أيام قليلة وينسدل الستار على عام 2021، وهو العام الذي كان شاهدًا على أحداث جوهرية، ستعيد رسم المشهد المغربي، الذي دخل مرحلة جديدة بعد الانتخابات التي أنهت حكم الإسلاميين في آخر قلاعهم بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وجاءت بحكومة يقودها الليبراليون، استفزَّت الناس بمجموعة من القرارات، وأخرجتهم إلى الشارع غاضبين في أكثر من مرة، وخاصةً مع استمرار مسلسل التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي ليشمل كل شيء، بما في ذلك التعاون الأمني والعسكري.
لبيد وغانتس في الرباط
كان المغرب رابع دولة عربية توقّع اتفاقية سلام وتقيم علاقات دبلوماسية مع الاحتلال الإسرائيلي نهاية العام الماضي، عقب ذلك بأشهر حلَّ بالرباط وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لبيد، وهي الزيارة التي شهدت افتتاحًا رسميًّا للتمثيل الدبلوماسي، وتوقيع اتفاقيات ذات طابع اقتصادي وعلمي، في شهر أغسطس/ آب الماضي.
بعد حوالي 3 أشهر، ستعزِّز الرباط تعاونها الأمني والعسكري مع تل أبيب، خلال زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس للمغرب، حيث وقّع مع نظيره المغربي، عبد اللطيف لوديي، اتفاقًا هو الأول من نوعه بين “إسرائيل” ودولة عربية، إذ يتيح للمغرب اقتناء معدّات إسرائيلية عالية التكنولوجيا بسهولة، كما يمكِّن من نقل التكنولوجيا والتعليم فضلًا عن التعاون في مجال الصناعة الدفاعية.
شهدت شوارع الرباط وقفات احتجاجية تندِّد بمسار التطبيع، وكانت السلطات المغربية تفضّ هذه الاحتجاجات التي بعثت رسالة إلى الكيان الإسرائيلي، مضمونها أن التطبيع ليس قرارًا شعبيًّا، فيما تقول الجهات الرسمية أن “اتفاق السلام مع “إسرائيل” لا يحيد بالمغرب عن الدفاع عن الحق الفلسطيني”، علمًا أن العاهل المغربي الملك محمد السادس يتولّى رئاسة لجنة القدس المنبثقة عن المؤتمر الإسلامي.
في صميم “بيغاسوس” الإسرائيلي
وُجد المغرب في صميم قضية تجسُّس باستخدام برنامج “بيغاسوس” الإسرائيلي، وفقًا لتقارير نشرتها 17 وسيلة إعلامية منضوية تحت ائتلاف “قصص ممنوعة”، قالت إن جهاز الاستخبارات المغربي قام باختراق عدد من الشخصيات العامة، وطنية وأجنبية، ومسؤولين في منظمات دولية.
وردَ في تقرير “مشروع بيغاسوس” أن ائتلاف “قصص ممنوعة” اكتشف رقم هاتف العاهل المغربي الملك محمد السادس، وأرقام أفراد من العائلة الملكية والمتعاونين المقرَّبين من محيط الملك، من بينهم مدير المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، في لائحة الأرقام المغربية المستهدَفة ضمن برامج التجسُّس التابعة لشركة NSO الإسرائيلية، كما جرى استهداف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وأعضاء من حكومته بعملية تجسُّس “محتملة” لصالح المغرب.
نفت الحكومة المغربية صحّة هذه الادّعاءات، وباشرت برفع دعاوى قضائية أمام المحكمة الجنائية في باريس ضدّ منظمة العفو الدولية و”قصص ممنوعة” بتهمة التشهير، بالإضافة إلى وسائل إعلامية فرنسية بما فيها صحيفة “لو موند” وموقع “ميديا بارت” وإذاعة “راديو فرنسا”.
كما باشرت الرباط إجراءات قانونية أمام المحاكم الإسبانية على خلفية النشر والبثّ المتكرر على التراب الإسباني لـ”افتراءات كاذبة، مغرضة ومضللة ضد المملكة”، وفًقا للحكومة المغربية، مقاضية كذلك شركة نشر صحيفة “زود دويتشه تسايتونغ” الألمانية.
هزيمة مؤلمة للعدالة والتنمية
بينما كان يراهن العدالة والتنمية على الظفر بولاية تشريعية ثالثة، كتبت صناديق الاقتراع في 8 سبتمبر/ أيلول الماضي نهاية هذا الحزب الإسلامي، الذي قاد الحكومة عقدًا كاملًا ولم يلتزم بوعود تحقيق الازدهار في البلاد، ليختار المغاربة معاقبته بالتصويت لصالح غريمه التجمع الوطني للأحرار.
لقد فَقَدَ العدالة والتنمية حوالي 90% من مقاعده في البرلمان، وهو الذي حصل على 125 من 392 مقعدًا بمجلس النواب في انتخابات 2016، كما فاز بـ 107 مقاعد في انتخابات 2011، لكنه تدحرج إلى المركز الثامن بعدما لم تمنحه صناديق الاقتراع الأخير سوى 13 من المقاعد، التي لا تمكّنه من ممارسة معارضة قوية بالبرلمان، خاصة أن خطابه أصبح فاقدًا للمصداقية.
كان متوقعًا ألّا يتقبّل الإخوان هذه النتيجة القاسية، فأخذوا يشكّكون في نزاهة العملية الانتخابية، زاعمين أن المال تدخّل بشكل مفرط هذه المرة أكثر من ذي قبل، وأن السلطات المحلية في عدة مناطق كانت تحابي مرشحين منافسين، وقبل الانتخابات أقام الحزب الدنيا ولم يقعدها عندما عارض وحيدًا وبشدة تعديل القانون الانتخابي، فيما يتعلق بإلغاء العتبة واعتماد قاسم انتخابي جديد، يأخذ بعين الاعتبار عدد الناخبين المسجّلين في اللوائح الانتخابية، بدلًا من عدد الأصوات المعبَّر عنها بالفعل.
السقوط المدوي هزَّ البيت الداخلي للعدالة والتنمية، حيث استقالت الأمانة العامة للحزب برئاسة سعد الدين العثماني مباشرة بعد ظهور نتائج الانتخابات، وفي غضون أقل من شهرَين انتُخِبَ عبد الإله بنكيران أمينًا عامًّا بعد 5 أعوام من إعفائه من رئاسة الحكومة لمرة ثانية، إثر أزمة سياسية استمرت أشهرًا بعد انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2016.
ظهر بنكيران بمثابة الرجل المنقذ، الذي يملك مفاتيح خلاص الحزب من المشاكل والصراعات التي طفت على السطح ورافقته طيلة الولاية الحكومية الثانية، ليس هذا فقط، بل إن هذا التنظيم السياسي أثبت فشله في تجديد قيادته، ناسفًا تلك الادّعاءات بتوفُّره على أطر وكفاءات سياسية، بعدما استمرّ العثماني وبنكيران في تبادل الأدوار في رئاسة الحزب زهاء ربع قرن.
القضاء يؤيّد تسليم ناشط إيغوري للصين
وافقت محكمة النقض (أعلى محكمة بالبلاد) على تسليم ناشط من أقلية الإيغور المسلمة إلى السلطات الصينية، بينما اعتبرت هيئات حقوقية وطنية ودولية تسليم الناشط يديريزي إيشان (إدريس حسن) ينتهك القانون الدولي، لأن الرجل (34 عامًا) يواجه خطر التعذيب هناك، حيت تقاسي الأقليات العرقية، غالبيتها مسلمة، من حملة إبادة مرعبة، وتواجه الاضطهاد والتعذيب والاعتقالات الجماعية لغسل الأدمغة ومحو ثقافتهم.
وردَ في منطوق الحكم: “تبدي محكمة النقض رأيها بالموافقة على تسليم المواطن الصيني Aishan Yidiresi”، وهو لا يعني قرارًا بالتسليم في حدّ ذاته، لأن وظيفة محكمة النقض استشارية، بحيث أبدت موافقة على تسليمه إلى السلطات الصينية، التي تشنُّ حملة واسعة لمطاردة المنشقين خارج الحدود.
رئيس الحكومة عزيز أخنوش هو من يملك الآن قرار تسليم إدريس حسن من عدمه، علمًا أن المغرب وقّع مع الصين معاهدة “تسليم المجرمين” عام 2017، وقد تمَّ اعتقال الناشط الإيغوري يوم 19 يوليو/ تموز الماضي، مباشرة بعد وصوله إلى مطار محمد الخامس في الدار البيضاء، قادمًا من العاصمة التركية إسطنبول، بناء على مذكرة بحث دولية قدّمتها ضده سلطات بلاده لأسباب تتعلّق بـ”الإرهاب”.
حكومة أخنوش تُغضب الشارع
لم تمضِ سوى أسابيع على تنصيبها، حتى اتخذت الحكومة الجديدة بقيادة عزيز أخنوش قرارات أثارت غضب الشارع، أبرزها الاعتماد الإجباري لجواز التلقيح الذي من دونه لن يكون لأي مواطن الحق في الاستفادة من الخدمات العمومية والتنقل واجتياز مباريات التوظيف والامتحانات الجامعية وغير ذلك. علمًا أنه لم يصدر أي قانون ينصُّ على أن التلقيح إجباري، وكان منذ البدء اختياريًّا.
في شتّى ربوع البلاد خرج الشباب للاحتجاج على الشروط الجديدة التي اعتمدتها وزارة التربية الوطنية في توظيف المدرسين، كتسقيف السن الذي لا ينبغي أن يتجاوز 30 عامًا، وأيضًا اعتماد الميزة في الشهادة الجامعية كمعيار للانتقاء الأولي، مع إعطاء الأولوية لحاملي شواهد علوم التربية، ما أدّى إلى حرمان الكثير من خريجي الجامعات من اجتياز امتحان التوظيف.
قرارات مثل هذه برّرتها الوزارة المعنية بأنها تندرج ضمن إصلاح شامل لمنظومة التعليم، حيث يعتقد وزير التربية الوطنية، شكيب بنموسى، أن مهنة التدريس لا بدَّ أن تستعيد جاذبيتها، بحيث تصبح مهنة يدخلها الناس عن قناعة، ويتمّ اختيار أفضل الطلبة الذين يرغبون في امتهان التدريس، لكن التبريرات في مجملها اعتبرها المعارضون واهية، واستمرت الاحتجاجات إلى أن تمَّ تنظيم المباراة في وقتها المحدَّد وفق جميع الشروط المحددة مسبقًا.
ألسنة اللهب من الجنوب إلى الشمال
لم تنجُ الغابات في المغرب من الحرائق العنيفة، التي التهمت مساحات خضراء شاسعة في مناطق متوسطية، وككُلّ صيف سجّل البلد حصيلة ثقيلة، بدءًا من واحات الجنوب التي شهدت حرائق ضخمة قضت عليها بالكامل، ما أدّى إلى إتلاف آلاف النخيل وأشجار أخرى، لتنضاف إلى حصيلة الخسائر التي تتكبّدها الواحات كل صيف بسبب الحرائق التي يعزى اندلاعها إلى ارتفاع درجات الحرارة، وتساهم في توسيع رقعتها رياح الشرقي.
انتقلت ألسنة اللهب إلى الشمال لتلتهم ما يزيد عن ألف هكتار من المجال الغابوي بضواحي مدينة شفشاون، تزايدت مع وجود رياح قوية ومسالك وعرة أعاقت في كثير من الأحيان وصول فرق التدخُّل، مدعومين بـ 8 طائرات متخصِّصة في هذا النوع من العمليات.
القطيعة بين الجزائر والمغرب
انتهت حلقات التوتر بين الجارَين المغاربيَّين بالقطيعة، اعتبارًا من يوم الثلاثاء 24 أغسطس/ آب الماضي، حين قررت الجزائر قطع علاقاتها الدبلوماسية مع المملكة المغربية، لأسباب قيل إنها مرتبطة بـ”أعمال غير ودّية وعدائية تقوم بها الرباط ضد جارتها الشرقية”، وفق ما ورد في بلاغ الخارجية الجزائرية.
اتّهم قصر المرادية المغرب بدعم منظمتَين معارضتَين (حركة الماك وجماعة الرشاد)، تضعهما الجزائر في خانة الإرهاب، إذ اتهمتهما بافتعال الحرائق المدمِّرة التي اجتاحت شمال البلاد صيف هذا العام.
يُعتبر هذا التصعيد هو الأسوأ من نوعه منذ عام 1994، حين أُغلِقت الحدود البرّية بين البلدَين، ووجّه العاهل المغربي محمد السادس دعوة صريحة ومباشرة إلى الجارة الشرقية بإعادة فتح الحدود، وبدء صفحة جديدة من العلاقات القائمة على الثقة والتعاون بين البلدَين، قبل أسابيع من إعلان الجزائر للقطيعة.
الجزائر لم تبدِ أي تجاوب مع إعادة فتح الحدود، بل كان محور اهتمامها التصريحات التي أدلى بها الممثل الدائم للمغرب لدى الأمم المتحدة، عمر هلال، الذي طالبَ بتقرير مصير الشعب القبائلي، حيث بدت هذه الخطوة كمعاملة بالمثل، لأن النظام الجزائري يدعم منذ عقود جبهة “البوليساريو” الانفصالية التي تسعى إلى إقامة دولة بمنطقة الصحراء، التي تعتبرها الرباط جزءًا من ترابها، وتتمسّك بمنح المنطقة حكمًا ذاتيًّا موسّعًا تحت السيادة المغربية.
اصطدام دبلوماسي مع مدريد وبرلين
أشعلَ ملف الصحراء شرارة أزمة دبلوماسية بين الرباط ومدريد، بعدما وصل زعيم جبهة “البوليساريو”، إبراهيم غالي، إلى إسبانيا قصد العلاج من مضاعفات كوفيد-19، عبر طائرة طبية بجواز دبلوماسي جزائري، في منتصف أبريل/ نيسان الماضي، وفي الوقت الذي طالب المغرب باعتقاله كمجرم حرب، أجابت إسبانيا بأنها استقبلته لدواعٍ إنسانية.
عقب ذلك، اختار المغرب التلويح بملف الهجرة كورقة ضاغطة، إذ تخلّى عن حراسة حدوده المشتركة مع الجيب الإسباني سبتة، ما أدّى إلى تدفُّق آلاف اللاجئين ضمنهم قاصرون، الذين وصلوا إلى هذه المدينة المحتلة سباحةً، في مشهد أثار مخاوف من موجة هجرة جماعية جديدة نحو أوروبا.
قضايا خلافية أبرزها الصحراء دحرجَت كرة الثلج، وأخذت تكبر شيئًا فشيئًا لتعكّر صفو العلاقات بين المغرب وألمانيا، حيث استدعت الرباط سفيرتها لدى برلين في 6 مايو/ أيار، للتشاور بسبب موقف ألمانيا “السلبي والعدائي” بشأن قضية إقليم الصحراء و”محاولة استبعاد الرباط من الاجتماعات الإقليمية حول ليبيا”، ومن جانبها بدت ألمانيا متفاجئة من هذه الخطوة، إذ قالت خارجيتها إنه “لم يتمَّ إبلاغها بها مسبقًا وأن الاتهامات محيّرة ولا تستند على أي أساس”.
ماذا بعد؟
الواضح أن خلافات الرباط مع مدريد ستصبح قريبًا جزءًا من الماضي، بعد أن أبدت الأطراف جميعها مبادرات لتلطيف الأجواء والتفاوض لإيجاد حلول، وبعثت ألمانيا في الآونة الأخيرة رسائل توحي بالرغبة في إعادة علاقاتها مع الرباط إلى حالتها الطبيعية، إذ أشادت بمساهمة المغرب في إيجاد حلّ لنزاع الصحراء عن طريق مبادرة الحكم الذاتي.
استمرار الخلاف له عواقبه على الدول التي تجمعها شراكات اقتصادية متينة، حيث يحتل المغرب المرتبة الثالثة في أفريقيا من حيث المبادلات التجارية مع ألمانيا، فقد بلغت نحو 3 مليارات و200 مليون يورو خلال عام 2020، كما يعدّ المغرب أول زبون لإسبانيا من خارج الاتحاد الأوربي، وهو أول مستقطِب للاستثمارات الإسبانية في القارة الأفريقية في مجالات الصناعة والعقار والسياحة والبنوك.
تشكّلت الحكومة من الأحزاب الثلاثة الأولى في لوحة النتائج، ولا يوجد حزب قوي الحضور في هذه المؤسسة التشريعية لكي يقود المعارضة.
على طرف النقيض، يبدو أن أزمة المغرب مع الجارة الشرقية دخلت نفقًا مظلمًا لا يُعرَف له إلى حدّ الآن نهاية، خاصة مع التصعيدات الأخيرة التي اتخذتها الجزائر بوقف تصدير الغاز إلى إسبانيا عبر المغرب وتحويل الإمدادات إلى أنبوب الغاز البحري، ولا يخفى الخطاب الإعلامي بين الطرفَين الذي بات مُتَّخِذًا وضعية الهجوم، والمواقف العدائية التي يعبِّر عنها رواد مواقع التواصل الاجتماعي من كلا البلدَين.
على المستوى الداخلي، من المرتقب أن يؤدي ضغط الشارع على الحكومة إلى الإسراع في بدء الإجراءات الاجتماعية التي وردت في البرنامج الحكومي، بما فيها الدعم المباشر للطبقات الفقيرة والهشّة، وإحداث مناصب شغل جديدة، وتوسيع الطبقة الاجتماعية من أجل تقليص الفوارق الاجتماعية الاقتصادية.
داخل البرلمان، الصوت المعارض لن يُسمع له صدى قوي بعد الآن، بما أن الحكومة تشكّلت من الأحزاب الثلاثة الأولى في لوحة النتائج، ولا يوجد حزب قوي الحضور في هذه المؤسسة التشريعية لكي يقود المعارضة، كما أن جُلّها شاركت في الحكومة أو قادتها، والأحزاب الأخرى لم تتمرَّس قط على المعارضة، ما سيجعل من البرلمان مجرد مؤسسة لتمرير القرارات والقوانين في ظلّ رقابة ضعيفة.