ترجمة وتحرير نون بوست
هورجوس، المدينة التي لا يتجاوز تعدادها المائة ألف، والتي تغطي ضعف مساحة نيويورك سيتي، تضم بضعة قرى وبلدات، وتُعرَف بزراعة الضرم أو اللاوندر. بيد أن الصين تخطط لتحويلها إلى واحدة من نقاط العبور الهامة على طريق سكة الحديد الدولية التي تعتزم بناءها، وهي مشروع لطريق حرير اقتصادي أعلن عنه الرئيس الصيني شي جينبينغ العام الماضي لإنشاء نقاط جديدة للتجارة والمواصلات بين الصين وآسيا الوسطى وأوربا.
هورجوس ما هي إلا جزء صغير من الجهود الصينية الحثيثة لربط المناطق المختلفة في آسيا بشكل أوثق بها وباقتصادها، عبر خطوط الغاز والطرق والسكك الحديدية والموانئ، كما يقول المحللون والدبلوماسيون الذين درسوا المخططات المُعلنة من قِبَل بكين، والتي تشمل اتفاقية تجارة آسيا والهادي، وبنك آسيوي للبنية التحتية بقيمة 50 مليار دولار، وصندوق نقد طريق الحرير بقيمة 40 مليار دولار، الذين أعلن عنهم الرئيس شي الأسبوع الماضي، متعهدًا بضح الدعم والاستثمارات من الشركات الصينية الحكومية والخاصة.
بكين: منافس أم مكمِّل للنظام الدولي؟
في خطابه إلى مجموعة من رجال الأعمال، قال شي أن خطط الصين ستدعم النمو والبنية التحتية في المنطقة لتحقيق حلم آسيا والهادي: “الصين تمتلك القدرة والاستعداد لتقديم الخدمات والبضائع لآسيا والهادي، والعالم بأسره.” عبر هذه الجهود، تحاول الصين إصلاح ما يفسده نشاطها العسكري العدواني تجاه جيرانها في المحيط الهادي مؤخرًا، والذي دفع الولايات المتحدة لإعلان “الارتكاز الآسيوي” العسكري والاقتصادي لدعم حلفائها في المنطقة.
ليست مفارقة إذن استضافة بكين هذا العام قمة التعاون الاقتصادي في آسيا والهادي السنوية لأول مرة، والتي حضرها الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وهي تحاول ترسيخ صورتها باعتبارها القوة الرئيسية في آسيا عسكريًا واقتصاديًا. ركزت القمة على التجارة والاستثمار، وتبنت لأول مرة خطة واضحة للترابط الإقليمي تُطبَّق على مدى العقد المقبل، وكان الرئيس شي قد زار باكستان وميانمار وخمسة بلدان آسيوية أخرى قبل القمة بأسابيع، لتوقيع اتفاقيات مختلفة فيما يخص البنية التحتية.
يقول جاي كون، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة بكين، وغيره من أساتذة الشؤون الدولية، أن ما تقوم به الصين اليوم من تأسيس لبنك بنية تحتية وصندوق نقد آسيوي، شبيه بخطة مارشال التي دعمت بها الولايات المتحدة أوربا بعد الحرب العالمية الثانية. البعض أيضًا يقارن ذلك بالمنظومة المالية الصينية التقليدية التي مكّنتها من الهيمنة على آسيا لعقود قبل العصر الحديث.
قال الرئيس شي الأسبوع الماضي أن بنك البنية التحتية وصندوق نقد طريق الحرير سيكمّلا، ولن يحلّا محل، المؤسسات المالية العالمية القائمة حاليًا. بيد أن هذا لم يحُل دون اشتعال الجدل بين الحكومات الغربية والآسيوية، إذ رحّب البعض بدفعة الصين التنموية، في حين انتابت البعض الآخر مخاوف من أهدافها الاستراتيجية.
ما يقلق بعض المسؤولين الغربيين، هو أن سيل الأموال الصينية سيقلل من شأن المعايير العالمية لدى المؤسسات الموجودة حاليًا، مثل البنك الدولي، خاصة إذا ما كان سيتم انتقاء الشركات الصينية لتقوم باستخدام الأموال، أو دعم مشاريع معيّنة ذات أهداف سياسية أو مهددة للبيئة بشكل غير مسؤول.
أثناء التحضير للقمة، قال الكثيرون أن الولايات المتحدة عرقلت محاولات الصين بدء المفاوضات بشأن اتفاقية تجارة حرة إقليمية، نظرًا لتعارضها مع اتفاقية التجارة الحرة في آسيا والهادي التي تطرحها واشنطن حاليًا، والتي لا تضم الصين. رُغم ذلك، ظلت الصين تروّج لاتفاقيتها في الاجتماعات التحضيرية، وحصلت على تأييد لها على المدى الطويل.
ضغطت الولايات المتحدة أيضًا على الدول الآسيوية الكبرى كي لا تدخل بنك البنية التحتية الآسيوي، الذي أسسته الصين في أكتوبر مع 20 بلدًا آخرًا كبديل للبنك الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، وبنك التنمية الآسيوي الذي تقوده اليابان.
قال وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في مؤتمر صحفي في بكين يوم السبت الماضي، أن الولايات المتحدة أمة تنتمي للهادي، وأنها تتعامل بجدية فيما يخص مصالحها ومسؤولياتها الإقليمية، وحث الدول المختلفة في المنطقة على تأسيس قوانين ومبادئ عبر مؤسسات متعددة الأطراف لتًسمَع فيها جميع الأصوات. هذا وصرّح ممثل للوزارة بأن الولايات المتحدة تنظر لمخططات طريق الحرير باعتبارها مكمّلًا للجهود الأمريكية التي تروّج للترابط الاقتصادي، ولكنها تنظر بعين ناقدة لأي كيانات مالية جديدة لا تحافظ على المعايير الموجودة فيما يخص الحوكمة والسلامة البيئية والاجتماعية، الاستدامة فيما يخص الشراء والقدرة على تحمّل الديون.
إمبراطورية البنية التحتية
حاولت الصين طويلًا مدّ نفوذها في آسيا عبر المعونات والاستثمارات، والوصول إلى موارد الطاقة في آسيا الوسطى، وبعض تلك الجهود يُعاد صياغتها في إطار مشاريع جديدة. ولكن الدفعة الصينية توسعّت هذه المرة، وأصبحت أكثر إلحاحًا تحت حُكم الرئيس شي، الذي بلور رؤيته لدور أكثر تمددًا للصين مما سبق، وهي رؤية تحدث عنها كثيرًا في خطبه بوضوح.
طرح شي فكرة حزام اقتصادي باسم طريق الحرير في زيارة لآسيا الوسطى عام 2013، حيث دعا لبناء ممر للنقل يصل المحيط الهادي ببحر البلطيق، وشرق آسيا بجنوب آسيا والشرق الأوسط، وذلك لخدمة اقتصادات يصل تعدادها لثلاثة مليارات إنسان. أثناء تلك الرحلة، وقّع شي عقودًا وصلت لـ30 مليار دولار في كازاخستان، بما في ذلك مشاريع نفط وغاز، واتفاقية لضخ 3 مليارات دولار في صورة قروض وبنية تحتية في قرغزستان.
في الشهر التالي، وضع شي حجر الأساس لطريق حرير بحري في القرن الحادي والعشرين كما سماه، أثناء زيارة لإندونيسيا، ويضم بناء أو توسيع الموانئ والحدائق الصناعية عبر جنوب شرق آسيا، وبلدان مثل كينيا وسري لانكا واليونان، وتوسيع التجارة الثنائية بين الصين وجنوب شرق آسيا لتصل إلى تريليون دولار بحلول عام 2020 — أكثر من ضعف مستواها العام الماضي.
استلهم شي روح الأدميرال البحّار زَنج هَه، الذي أبحر بأسطول من السفن إلى أفريقيا في القرن الخامس عشر، ويُعَد رمزًا لتاريخ القوة البحرية الصينية، في خطابه بقمة شانغهاي حين قال: “الأمر يعود للآسيويين ليديروا أمور قارتهم ويحلوا مشاكلها بأنفسهم، ويعززوا عملية التنمية المشتركة والتكامل الإقليمي.” ورُغم أنه لم يذكر الولايات المتحدة بالاسم، إلا أن الكثيرين يعتقدون أنه كان يرسل رسالة ضمنية لواشنطن لتعرف أن دورها سيكون أقل مستقبلًا مما هو عليه الآن في آسيا. “ما يطرحه شي لم يكن موجودًا في السابق، وهو جاد بشأنه، وسيحققه بما يملكه من قدرات ومال، وهو يقول هذا للجميع بكل وضوح”، هكذا يقول كريس جونسون، محلل سابق مختص بالشأن الصيني في الاستخبارات الأمريكية.
ليس واضحًا ما إذا كانت بلدان آسيا كلها ستتقبّل هذه الرسالة الصينية. فقد عانت الصين كثيرًا في علاقاتها مع ميانمار، كما تعطلت مشاريع لها في باكستان نظرًا للوضع السياسي. بيد أن المشاريع هذه المرة تلقى دفعة قوية، لا سيما بنك التنمية الذي أعلنته قوى بريكس (البرازيل، روسيا، إندونيسيا، الصين، جنوب أفريقيا) بقيمة مائة مليار دولار، والذي ستكون شانغهاي مقره الرئيسي.
ففي جولة بجنوب آسيا، دشّن الرئيس شي بدء أعمال ميناء في كولومبو، عاصمة سري لانكا، وشهد بنفسه البدء في تنفيذ مشروع خط غاز صيني يمر عبر طاجيكستان وقرغزستان، كما يُتَوقع أن تعلن الصين وكوريا الجنوبية اتفاقية تجارة حرة قريبًا.
تحاول الصين إذن أن تجعل من نفسها الشريك الأساسي للدول النامية فيما يخص التنمية والبنية التحتية، في نفس الوقت الذي تحاول فيه واشنطن إعادة رسم الطبيعة الاقتصادية والعسكرية للمنطقة. بيد أن الولايات المتحدة لا تعمل بنفس الحماس والالتزام الذي تعمل به الصين. فقد أعلنت هيلاري كلينتون قبل الرئيس شي بعامين عن مبادرة لطريق الحرير، ولكنها كانت مجرد كلمات لم يتبعها أي جهد حقيقي، على عكس الصين هذه المرة.
الصورة: الصين تمد طرقا جديدة وأنابيب نفط وغاز وتضع “هورجوس” في المركز
هورجوس
تُعَد هورجوس شاهدًا على جدية الصين في تحقيق طموحاتها الإقليمية، وهي المدينة التي أغلقت مرات عدة في أيام الاتحاد السوفيتي، وظلت لوقت طويل مهمّشة نظرًا لفقر بنيتها التحتية، حيث بدأ يتغيّر وضعها تدريجيًا منذ بضعة أعوام، عبر خط غاز ممتد من تركمنستان إلى الصين، تبعه قطار من الداخل الصيني إلى المدينة، ثم تدشين نقطة لمرور سكة حديدية، وأخيرًا منطقة تجارة حرة.
ارتفعت هورجوس رسميًا لتصبح “مدينة” في سبتمبر الماضي، وهو ما يعطي الحكومة المحلية فيها القوة المطلوبة لتنمية الأراضي. هذه التغيير الرسمي وسّع من نطاق المدينة لتصبح مساحتها أكثر بمائة ضعف، كما يقول أو هاو، مدير منطقة التجارة الحرة في هورجوس، حيث تم استثمار أكثر من 3 مليارات دولار على الجانب الصيني من المنطقة، شملت بناء خمسة مراكز للتجارة بالجملة، تعج الآن بالتجار القازاق (كازاخستانيين) الذين يشترون البضائع الصينية، من الملابس إلى الإلكترونيات. سيصبح هناك فندق فاخر ومركز للمعارض في 2017، طبقًا لهاو، وكذلك تجمّعات من البيوت والمناطق الصناعية وطريق سريع للنقل ومحطة سكة حديد.
على الجانب القازاقي من المنطقة الحرة لا توجد سوى مجموعة من البضاعات المشحونة، والخيم التي تبيع الشوكولاتة الروسية وبعض مستحضرات التجميل. يشكو التجار القازاق من أن ألماتي، المدينة القازاقية الأقرب، تبعد ما لا يقل عن خمس ساعات، ويقول المسؤولون القازاق بأنهم سيشرعون في بناء المراكز التجارية والفنادق، والانتهاء من تجديد الطريق من وإلى ألماتي العام المقبل. هذا الطريق سيكون واحدًا من المحطات الأخيرة على الطريق السريع من ميناء ليانيونغانغ على ساحل الصين الشرقي، إلى مدينة القديس بطرسبورغ الروسية، والذي سيتم افتتاحه عام 2016.
في الواقع، بدأت القطارات بالفعل نقل البضائع من الصين عبر هورجوس وكازاخستان وروسيا، وصولًا إلى ميناء دويسبورج الألماني، وهي رحلة تستغرق الآن 15 يومًا، مقارنة بـ40 يومًا عبر البحار. في سبتمبر الماضي، دخلت شحنة من السيارات من أوربا إلى الصين عبر السكة لأول مرة في التاريخ.
على بعد حوالي 100 كيلومتر من هورجوس، في مدينة يننينغ، بدأ زانج جيان في بيع الخضروات في إحدى الشوارع عام 1983. اليوم، يمتلك جيان شركته الخاصة التي صدرت خضروات وفواكه بقيمة 60 مليون دولار لآسيا الوسطى العام الماضي فقط، وهو يطمح لبناء مصنع للتعبئة العام المقبل للتصدير عبر كازاخستان وإلى روسيا، حيث يتزايد الطلب بعد العقوبات الدولية على روسيا جراء الأزمة في أوكرانيا.
“كانت هورجوس مجرد بلدة صغيرة على الهامش، أما الآن فقد أصبحت مدينة نامية، وسيعلو صيتها في الأعوام القادمة”، هكذا ختم جيان حديثه وهو يتابع عماله وهم يحمّلون الشاحنات بشُحنة من الزنجبيل، قبل أن تمضي في طريقها عبر الحدود الصينية القازاقية.
المصدر: وول ستريت جورنال