شهدت المنطقة العربية خلال السنوات الأخيرة اضطرابات سياسية وعسكرية انعكس تأثيرها في الجوانب الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أن ما تناوله الكثير من الخبراء التربويين والتقارير الصحفية عن تغيُّرات طرأت على المناهج الدراسية، أثارت تساؤلات حول الأسباب الحقيقية لتلك التغيرات ومدى استنادها للضوابط العلمية والفنية اللازمة، فهل تسعى بعض الأنظمة العربية إلى تسيييس المناهج؟
يُعتبر تعديل المناهج أمرًا طبيعيًّا تتطلّبه الحاجة إلى تطوير العملية التعليمية، إلا أن كثافة التعديلات وطبيعتها وما أُثير عن ارتباطها بإملاءات خارجية، يدفع للبحث عن دوافع بعض الأنظمة العربية لفرض تلك التغييرات التي أخذت شكلًا متصاعدًا عقب ثورات الربيع العربي، وخاصة في مصر وسوريا واليمن، التي بدا فيها تسييس المناهج أكثر وضوحًا.
مناهج التطبيع
في البداية يجب التمييز بين نوعَين من التعديلات الطارئة على المناهج الدراسية، ويتعلق الجزء الأول منها بالمواد العلمية، والجزء الثاني بالمواد التي تؤسِّس الهوية القومية مثل اللغة والتاريخ والدين، وهي العناصر التي تشكّل الهوية، وتلجأ الأنظمة إلى تغييرها في الانتقالات السياسية الكبرى.
منذ ثورة 1952 في مصر، عندما أطاحت مجموعة من ضباط الجيش بالنظام الملكي، كانت الكتب والمناهج الدراسية تقدِّم روايات مؤيدة للحكومة، مع تزييف الأحداث أو تعديلها بشكل “ملائم”، لكن الآن بلغ التسييس في المدارس آفاقًا جديدة، تميزت بمساعٍ لمحو أو التقليل من أهمية مساهمات الخصوم في كتب التاريخ.
شهدت المناهج المدرسية في مصر تعديلات كثيرة، إلا أن تلك المرتبطة بالجانب السياسي بدأت بالظهور إبّان توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 التي أفضت إلى التطبيع بين مصر و”إسرائيل”، حيث أنشئ بعدها مركز تطوير المناهج التابع لوزارة التربية والتعليم لتطويع أذهان أبناء مصر، لتتماشى مع التفاهم مع اليهود وإعادة صياغة ما يدرسه الطلاب حول قضية فلسطين المحتلة والصراع العربي الإسرائيلي.
بحسب صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، أُدخل على المناهج المصرية تغييرات ترمي إلى إرضاء النظام، وتحطُّ من قدر معارضيه، وأن هناك غيابًا شبه كلّي لتفاصيل ثورة يناير/ كانون الثاني.
تأثير العلاقة مع “إسرائيل” كان حاضرًا في التعديلات المصرية على المناهج حتى يومنا هذا، فقد خلت النسخ الجديدة من الكتب المدرسية من وصف الكيان الصهيوني بالعدو، وتحدّثت في المقابل عن مزايا السلام وأهمية إنهاء الصراع وانعكاساته على التنمية.
الأمر الذي احتفت به “إسرائيل”، وأشاد به الكاتب الإسرائيلي في معهد أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب أوفيير وانيير، واصفًا التعديلات التي حدثت في عهد السيسي -مقارنة بمن سبقوه- بالتطور الذي سيكون له أثر كبير على فكرة السلام مع “إسرائيل” بين جيل الشباب المصري.
كمثال على ذلك، تمَّ تخصيص فصل واحد من كتاب مدرسي نشرته وزارة التربية والتعليم المصرية للعام الدراسي 2015-2016 لمعاهدة السلام مع “إسرائيل”، وتكشف مقارنة الكتاب الجديد بالكتب المدرسية السابقة عن عدة نتائج:
أولاً، الكتاب أكثر دعمًا لـ”السلام مع إسرائيل”، لا سيما بناءً على مقاربة أنه شرط ضروري لتحسين الوضع الاقتصادي في مصر.
ثانيًا، يذكر الكتاب “إسرائيل” كشريك في علاقات “ودّية”، وتظهر صورة رئيس الوزراء مناحم بيغن جنبًا إلى جنب مع صورة الرئيس أنور السادات.
ثالثًا، يذكر الكتاب الحروب مع “إسرائيل” والمشكلة الفلسطينية بشكل أقل ممّا كان عليه في الماضي.
كأن الثورة لم تحدث
هذه التعديلات تصاعدت بعد ثورة يناير/ كانون الثاني وتسلُّم جماعة الإخوان المسلمين السلطة ثم انقلاب العسكر عام 2013، ففي عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي طالت التعديلات أغلب المراحل الدراسية، فبحسب صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، أُدخل على المناهج المصرية تغييرات ترمي إلى إرضاء النظام، وتحطُّ من قدر معارضيه، وأن هناك غيابًا شبه كلّي لتفاصيل ثورة يناير/ كانون الثاني.
بالنسبة إلى النقّاد، فإن حذف الكتب المدرسية هو جهد متعمَّد لتعزيز سلطة السيسي من خلال التقليل من الانتفاضات ومن منظميها الرئيسيين.
وُصفت ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، التي أنهت حكم الرئيس الراحل حسني مبارك الذي استمرَّ 30 عامًا، في بضع فقرات سطحية في الكتب المدرسية الحكومية، واقتصر الحديث في صفحات كتب التربية الوطنية على “اتخاذ الوحدة الوطنية أفضل أشكالها، ونزول المسيحيين والمسلمين إلى الشوارع للمطالبة بالحرية والكرامة”.
لا يوجد ذكر أن الثورة اندلعت بسبب الغضب الشعبي من حكم مبارك الاستبدادي والمحسوبية والفساد، كذلك لم يُذكر النشطاء الذين أطلقوا الانتقاضة الشعبية، أو المتظاهرون الذين قُتلوا خلال ثورة 25 يناير/ كانون الثاني، ولم يرد ذكر كيف بدأت الثورة وانتهاكات الشرطة أو الفساد، في حين يتحدث كتاب التاريخ المدرسي الثالث الثانوي عن أن الثورة نتجت عن تزوير الانتخابات وتدهور الاقتصاد والحياة السياسية، وأن الجيش استولى على السلطة لـ”إنقاذ الثورة”.
في المقابل، شُيطن الإسلاميون المعتدلون الذين لعبوا دورًا حاسمًا في انتفاضات الربيع العربي التي انتشرت في جميع أنحاء المنطقة في ذلك العام، ودُمِّرت آلاف الكتب المدرسية التي طُبعت خلال فترة حكم جماعة الإخوان المسلمين بدعوى أنها تروِّج لوجهات نظر الإسلاميين، واليوم تُوصف الجماعة في المناهج الدراسية بأنها فاسدة ومتعطِّشة للسلطة، وأن إخراجها من قبل الجيش كان مبررًا.
المظاهرات الحاشدة في الشوارع في 30 يونيو/ حزيران 2013، والتي أطاحت بمرسي، تمجّد السيسي وحكومته على أنها تلبّي مطالب الشعب بتحقيق “أهداف” ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، ووفقًا لكتاب التربية الوطنية أسفرت الانتفاضة عن “خارطة طريق وضعت مصر على المسار الصحيح في تنمية مواردها وبناء مستقبلها”، في حين يبدو السيسي في الكتب المدرسية “بطلًا قوميًّا”، فقد قادَ ثورة 30 يونيو/ حزيران وأطاح بجماعة الإخوان المسلمين كما تتحدث الكتب المدرسية.
شملت التعديلات أيضًا أحداثًا وشخصيات عامة وتاريخية، وهو ما حدث في كتاب مدرسي حكومي للصف الخامس الابتدائي مع نائب الرئيس السابق عدلي منصور، والمدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرّية محمد البرادعي الذي حُذف اسمه من قائمة المصريين الحاصلين على جوائز عالمية، منها جائزة نوبل عام 2005.
وبررت بعدها مواقع مصرية أن الحذف جاء بطلب من أولياء الأمور والمعلمين، وحرصًا على عدم تشتُّت أبنائهم ومنعًا للخلاف بين مؤيد ومعارض بسبب مواقفه ضد مصر، فقبل 5 سنوات تنحّى الدبلوماسي السابق عن منصبه كنائب لرئيس البلاد احتجاجًا على الحملة العنيفة التي شنّتها قوات الأمن على الإسلاميين، واعتبر أنصار السيسي الاستقالة خيانة.
ويرجع الأمر إلى أن هناك شخصيات في النظام لديها مشكلة مع الثورة، وتحاول مهاجمة أي رمز من رموزها، وليس فقط الدكتور البرادعي، ليبدو الأمر الآن وكأن النظام الحاكم في مصر يعيد كتابة التاريخ مرة أخرى، فالسيسي هو الرئيس، لذا يجب أن تعكس المناهج النظام السياسي.
يُذكر أن أول حالة إغفال لدوافع سياسية في المناهج المدرسية حدثت في عهد الرئيس جمال عبد الناصر في الستينيات، ففي معظم الكتب المدرسية يتم تصوير ناصر على أنه أول رئيس للبلاد بدلًا من الرئيس محمد نجيب، وهو جنرال عسكري أطلق ثورة 1952 مع عبد الناصر، وفي عهد خليفتَيه -أنور السادات ومبارك- كانت الكتب المدرسية تمجّد أوامرهما العسكرية خلال صراعات مصر ضد “إسرائيل”، ما أضفى المزيد من الشرعية على الزعيمَين.
ترافق ذلك مع إضافات عن المؤسسات العسكرية التي يبدو تأثيرها واضحًا في التعديلات المرتبطة بالمقررات الثقافية، فضلًا عن إضافة فقرات خلال فترات سابقة تتحدث عن حركة “تمرد”، ووصف مؤسسيها بـ”مفجّري الثورة المصرية”، الأمر الذي حدث أيضًا مع رئيس نادي القضاة، أحمد الزند، الذي وُصف في المناهج الدراسية بـ”المناضل”.
مناهج تعكس سياسة النظام
ليست هذه المرة الأولى التي تحذف فيها الوزارة أجزاء من المنهج، فقد سبق أن حذفت درس القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي للصف الخامس الابتدائي، و6 فصول من قصة الصحابي والقائد العسكري عقبة بن نافع للصف الأول الإعدادي، بدعوى “المراجعة لحذف الموضوعات المتطرفة والتي تدعو إلى العنف، داخل مناهج التدريس من الصف الأول الابتدائي حتى الثالث الثانوي”.
وطالت التعديلات قصصًا خيالية رأى الخبراء التربويون في وزارة التعليم أنها تروِّج لتنظيم الدولة “داعش”، كمثال على ذلك واجه درس “ثورة العصافير ونهاية الصقور”، الذي يتحدث عن حرق العصافير لبيوت الصقور التي تمارس البطش على الطيور، الحذفَ بعد الجدل حول إحراق “داعش” للطيار الأردني، معاذ الكساسبة.
ثمة أيضًا تجاهل لأمن مصر المائي وسدّ النهضة الأثيوبي، ففي قضية المياه تتحدث النصوص الواردة في كتاب الجغرافيا عن تحديات مرتبطة بموارد مائية، ومنها نقص نصيب الفرد من المياه العذبة، مع تجاهل أخطر التحديات التي تواجه نقص المياه بإقامة سدّ النهضة في أثيوبيا.
كما سادت حالة من الصخب بعد الكشف عن توجيهات بحذف النصوص الدينية والأحاديث النبوية من منهج اللغة العربية والتاريخ، والتبرير بأن هذه النصوص تشكّل خطورة كبيرة وتعمل على نشر الأفكار المتطرفة، وفق ما قيل.
بالنسبة إلى النقاد، فإن تعديلات الكتب المدرسية هو مسعى متعمَّد لتعزيز سلطة السيسي، من خلال التقليل من الانتفاضات ومن منظميها الرئيسيين، ويقول البعض إن هذا العبث بالمناهج يمثّل أحدث مثال على نظام تعليمي موجّه نحو إرضاء الحكَّام أكثر من تدريس الأحداث الماضية بموضوعية.
بالمحصلة، ليس من الغريب أن يحدث هذا في دولة تتذيّل قائمة الدول في جودة التعليم الأساسي والعالي، وفقًا للمؤشر الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، بينما يتفاخر وزير التربية والتعليم طارق شوقى بادّعاءات احتلالها المركز الـ 39 ضمن تصنيف USNews لأعلى 78 دولة فى جودة التعليم، في حين يعجز عن توفير آلاف الفصول الدراسية لاستيعاب الطلاب.
وبالنظر إلى حجم الإنفاق الحكومي على التعليم، تتحدث الحكومة عن تضاعف ميزانية التعليم 10 مرات منذ تولي السيسي الحكم، رغم ذلك تعاني المنظومة التعليمية في مصر أزمات متلاحقة، تبدأ بتهالك البنى التحتية للمدارس، مرورًا بندرة الاهتمام بتأهيل الكوادر، وصولاً إلى ضعف مرتّبات المعلمين، وليس انتهاءً بوضع الكتاب المدرسي في قلب الصراعات السياسية، لينتج في النهاية هذا الواقع المؤلم للتعليم.