة الموازية ينعكس على الحقيقة، عندما غادر جوزيف غادر توني، حتى أن كريس وإمي ترتديان الملابس نفسها في بعض اللقطات، وتقومان بالأفعال نفسها، بالإضافة إلى المكان الذي يجمع كلتيهما.
الجدير بالذكر أن المهن الإبداعية مهن مرهقة، وفي بعض الأحيان تكون صناعة الأفلام شيئًا شديد الخصوصية، والتعبير عن الأفكار يكون أكثر ثراءً وانفتاحًا إذا تمَّ توظيفه -من قبل الفنان- في قالب مستقل، يمنح الشعور إرادة استقلالية ورؤيتها تتحرك على الشاشة وربما تنتهي نهاية مختلفة، كما كانت تقول كريس في الفيلم أنها تعاني من حبسة إبداعية، وعقلها توقف عند مشهد معيّن، ربما منحتها السينما القدرة على رؤية النهاية الأشد خطورة والأعمق جرحًا، ربما هذه القصة الثانية والفيلم الموازي هما مجرد تنفيسة، تفريجة عن النفس قبل أن يواصل المرء الرضوخ تحت وطأة الأقدار مرة أخرى، ولكن الشيء الوحيد الحقيقي أنه ليست ثمة نهاية سعيدة.