على شرفة بيت مغصوب في حي الإذاعة بمدينة حلب السورية يضع “أبو العباس” علمًا أسود مكتوب عليه “يا حسين”، يقول الحاج أبو ياسين إن هذا الشخص استولى على بيته منذ عام 2016، وبدأ بوضع اللافتات الطائفية على شرفة منزله، ويضيف أبو ياسين أنه نزحَ من حلب إلى تركيا عام 2013، حيث أوصدَ أبواب بيته وكفّل به أخيه الذي آثر البقاء في المدينة.
بعد سيطرة النظام السوري والميليشيات الإيرانية على أحياء حلب الشرقية أواخر عام 2016، شهدت المدينة حالة غير مسبوقة من الاستيطان، إن صحَّ التعبير، إذ بدأت عوائل المقاتلين الشيعة بالحلول في منازل النازحين والمهجّرين، على غرار الكثير من المدن السورية، مثل دير الزور وأحياء دمشق الجنوبية وتدمر وغيرها.
الحاج أبو ياسين “يحتسب أمره لله”، وفي حديث له مع “نون بوست” قال إنه “فقد الأمل حاليًّا،” خاصة بعد أن أرسل زوجته في زيارة إلى مدينتها حلب في العام الماضي، لترجع مذهولة من هول التغييرات التي شهدتها حلب، وقال إن زيارتها تزامنت مع ذكرى إحياء عاشوراء، إحدى المناسبات المقدسة لدى الشيعة.
وفي معرض حديثه المثقل بالأوجاع، يقول أبو ياسين إن زوجته ذهبت لتزور بيتها ليقابلها المدعو “أبو العباس” ويمنعها من رؤية دارها، حاولت صاحبة المنزل الدخول إليه لكنه قال لها: “ليس لك شيءٌ هنا.. نحن هنا منذ مئات السنوات وهذه الأحياء إرث الحمدانيين لنا”، في إشارة إلى الدولة الحمدانية التي حكمت حلب في غابر الزمان، فردّت أم ياسين بوجهه: “الحسين بريء منكم، ونحن مظلومون مثله كما كان سيد المظلومين ولنا أمام الله وقفة”؛ أغلقَ “أبو العباس” الباب بوجهها وعادت أم ياسين إلى تركيا تحمل الحسرات والخيبات على ما آلت إليه الأمور، كما يصف لنا الحاج الحلبي.
إعادة هيكلة
لم يكن الدخول الإيراني إلى البلاد وليد هذه السنوات، وأيضًا لم يكن الاستيلاء الشيعي على العقارات في هذه الأوقات فقط، إنما كان يسير بهدوء ودون أن يستشعر الناس خطره، لكن اليوم ومع فتح بشار الأسد أبواب سوريا للإيرانيين وميليشيات الولائية باتَ الأمر سهلًا وعلنيًّا دون أي خوف، مستندين على فلسفة بشار الأسد: “الوطن لمن يدافع عنه”، والتي بموجبها منح حق المواطنة لكل عناصر الميليشيات الأجنبية التي قاتلت إلى جانب قواته وعوائلهم، فيما حرمَ منها معارضيه.
عملت إيران خلال سنوات ما بعد انطلاقة الثورة السورية على إعادة هيكلة وجودها في سوريا، بشكل يسمح لها إعادة بناء ديمغرافية جديدة لسوريا، ولعلّ الاهتمام الكبير بهذا البلد دفعها للعمل بكامل طاقتها، حيث كشفت صحيفة “ذي غارديان” البريطانية أن “إيران تسعى إلى طرد السنّة من دمشق ومحيطها، وتأمين الطريق الرابط بين دمشق إلى الحدود اللبنانية، وإحلال عوائل شيعية من العراق ولبنان محل العوائل السنّية التي يتم طردها”.
تحاول طهران من خلال ميليشياتها التمركُز في مناطق معيّنة من خلال سياسة “دق الأسفين” أو القضم، إذ إنها تعمل على توطين بعض العائلات الشيعية في مكان لتضمن الانتشار مع مرور الوقت، ثم تنتقل إلى مكان جديد.. وهكذا.
ولعلّ ما يحصل في دير الزور وتدمر، إضافة إلى العاصمة دمشق، خير دليل، وسنقف في هذا التقرير على بعض محاولات التوطين أو الإحلال التي تقوم بها إيران خلال السنوات الأخيرة لعوائل شيعية في بيوت السوريين الذي هُجِّروا قسريًّا.
لم تبدأ طهران تنفيذ خطتها بشكل يلفت الانتباه بداية، بل عملت على بناء المراقد والحوزات التي أولَتها اهتمامًا كبيرًا منذ عهد حافظ الأسد، المؤسِّس لعلاقات سورية إيرانية استثنائية، وأصبحت هذه المقامات من أهم مراكز الوجود الديني للشيعة في سوريا التي تستقطب ملايين الحجّاج إليها سنويًّا.
أضفْ إلى ذلك أن هذه المراقد باتت تشكّل بُؤَرًا تجذب الإيرانيين والشيعة للسكن حولها وتغيير وجه البلاد، وبرز ذلك في دمشق بدايةً حيث تحولت بعض أحياء دمشق القديمة إلى حي شيعي بعد بناء مرقد رقية، وكذا حصل في منطقة السيدة زينب بريف دمشق.
بعد انطلاقة الثورة السورية، تحولت هذه المزارات من كونها مراكز دينية لتصبح مراكز عسكرية وذريعةً تبرِّر الوجود العسكري الإيراني في سوريا بحجّة حمايتها والدفاع عنها، وشكّل قاسم سليماني “لواء حرّاس المقامات” في إشارة لأهمية هذه المقامات لدى إيران.
وبالطبع، المساعد الأكبر للتمدُّد الشيعي هو نظام الأسد، إذ عمل على تغيير التركيبة السكّانية عبر بيع العقارات لعائلات المقاتلين الشيعة من العراقيين واللبنانيين بمبالغ كبيرة جدًّا، وصلت إلى أضعاف سعرها الحقيقي.
وفقًا لمجلة “فورين بوليسي”، فإن بشار الأسد “لم يستطع الحفاظ على شكل العلاقات مع إيران كما كانت سابقًا، حيث أتاح لطهران التحكم في الكثير من الشؤون الداخلية للبلاد، حتى أصبحت طهران راغبة في تغيير كل شيء في سوريا، بما في ذلك نشر التشيُّع، والدفع ببقية الطوائف لتصبح أقلية في البلاد”.
السيطرة على المركز
في دمشق، بدأت حرب التغيير الديمغرافي قبل الثورة بسنوات، إذ إن هذه العاصمة من الأهمية بمكان لطهران في سبيل تعزيز مشروعها، وهنا يروي شيخ الحقوقيين السوريين هيثم المالح، في كتابه “ذكريات على طريق الحياة”، أن إيران تعمل على شراء العقارات في أحياء دمشق القديمة منذ زمن، وكانت قد بدأت شراء البيوت في أحياء العمارة والأمين والشاغور والجورة.
وكشفت مواقع إيرانية عن تشجيع إيران للشركات والتجّار والمقاولين والمواطنين الإيرانيين على شراء المنازل والعقارات والفنادق في أحياء دمشق الراقية بسوريا، كما يوجد في إيران عدة بنوك ومؤسسات مالية مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، تقدِّم المزيد من التسهيلات وقروضًا مالية كبيرة للإيرانيين الراغبين بشراء فنادق وفيلّات وشقق في دمشق.
وقد تعرّضت الكثير من العوائل الدمشقية على مرِّ السنوات السابقة إلى ضغوط ومضايقات من أجل بيع ممتلكاتها، ولأن الحالة الاقتصادية باتت صعبة على الجميع فقد أنهى العديد من أصحاب رؤوس الأموال أعمالهم وباعوا ممتلكاتهم ورحلوا عن المدينة، ووفقًا لـ”تلفزيون سوريا” فقد بيعت منازلهم وممتلكاتهم إلى بعض الأسر الإيرانية التي منحها النظام هويات سورية في الفترة الأخيرة استعدادًا لتوطينهم.
كما أقام الإيرانيون مشروعًا سكنيًّا كاملًا لهم في حي المزة، الذي توجد به السفارة الإيرانية في دمشق، بعد أن أفرغوا منطقة بساتين المزة وكفرسوسة من أهلها، وجرفوا الأشجار والمزروعات. وتشير التقارير إلى انتقال ملكية بعض المباني والمحال التجارية المحيطة بالمركز الثقافي الإيراني في منطقة البحصة في وسط دمشق، عن طريق التزوير دون معرفة أصحابها.
ويبيّن تقرير لصحيفة “المدن” أن “مُلكية أغلب العقارات تعود إلى سوريين عُمِّمت أسماؤهم من قبل أفرع أجهزة المخابرات، بسبب نشاطاتهم أو مواقفهم المعارضة، وغالبًا ما وصل الأمر إلى اتهامهم بـ”تمويل الإرهاب” ليتمَّ الحجز الاحتياطي على منازلهم”.
وتتم عمليات التزوير بإشراف كامل من السفارة الإيرانية في دمشق، وبوساطة متعاونين محليين، يعملون لصالحها، ممّن يقومون بتزوير السجلّات العقارية باسم المالكين الأصليين، ونقلها أصولًا بعملية تنازل عقاري قانوني.
حزام دمشق
في إطار تطويق دمشق بحزام شيعي، تسعى طهران إلى توطين عوائل لمقاتلي الميليشيات الشيعية في طوق دمشق، حيث قامت الميليشيات بنقل عائلات عدد من عناصرها إلى بلدة حجيرة جنوبي العاصمة دمشق، وذكرت مواقع أن “الحرس الثوري الإيراني نقل 11 عائلة شيعية من عائلات عناصره المتمركزين في المنطقة، من الجنسيات الإيرانية والأفغانية والعراقية”.
وقد نزلت هذه العوائل في مساكن كانت سيطرت عليها الميليشيات مسبقًا في المنطقة الفاصلة بين منطقتَي حجيرة والسيدة زينب، كما أُسكنت بعض العائلات في منازل على أطراف بلدة حجيرة من جهة بلدة سبينة.
في أغسطس/ آب الماضي بدأت ترتيبات جديدة للميليشيات الإيرانية، لتوطين دفعات جديدة من المقاتلين مع عائلاتهم في محيط دمشق، وتشمل هذه الدفعة 600 عائلة، معظمهم من العراقيين، بالإضافة إلى 200 عائلة منهم من عائلات مقاتلي ميليشيا حزب الله اللبناني.
ويشرفُ على هذه الحملات مكتب الحرس الثوري الإيراني في دمشق وقيادته في حي السيدة زينب، فيما سيشرف حميد صفار هرندي، ممثّل المرشد الأعلى بدمشق، على تيسير عملية تجنيس العائلات العراقية والإيرانية البالغ عددها 400 عائلة.
ليس بعيدًا عن ذلك، تحضر مدينة داريا أيضًا ضمن المخطط الإيراني، فمنذ السيطرة على المدينة في أغسطس/ آب عام 2016، وضعت الميليشيات الإيرانية عينها على المدينة وبالذات المنطقة التي يتواجد فيها ما يُسمّى “مقام سكينة”، هذا المقام يقول عنه أهل المدينة إنه مصطنع ووُضع في المدينة السنّية أواخر تسعينيات القرن الماضي، ورغم المحاولات الكبيرة من أهالي المدينة لإيقافه إلّا أن النظام وإيران مشيا في مخططهما.
يحاول الإيرانيون وأعضاء من حزب الله في الخفاء شراء العقارات والشقق في تلك المنطقة من مدينة داريا، بالإضافة إلى مناطق أخرى، وبالطبع بتسهيلات من شخصيات موالية للنظام من أهل المدينة، وفي السياق يذكر أبو خالد، أحد قاطني المدينة حاليًّا، في حديثه لـ”نون بوست”، أن رئيس البلدية مروان عبيد يقوم مع شخصيات من نظام الأسد بحملة شراء أراضٍ وعقارات مريبة، ويضيف أبو خالد أن عوائل شيعية دخلت منذ فترة لإحياء ذكرى عاشوراء وكانوا برفقة مسلّحين كثر.
الجدير بالذكر أن قائد حركة النجباء، أكرم الكعبي، حاول نقل عوائل ميليشيات شيعية من مناطق الجنوب السوري إلى داريا عند تهجيرها عام 2016، لكن بحسب أبو خالد فإن الأمر لم يتمَّ حينها لأن الدمار الهائل في المدينة لا يتيح العيش فيها، ولكن الآن يبدو أن الوضع بات ممكنًا وربما نراهم قد دخلوا وسكنوا المدينة في أي لحظة، ويذكر أبو خالد أن الحالة المادية الصعبة تجعل من صاحب البيت أو الأرض مضطرًا لبيعها بداعي السفر أو بداعي تأمين الحاجيات الأساسية.
على الحدود
ليس بعيدًا عن الطوق الدمشقي، وامتدادًا للسيطرة على العقارات الواقعة على الحدود اللبنانية السورية، أصدرَ المرصد السوري لحقوق الإنسان في يونيو/ تموز من هذا العام، تقريرًا يبيّن أن “ميليشيات موالية لإيران تنشط في شراء ومصادرة أراضٍ وعقارات على الحدود بين لبنان وسوريا، وسط صمت من النظام السوري”.
ويشير المرصد إلى أن “مئات الأراضي والعقارات تمَّ نقل ملكيتها إلى ميليشيات موالية لإيران برعاية حزب الله”، مضيفًا “أن عمليات الشراء الجارية تخالف القانون السوري الذي يمنع بيع وفراغ الأراضي الحدودية”.
وحتى نهاية النصف الأول من العام “كانت الميليشيات الأفغانية والإيرانية والعراقية واللبنانية اشترت أكثر من 320 أرضًا في منطقة الزبداني ومحيطها، وما لا يقلّ عن 465 أرضًا في منطقة الطفيل الحدودية التي باتت (كما أشار المرصد السوري سابقًا) كقرية “الهيبة” الأسطورية في أحد المسلسلات السورية، ويتزعّمها شخص سوري مقرَّب من قيادات حزب الله اللبناني يُدعى (ح. د)”.
يضيف المرصد: “تستمر عمليات مصادرة الشقق الفارهة والفلل في منطقة بلودان ومناطق قربها، ليرتفع إلى 231 حتى اللحظة تعداد الشقق التي استوطنت فيها تلك الميليشيات، بدعم مطلق من قبل حزب الله اللبناني الذي يعمل على تسهيل أمور الميليشيات باعتباره القوة الأكبر هناك، يأتي ذلك على الرغم من التركيز الإعلامي الكبير ولا سيما من قبل المرصد السوري، كما أن تلك الميليشيات لا تأبه بالقانون السوري الذي يمنع شراء الأراضي الحدودية”.
مدينة القصير
ما زلنا على الحدود السورية اللبنانية، وهذه المرة في مدينة القصير، حيث كان لسقوط مدينة القصير الأثر الأكبر لبداية التغلغل الشيعي في سوريا، حيث سيطرت قوات النظام السوري بدعم كبير من حزب الله على المدينة الحدودية مع لبنان، وزجَّ حزب الله بالكثير من قواته في هذه المعركة التي اعتبرها مصيرية له.
وحصلت هذه المعركة في يونيو/ حزيران عام 2013، وكان لها ما بعدها من بداية المدّ الشيعي المتسارِع في المنطقة، وتعدّ القصير إحدى كبريات مدن محافظة حمص، ويتبع لهذه المدينة عشرات المناطق والقرى التي يغلب عليها الطابع السنّي، يُضاف إليها بعض القرى المسيحية والعلوية والشيعية.
تربط القصير لبنان بسوريا عبر منطقة البقاع التي تصل إلى محافظة حمص عبر معبر جوسية، إضافة إلى قربها من منطقة القلمون بريف دمشق، ما جعلها مركزًا للتبادل التجاري.
نزح الآلاف من أهالي المدينة إلى الشمال السوري، كما لجأ عدد منهم إلى بلدة عرسال اللبنانية القريبة، إثر المعركة التي سيطر فيها حزب الله على المدينة ورفع راياته على مآذن مساجدها، كما تحولت إلى منطلق لعمليات الحزب الذي استوطنها، ومنذ نزحَ أهلها لم يعد منهم إلا القليل، حيث يبلغ تعداد المنطقة أكثر من 111 ألف نسمة والعائدون حتى عام 2019 لم يقربوا الـ 5000، ويحتاج الراغبون بالعودة إلى موافقات من الأفرع الأمنية ومراجعات من بعض حواجز حزب الله.
موقع المدينة الاستراتيجي جعلها نقطة انطلاق لعمليات تهريب الحشيش والمخدرات التي يقودها حزب الله، وذكرت تقارير أن مئات الهكتارات من أراضي القصير باتت تُزرع بالحشيش كما باتت مكانًا لمصانع حبوب “الكبتاغون” المخدِّرة، وكل ذلك يعود لحزب الله.
أما فيما يخصّ موضوع الاستيطان والاستيلاء على العقارات، يحاول بعض المتنفّذين بحزب الله وموالون له شراء الأراضي من العائلات النازحة عن القصير عبر وسطاء، وبعض الناس ممّن هم بحاجة إلى المال يضطرون للبيع، وبهذا تكون العمليات تجري بهدوء في تلك المناطق.
دير الزور
بالانتقال إلى دير الزور، المحافظة التي لا تخفى أهميتها، إذ إنها تعدّ ذات موقع مهم للربط بين سوريا والعراق عند مدينة البوكمال، وهو ما جعلها تحت الاستهداف الإيراني، فمنها تكمل طهران طريقها إلى دمشق وتكمل رسم مخططها للهلال الشيعي، أضفْ إلى ذلك أن هذه المحافظة الواقعة في الشرق السوري تمتلك خزّانًا من الثروات الباطنية كالغاز والنفط، بالإضافة إلى تربتها الخصبة.
إذًا يوجد أهمية اقتصادية كبيرة لدير الزور، لكن طهران تنظر إلى أبعد من ذلك، إذ إن تركيبة المحافظة الاجتماعية والعشائرية تضيف إليها أهمية لا تملكها محافظة سورية أخرى، وهو البُعد العشائري.
وتُعتبر دير الزور مركزًا للاتصال العشائري السنّي المتواجد في الرقة والحسكة إضافة إلى بعض المدن في الطرف العراقي، ما يجعل إيران تركّز على قطع هذا التواصل بين العشائر، كما أنها تستميل عشائر بعينها لتمويلها ووضعها تحت جناحها، وهو ما حصل مع عشيرة البقارة التي استمالت طهران بعض رجالاتها وأسَّست لهم ما أصبح يُسمّى “لواء الباقر”.
للوقوف أكثر على مسألة التواجد الإيراني في هذه المحافظة، والتغيير الذي تمارسه من خلال إحلال العوائل الشيعية في المدينة، توجّهنا بالسؤال إلى الصحفي السوري أمجد الساري الناطق باسم شبكة عين الفرات، ليوضِّح لنا ما هي أهم المناطق التي حصل فيها توطين للشيعة في محافظة دير الزور.
ويجيب الساري بأن “مدينة البوكمال هي من أهم المناطق بالنسبة إلى الميليشيات الإيرانية، وأيضًا مدينة الميادين وبلدة محكان وقسم من مناطق أخرى بريف دير الزور الغربي، مثل منطقة معدان عتيق الواقعة بين محافظتَي الرقة ودير الزور، وحصل بها إنشاء وحدات سكنية للعوائل الشيعية”.
يضيف الساري في حديثه: “لوحظ أن أكثر العائلات التي تأتي إلى البوكمال هم عناصر الميليشيات الأفغان مثل ميليشيا فاطميون، يتواجدون بمقرٍّ مقابل شارع الانطلاق، وهم يتواجدون بكثرة ولم نصل إلى الآن لعدد حقيقي لهم، كما أنهم يتواجدون بحي الجمعيات في المدينة، حيث استولوا على الكثير من المنازل وجرى توطين عائلات تابعة للميليشيات الأفغانية في المنطقة، أضف إلى ذلك أن قريتَي الهري والسويعية على الحدود السورية العراقية من العائلات شيعية“.
خلال عملها في المنطقة الشرقية، تعتمد طهران على أشخاص محليين يساعدونها بالسيطرة على العقارات والأراضي، ويشير الساري إلى وجود شخصٍ يُسمّى “الحاج عسكر” وهو أحد كبار المسؤولين في المنطقة يعمل على تسهيلات للميليشيات، إضافة إلى شخص يُسمّى “الحاج أمير”، حيث إن الأخير هو المسؤول عن شراء العقارات والأراضي بالمنطقة، وهو مقيم في منطقة حويجة صكر بريف دير الزور.
في سياق الاستيلاء على الأراضي والممتلكات، استغلَّت طهران نزوح الناس عن هذه الأماكن بعد سيطرة النظام عليها، ويروي الساري أن “الاستراتيجية الإيرانية تتبع طريقة الاستيلاء على المنازل بحكم الأمر الواقع، حيث يوجد قسم كبير من سكانها خارجها، خاصة أنهم معارضون لنظام الأسد ونزحوا مخلّفين بيوتهم وأراضيهم”.
ويكمل الصحفي السوري: “استولت الميليشيات الإيرانية تلقائيًّا على هذه الأراضي والبيوت وأسكنت بها عوائل شيعية، وحوّلت بعضها لمقرّات عسكرية، إضافة إلى ذلك اتّبعت أسلوب الشراء عن طريق أشخاص وسطاء يشترون هذه البيوت والأراضي بمبالغ جيدة حتى يغروا فيها الناس التي تريد البيع، وبعض السكّان ليس لهم خيار آخر إلا البيع”.
يشير الساري إلى أن “حركة كبيرة في الشراء تجري في مناطق مثل الهري والسويعية، وهما قريتان على الحدود العراقية السورية قريبتان من المعبر الذي تستخدمه إيران باتجاه سوريا، وتحرص إيران على أن تكون هاتان القريتان تحت سيطرتها بالكامل، بما في ذلك شراء ولاء السكان”.
مضيفًا أن منطقة غرب دير الزور، وبالتحديد بلدة معدان عتيق، “شهدت خلال الأشهر الماضية إنشاء وحدات سكنية لعوائل المقاتلين بإشراف ميليشيا النجباء العراقية، ويوجد خطة لدى الميليشيات باستيعاب أكبر قدر من العوائل الشيعية وإسكانهم بهذه الوحدات، أيضًا بالوقت ذاته استولت على العديد من المنازل من السكان”.
بالانتقال إلى مدينة الميادين، فقد تمَّ الاستيلاء على عشرات المنازل لإسكان عوائل شيعية بها، وتمّت العملية بإشراف ما يُسمّى “مكتب الأصدقاء” و”الحاج حبيب”، وهو لبناني الجنسية.
حلب
بعد سيطرة النظام وحلفاؤه على حلب عام 2016، عمل النظام مع الإيرانيين على تغيير التركيبة الديمغرافية للمدينة، وتمَّ تهجير الآلاف من أبنائها، ومُنحَت منازلهم في حي باب الحديد وحلب القديمة وحي المرجة وسيف الدولة وريف حلب الجنوبي لعناصر الميليشيات الإيرانية وعائلاتهم، من العراق ولبنان والهزارة الأفغان، المنخرطين كمرتزقة في “لواء فاطميون” الذي استقرَّ في أحياء حلب وريف حلب.
بلغ عدد الحسينيات في مدينة حلب خلال الفترة الأخيرة نحو 35 حسينية و12 مركزًا ثقافيًّا، وتفرض منهاجًا شيعيًّا بحتًا من حيث تعليم أصول الفقه الشيعي، والأنشطة الاجتماعية والثقافية الشيعية التي تقوم بها هذه المراكز مدعومة ماليًّا من مؤسسة الحرس الثوري.
الصحفي السوري خالد خطيب يقول: “بالنسبة إلى المدّ الشيعي، أو التشيُّع المستجد في محافظة حلب، يحصل بداية من المدينة في الأحياء الشرقية والتي شهدت تمركز عدد من الميليشيات التابعة لإيران في الفترة بعد عام 2016، أهمها لواء الباقر الذي يهيمن الآن على 10 أحياء على الأقل، أبرزها المرجة والبلورة والفردوس، وفي هذه الأحياء أُقيمت حسينيات وحوزات وشهدت استقطاب شريحة اجتماعية غير قليلة أصبحت متشيِّعة”.
ويضيف الصحفي الخطيب في حديثه لـ”نون بوست”: “تتمركز في الأحياء الشرقية ميليشيات تتبع لنبل والزهراء وكفريا والفوعة توطّنت فيها بعد عام 2018، وحصلت عمليات شراء بيوت واستيطان في منازل المهجّرين مثل باب النيرب والمعادي وغيرها، والأمر هنا يشبه حالة لواء الباقر”.
يضيف الخطيب: “في الريف الجنوبي لحلب حصل مدّ شيعي أيضًا، فالمنطقة تضمُّ أكبر قواعد الميليشيات الإيرانية، وفيها جبل عزان حيث القاعدة الايرانية الضخمة، وفي محيط معامل الدفاع نقاط تمركز كثيفة للميليشيات الإيرانية، وتشيّعت عدة قرى وبلدات في المنطقة، حيث الولاء هناك عشائري أولًا، ما أسهمَ في تسريع عمليات المدّ الإيراني”.
وفي الأرياف الشمالية والشرقية، فهي مناطق نائية وفيها المد الشيعي نحو السفيرة ودير حافر ومسكنة واسع، عبر العشائر والميليشيات، والبنى الاجتماعية في ريف حلب الشرقي لديها خوف متجذِّر من سلطات الأمر الواقع، ولكي تنفي عن نفسها حبّها لـ”داعش” الذي كان يهيمن على المنطقة، راحت بكل اندفاع لتوالي الميليشيات الإيرانية وأي قوة تسيطر على المنطقة في الفترة ما بعد التنظيم، وفقًا للصحفي الخطيب.
تدمر
وفقًا لصحيفة “الشرق الأوسط“: “ظهرت ملامح تحركات شعبية ضد وجود ميليشيات عراقية وأفغانية تابعة لإيران كانت فرضت سيطرتها الكاملة على مدينة تدمر ومنطقة السخنة وسط البادية السورية شرقي حمص، وتضيّق على السكان الأصليين، ووضعهم أمام خيارات الولاء أو المغادرة”.
وفي شهادة نقلتها الصحيفة عن أحد أبناء المدينة، فإن إيران جعلت تدمر في وضع صعب: “لم تبقَ أمام من تبقّى من العوائل التدمرية الأصلية التي ما زالت تعيش في المدينة، ويبلغ تعدادها نحو 400 عائلة، سُبل للعيش فيها، إما اعتناق المذهب الشيعي، وإما عمل أبنائها مجبرين لدى الميليشيات الإيرانية والأفغانية في بناء المقارّ العسكرية وحراستها ليلًا، وإما العمل في الحفريات بوسائل بسيطة للبحث عن اللقى الأثرية لصالح الميليشيات، وهذه هي الضمانات الوحيدة التي تؤمّن لك استمرار الإقامة والعيش في مدينتنا التي ولدنا وعشنا فيها”.
ويحذِّر المدنيون الذين فضّلوا الخروج من المدينة من “خطورة الوضع الإنساني الذي يعيشه من تبقّى من سكان بادية حمص، بما فيها مدينة تدمر، ومن عملية التغيير الديمغرافي، التي يقوم بها الحرس الثوري الإيراني، من خلال جلب أسر وعوائل عناصر ميليشيات لواء فاطميون الأفغاني وحركة النجباء العراقية، وتوطينها في المنطقة، فضلًا عن عمليات إجبار السكان على بيع منازلهم بأسعار زهيدة للمتنفّذين في الميليشيات، فضلًا عن حرقها وتخريبها لبساتين البلح والتمر المحيطة بالمدينة”.
وذكرت الصحيفة أن الميليشيات الشيعية تعمل على “توطين أكثر من 80 عائلة عراقية ومثلها إيرانية وأفغانية في أحياء مدينة تدمر ومنطقة السخنة، وإنشاء مقارّ ومكاتب لها، ونشر نقاط حراسة وحواجز عسكرية، ومطالبة عناصرها المواطنين بدفع إتاوات يومية وشهرية، مقابل السماح لهم بالعمل أو المرور، الأمر الذي حوّل الحياة داخل المدينة إلى جحيم”.
ختامًا.. تعمل إيران على تغيير وجه سوريا بالكامل، اقتصاديًّا وسياسيًّا وديمغرافيًّا، وذلك عبر إحلال عوائل مقاتليها في أراضي وبيوت السوريين الذين هجّرتهم بمساعدة عائلة الأسد، التي قدّمت سوريا قربانًا لطهران مقابل تثبيت حكمهم على البلاد، ورغم سوداوية الواقع ومأساويته إلا أن هناك أملًا يبقى لدى السوريبن بعودتهم إلى بيوتاتهم وأراضيهم، لأن الاحتلال لم يكن في يوم من الأيام إلا إلى زوال.