حقق مرشح اليسار التقدمي، غابريال بوريك، فوزًا ثمينًا في الانتخابات الرئاسية التي جرت في تشيلي، الأحد 13 ديسمبر/ كانون الأول 2021، بعدما حصل على 56% من الأصوات مقابل 44% لمنافسه اليميني المتطرف، خوسيه أنطونيو كاست، وذلك وفق نتائج شبه رسمية، بعد فرز أكثر من 99% من مراكز الاقتراع.
ويعدّ هذا الفوز هو الأول للحزب الشيوعي منذ إعلان النظام الديمقراطي في البلاد عام 1990، فيما يعتبره البعض نقطة تحول كبيرة في مسيرة الدولة التي تعاني من فقدان العدالة وغياب المساواة، ولعلّ هذا كان العامل الدعائي الأبرز الذي استغلّه بوريك لتحقيق هذا الفوز الكبير على خصمه صاحب الخبرة والجماهيرية الكبيرة كاست.
قوبلت النتائج بترحيب كبير من قِبل الشارع التشيلي الذي وصفها بـ”الانتصار التاريخي”، فيما اعتبرها زعماء أمريكا اللاتينية هزيمة قاسية للفاشية، وخطوة مهمة نحو إنهاء الديكتاتورية في هذا البلد الذي رزخَ تحت عباءة الأنظمة السلطوية لسنوات طويلة، وفي الوقت ذاته اعتبرتها أوروبا بداية لفتح صفحة جديدة من العلاقات البنّاءة بعد أعوام من توتير الأجواء بسبب الحكومات المتعاقبة على الحكم في البلد اللاتيني.
بوريك.. أصغر رئيس للبلاد
لم يكن يتوقع أحد أن ذلك الشاب صغير السن، المولود في فبراير/ شباط 1986، والذي لم يتجاوز عمره 25 عامًا حين قاد الحركة النقابية الطلابية عام 2011، سيصبح يومًا ما رئيسًا لبلد ليس فيه متنفّس للديمقراطية التي تسمح لغير أبناء السلطوية من الوصول للحكم، ليصبح بعد ذلك أصغر رئيس للبلاد في مفاجأة من العيار الثقيل.
آمن بوريك، خريج كلية الحقوق، بفكرة العدالة الاجتماعية والحقوق الإنسانية ومجانية التعليم وتحقيق المساواة، وهو ما زادَ من شعبيته حتى صار نائبًا برلمانيًّا عام 2014، لم يتجاوز عمره وقتها 28 عامًا، لتبدأ مرحلة جديدة من حياته، متخلّيًا عن زيّ الطالب الثائر ليرتدي عباءة السياسي الرزين، الواثق من ذاته والمؤمن بتحقيق أهدافه يومًا ما.
وصف التشيليون هذا الانتصار الساحق بأنه “هزيمة نكراء للفاشية” التي أرساها بيونشيه طيلة 17 عامًا من الحكم.
ومن موقعه البرلماني، دعم بوريك الحركات الاحتجاجية خلال عامَي 2019 و2020، كما كان أحد أبرز المؤيّدين لفكرة وضع دستور جديد، يتمُّ التخلص من خلاله من إرث الديكتاتور أوغستو بينوشيه (1915-2006) الذي حكمَ البلاد بين عامَي 1973 و1990 بعد الانقلاب على سالفادور أليندي، لتزداد جماهيريته ويصبح واحدًا من أبرز أبناء التيار اليساري في البلاد.
رفع الرئيس الجديد لتشيلي شعارات العدالة والمساواة، مستحضرًا في حملته الانتخابية رمزية الرئيس السابق، سلفادور أليندي، وهو ما كان له وقعه انتخابيًّا، مستفيدًا في الوقت ذاته من تطلُّع الملايين من الشباب إلى العدالة الاجتماعية وإصلاح النظام الخاص للمعاشات وحضور قوي للدولة في قطاعَي الصحة والتعليم.
اعتمدَ برنامجه الانتخابي على حماية الفقراء ودعم المحتاجين، وتوفير الحياة الكريمة للجميع، والحيلولة قدر الإمكان دون تغلغُل السلطوية، وفي الوقت ذاته ألمح إلى نيته في التراجع عن موجة الخصخصة التي تمّت في عهد نظام أوغستو بينوشيه، والتي ثارت ضدها الحركة الاجتماعية الاحتجاجية في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وهي الحركة التي كان بوريك أبرز داعميها.
هزيمة للفاشية
مع الإعلان عن النتائج غير الرسمية للانتخابات التي كشفت عن خسارة اليميني المتطرف وفوز المرشح اليساري، عمّت الشوارع أجواء من البهجة والفرحة، فيما وصف التشيليون هذا الانتصار الساحق بأنه “هزيمة نكراء للفاشية” التي أرساها بيونشيه طيلة 17 عامًا من الحكم، تجرّع فيها الشعب ويلات التنكيل والظلم.
وكان عصر بينوشيه شبحًا يقلق مضاجع أبناء تشيلي طيلة السنوات الماضية، هذا العصر الذي بدأه الديكتاتور العسكري بقتل الرئيس المفضّل للشعب خلال انقلاب سبتمبر/ أيلول 1973، في أعقاب قصف القوة الجوية التشيلية القصر الرئاسي 11 سبتمبر/ أيلول من العام ذاته، وكانت البداية الأسوأ للحاكم الجديد.
كان الديكتاتور المقرَّب من الولايات المتحدة العدو الأول لمفكّري ومثقّفي وأداء أمريكا اللاتينية، حيث شهد عهده عشرات الجرائم التي استهدفت الأحرار في البلاد، أمثال الجنرال عمر توريخوس رجل بنما القوي، والذي كان عائقًا في وجه الهيمنة الأمريكية الشاملة على القناة، هذا بخلاف الزجّ بآلاف الشباب في السجون والمعتقلات.
واقتصاديًّا تبنّى بينوشيه الرأسمالية كمنهج وعقيدة، وأعلنها صراحة أنه يطمح في جعل بلاده أمة من رجال الأعمال وليس العمّال، ولأجل تنفيذ تلك الاستراتيجية طوّق شعبه بحزمة إجراءات اقتصادية طاحنة، منها إلغاء الحد الأدنى من الأجور، وانتهاك حقوق اتحاد العمّال، وخصخصة نظام الراتب التقاعدي والصناعات الرسمية والبنوك، بالإضافة إلى تخفيض الضرائب على الثروات والأرباح.
وخلال 17 عامًا أمضاها بينوشيه في الحكم، صفّى المثقفين اليساريين وشرّد المعارضة، وأقصى الاشتراكيين والمتعاطفين مع الشيوعية من الحكم بصورة نهائية، كما أخفى قسريًّا الكثير من معارضيه، ففي عهده تمَّ توثيق 2095 حالة قتل و1102 حالة اختفاء، وأكثر من 28 ألف حالة تعذيب داخل السجون، وفق ما توصلت “لجنة تحقيق ريتيج” التي تشكّلت لهذا الغرض.
صفحة جديدة في العلاقات الدولية
اعتبرت أوروبا ودول أمريكا اللاتينية هذا الانتصار صفحة جديدة في العلاقات التشيلية الخارجية، والتي عانت خلال السنوات الماضية من توتير للأجواء مع الكثير من الدول جرّاء السياسة الخارجية الخاضعة لواشنطن شكلًا ومضمونًا، حيث رحّب الاتحاد الأوروبي بانتخاب بوريك رئيسًا، فيما أعرب مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد، جوزيب بوريل، عن أمله أن تسفر تلك النتائج عن تعزيز للعلاقات بين الطرفَين.
بدوره أشاد الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، بما أسماه “شعب (الرئيس الاشتراكي السابق) سلفادور أليندي و(المغني والناشط الاشتراكي الذي اغتيل على يد ديكتاتورية أوغستو بينوشيه) فيكتور غارا، لانتصاره المدوي على الفاشية”، وفي بيان لهما رحّبا رئيس نيكاراغوا، دانيال أورتيغا، وزوجته نائبة الرئيس، روساريو موريو، “بانتصار (بوريك) التاريخي الذي حققه مع الشعب التشيلي الشجاع” الذي استلهمَ من “الإرث الدائم لرئيس الكرامة سلفادور أليندي الذي أطاحه الجنرال بينوشيه في 11 سبتمبر/ أيلول 1973 وانتحر في اليوم نفسه”.
صعّد فوز بوريك من منسوب الأمل لدى الشعب التشيلي في مستقبل يضع العدالة الاجتماعية على رأس قائمة الأولويات في بلد يملك فيه 1% من الأثرياء 26.5% من الثروة الوطنية السنوية.
أما الرئيس الأرجنتيني ألبرتو فرنانديز هاتفَ الرئيس التشيلي الجديد وهنّأه على هذا الفوز الكبير، داعيًا إياه لزيارة بلاده قريبًا، كما طالبه بالعمل من أجل إنهاء عدم المساواة في أمريكا اللاتينية، بينما علّقَ رئيس البيرو اليساري، بيدرو كاستيلو، قائلًا في تغريدة له على تويتر إن “الانتصار الذي حققته يمثل انتصار الشعب التشيلي وتشاركه فيه شعوب أميركا اللاتينية التي تريد العيش في حرية وسلام وعدالة وكرامة!”.
وفي السياق ذاته بعثَ كل من الرئيس البرازيلي الأسبق، لويز إيناسيو لولا دا سيلفا، ورئيس أوروغواي، لويس لاكال بو، ونظيره الإكوادوري، غييرمو لاسو، إضافة إلى وزير الخارجية المكسيكي، مارسيلو إبرارد، رسائل تهنئة لبوريك، داعين إياه لبدء صفحة جديدة في العلاقات الخارجية لتشيلي.
وصعّد فوز بوريك من منسوب الأمل لدى الشعب التشيلي في مستقبل يضع العدالة الاجتماعية على رأس قائمة الأولويات، في بلد يملك فيه 1% من الأثرياء 26.5% من الثروة الوطنية السنوية، إضافة إلى إعادة النظر في الدستور المعمول به والذي يعدّ امتدادًا لحقبة الديكتاتورية البيونشية.