لم يكن عام 2021 العام الأمثل لليرة التركية، فقد هوت قيمتها أمام سلة العملات بأكثر من 50%، لتسجِّل 17.6 ليرة تركية مقابل الدولار الأمريكي يوم 19 ديسمبر/ كانون الأول 2021، بعد أن كانت تعادل 7.4 ليرة مقابل الدولار الأمريكي الواحد في بدايات عام 2021، لتعتبر بذلك أسوأ العملات أداءً هذا العام.
ماذا حدث؟
تعرّضت الليرة التركية للعديد من النكبات، بدءًا من أحداث غيزي بارك عام 2013 وليس انتهاءً بمحاولة الانقلاب الفاشل عام 2016، ثم الاضطرابات السياسية مع الولايات المتحدة الأمريكية، بعد إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مضاعفة الرسوم الجمركية على الصلب والألمنيوم المستوردَين من تركيا، وقضية القسّ الأمريكي برونسون التي أجّجت الخلاف بين البلدَين، ليهدِّد الرئيس الأمريكي بـ”سحق” الاقتصاد التركي، ما أثّر سلبًا وبشكل مباشر على الاقتصاد التركي، وتعرّضت الليرة التركية لصدمة أفقدتها 18% من قيمتها خلال أيام.
حاولت الحكومة التركية تقليل الضرر الحاصل عن طريق رفع معدل الفائدة تدريجيًّا، ليصبح 24% خلال عام 2018 بعد أن كان 8% فقط في بداية العام ذاته، وقام البنك المركزي بضخّ أكثر من 160 مليار دولار (خلال 3 سنوات بين 2018 و2020) في الأسواق المحلية، سعيًا منه للسيطرة على الانهيار المستمر الذي كان سببه خطة حكومية جريئة لخفض أسعار الفائدة المرتفعة، إلى أن وصلت لـ 11.25% مع بدايات عام 2020.
وفي 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، قدّم صهر الرئيس التركي، بيرات البيرق، استقالته بشكل مفاجئ بعد يوم واحد من قرار رئاسي بإقالة محافظ البنك المركزي التركي، فيما اعتبر اعتراضًا على قرار تعيين ناجي أغبال محافظًا للبنك المركزي، بحسب وسائل إعلام تركية، الذي يتبنّى نظرة اقتصادية مخالفة لنظرة بيرات البيرق، وهي رفع معدلات الفائدة للسيطرة على نسب التضخم وتدهور العملة التركية.
كان أثر إقالة ناجي أغبال شديدًا على الليرة التركية، حيث إنه ثاني محافظ للبنك المركزي يُقال خلال أقلّ من عامَين
لم يطُلْ بقاء ناجي أغبال كثيرًا في المنصب، إذ صدر قرار رئاسي آخر بإقالته بعد يوم واحد من رفع البنك المركزي سعر الفائدة 200 نقطة أساس، لتصل لـ 19% بشكل أكبر ممّا كان متوقعًا، ليعيّن أردوغان الاقتصادي والسياسي والنائب عن حزب العدالة والتنمية سابقًا، شهاب كافجي أوغلو، في مارس/ آذار 2021، وسبّبَ هذا القرار جدلًا واسعًا في الأوساط السياسية والاقتصادية على حد سواء، لكون منصب محافظ البنك المركزي عادة هو أعلى سلطة مالية مستقلة في البلاد، ولا ينبغي أن تخضع قراراته وإجراءاته لضغوط من السلطة السياسية.
صرّح أردوغان في أكثر من مناسبة أنه يعارض معدلات الفائدة المرتفعة، ووصفها علنًا بأنها “أمّ وأب كل الشرور”، ويهدف الرئيس أردوغان لخفض معدلات الفائدة لئلا تتجاوز الـ 10% مع نهاية عام 2021، والـ 5% بحلول الانتخابات الرئاسية عام 2023.
كان أثر إقالة ناجي أغبال شديدًا على الليرة التركية، حيث إنه ثاني محافظ للبنك المركزي يُقال خلال أقلّ من عامَين، وانهارت الليرة لتتجاوز عتبة الـ 8 ليرات مقابل الدولار الأمريكي لأول مرة في تاريخها، وارتفعت معدلات التضخم لتقترب من مستويات الـ 20%، وفي 25 مايو/ أيار 2021 أصدر الرئيس التركي مرسومًا جمهوريًّا بإقالة نائب محافظ البنك المركزي التركي أوغوزخان أوزباش وتعيين البروفسور سميح تومان خلفًا له.
وقال المحلل التركي، يوسف كاتب أوغلو، لصحيفة “العربي الجديد”، إنه لم يتمَّ تقديم أيّ سبب رسمي للإقالة، لكن الأرجح أن السبب يرتبط بـ”خلاف على السياسة النقدية، لأن هدف الرئيس والقيادة السياسية دعم القطاع الإنتاجي وخفض سعر الفائدة أو تثبيتها، كما حدث في آخر اجتماع للمركزي مطلع مايو/ أيار، وليس رفع سعر الفائدة لزيادة الأموال في المصارف”.
البنك المركزي يشرع بخفض سعر الفائدة
خفّض البنك المركزي نسبة الفائدة بشكل تدريجي بخطة أولى 100 نقطة أساس بتاريخ 23 سبتمبر/ أيلول 2021، وتزامن ذلك مع قرار رئاسي بإقالة نائبَي محافظ البنك المركزي، وعضو بمجلس السياسات النقدية في هذا البنك، ليقوم البنك المركزي التركي في أكتوبر/ تشرين الأول وبشكل غير متوقع بتخفيضها مرة أخرى 200 نقطة أساس لتصبح 16%، ما سبّبَ صدمة كبيرة لليرة التركية لتتجاوز عتبة الـ 9 ليرات للدولار الواحد.
واستمرت الليرة في تحطيم أرقام قياسية لتصل لـ 12.8 ليرة تركية، مع تخفيض الفائدة في شهرَي نوفمبر/ تشرين الثاني وديسمبر/ كانون الأول على التوالي، لتكسر الليرة التركية في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2021 (يوم واحد بعد قرار خفض معدل الفائدة) حاجز الـ 16.6 ليرة تركية لكل دولار أمريكي واحد، ويصل معدل التضخُّم في البلاد لـ 23%، مع محاولات خجولة للبنك المركزي بدعم الليرة التركية عن طريق ضخّ أكثر من 6 مليارات دولار تدريجيًّا في السوق، سعيًا منه للتحكم في الانهيار السريع الذي يصيب العملة المحلية.
تطمينات حكومية
أكّد الرئيس التركي عزمه الإبقاء على خطة خفض معدلات الفائدة، وأن الفائدة المرتفعة لا تقوم إلا بزيادة الأغنياء غنى والفقراء فقرًا، وأن حكومته على علم بمعدّلات التضخم المرتفعة وتقوم بما يلزم لمقاومتها، وأكثر ما يشير إلى ذلك هو رفع الحد الأدنى للأجور بنسبة تقارب الـ 50% للمرة الأولى في تاريخ البلاد، ليبلغ 4250 ليرة تركية شهريًّا بعد أن كان حوالي 2800 ليرة.
ومع الانخفاض المستمر في قيمة العملة، عمّت الأوساط التركية ظاهرة “الدولرة”، إذ بدأ الأفراد والشركات التركية بتحويل مدخراتهم من العملة المحلية إلى العملة الصعبة أو الذهب، كمحاولة للحفاظ على قيمة الأموال أو المضاربة في السعر ببعض الأحيان رغم التطمينات الحكومية، ما سبّبَ نزيفًا حادًّا في الاحتياطي النقدي من العملة الصعبة وسرّع عملية الانهيار.
تعافٍ مفاجئ
وفقًا لوكالة “بلومبيرغ”، تراجعَ سعر صرف الليرة لمستوى قياسي منخفض جديد يوم أمس الاثنين، عند 17.6 ليرة للدولار الواحد، ما دعا الرئيس أردوغان أن يترأّس اجتماعًا لمجلس الوزراء للتباحُث في الوضع الاقتصادي الحالي.
بعد ذلك الاجتماع، أعلنَ الرئيس التركي جملة من الإجراءات الاقتصادية لمواجهة الأزمة، كان من أبرزها – بحسب “وكالة الأناضول” – “توفير بديل مالي جديد لمواطنينا الراغبين بتبديد مخاوفهم الناجمة عن ارتفاع أسعار الصرف”، وقال اردوغان: “من الآن فصاعدًا لن تبقى هناك حاجة لتحويل مواطنينا مدخراتهم من الليرة إلى العملات الأجنبية، خشية ارتفاع أسعار الصرف”.
وحول عمل الآلية الجديدة، أوضحَ الرئيس التركي أنه في حال كانت أرباح المودعين في المصارف بالليرة أكبر من زيادة سعر الصرف، فإنهم يحافظون على أرباحهم؛ أما في حال كانت أرباح سعر الصرف أكبر، فعندئذ سيتمُّ دفع الفرق للمواطن بالليرة التركية.
وذكر أن المواطنين الأتراك يحتفظون بـ 5 آلاف طن من الذهب تصل قيمتها لأكثر من 280 مليار دولار “تحت الوسادة” على حد تعبيره، في إشارة إلى مدخرات الأفراد، وأن الحكومة التركية ستنسّق آلية سلسة لإدخال هذه الأموال في الخطة الاقتصادية التركية، وشدّد الرئيس التركي على إصراره بتخفيض معدل الفائدة وأنه لن يسمح للوبي الفائدة بالتدخل في خيارات الشعب.
يبدو أن هذه التصريحات قد فعلت فعلها، إذ كانت مطمئنة للمستثمرين، حيث أعلن رئيس اتحاد البنوك التركية أنه جرى تحويل حوالي مليار دولار إلى الليرة التركية بعد خطاب الرئيس التركي مباشرة، أعقب ذلك ارتفاع مفاجئ وسريع لليرة التركية لتحقِّق معدل تعافٍ هو الأكبر في تاريخها لتلامس الـ 11 ليرة مقابل الدولار الأمريكي، بعد أن وصلت لـ 17.7 ليرة قبل تصريحات الرئيس أردوغان بنسبة تحسُّن وصلت لـ 33% تقريبًا.
إلى أين؟
تقلُّبات الليرة التركية السريعة والشديدة تمنع المحللين الاقتصاديين من التنبؤ بمستقبل الليرة التركية، أو وضع رسم بياني يوضِّح مسارها، لكن يبدو أن الرئيس أردوغان يسعى جاهدًا لتنفيذ خطته بتخفيض سعر الفائدة بأقل الخسائر الممكنة، وتعتمد خطته بشكل رئيسي على كبح رغبة الأفراد في تحويل مدخراتهم بالعملة المحلية إلى العملة الصعبة، وجذب استثمارات أجنبية من شأنها زيادة الإنتاج المحلي والصادرات، التي يتوقع أردوغان أن تؤتي بثمارها خلال الأشهر القليلة المقبلة.