كثيرًا ما يردِّد الرئيس التونسي قيس سعيّد أن الحريات مضمونة بعد انقلابه الدستوري، وأنه لا يوجد أحد يُحاكَم من أجل رأيه، لكن في كل مرة يبين زيف كلامه ووعوده، فالاعتقالات متواصلة واستهداف المعارضين والتنكيل بهم يكاد يكون بشكل يومي، حتى وصل به الأمر لمحاكمة الرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي بتُهم كيدية.
محاكمة المرزوقي
في سابقة تاريخية لم تعهدها تونس من قبل، حتى في أبشع سنوات القمع، قضت محكمة تونسية غيابيًّا أمس الأربعاء بحبس الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي والمعارض القوي لانقلاب قيس سعيّد 4 سنوات، مع النفاذ العاجل، بتهم تتعلق بـ”المس بأمن الدولة في الخارج” وبإلحاق “ضرر دبلوماسي بها”، حيث أصدر قاضٍ تونسي مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي مذكّرة جلب دولية بحقّ المرزوقي، بعد أسبوعَين على طلب سعيّد من القضاء التونسي فتح تحقيق بحقه على خلفية تصريحات أدلى بها، وسحبِ جواز سفره الدبلوماسي.
كان المرزوقي قد شارك في وقفة احتجاجية في باريس مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي ضد قرارات قيس سعيّد التي وصفها بالانقلابية، كما وصف سعيّد بالدكتاتور وطالب السلطات الفرنسية بعدم التعاون مع النظام الانقلابي في تونس، قائلًا إن سعيّد “تآمر ضد الثورة ويسعى لإلغاء الدستور”.
وسبق أن نفى المرزوقي دعوته قوى خارجية للتدخُّل في شؤون تونس، وقال -خلال مقابلة مع قناة “الجزيرة مباشر”- إنه “في الوقت الذي طلبتُ فيه من فرنسا عدم دعم الانقلاب وعدم التدخُّل في قضايا تونس، اتّهموني بأني أدعو للتدخُّل الخارجي. هذا الكلام أقوله للدول الأخرى منذ 30 سنة، لا تتدخلوا في تونس ولا تدعموا الدكتاتورية”.
وأضاف: “لم تعطني الإذاعات الوطنية حق الرد. هو (سعيّد) ثالث دكتاتور أتعامل معه، كأن التاريخ يعيد نفسه؛ هذه هي التُّهم نفسها التي سمعتها في عهد بن علي وبورقيبة”، ومضى قائلًا: “الدكتاتورية لا تقبل المعارضة، المعارض هو خائن دائمًا في عيونهم”.
تطويع القضاء
الملاحَظ في القضية هو سرعة الإجراءات، حيث دعا سعيّد، في أوّل اجتماع له مع الحكومة، وزيرة العدل لمقاضاة الرئيس الأسبق والحقوقي المنصف المرزوقي، وكانت الاستجابة سريعة وفُتح بحث وجرى إصدار بطاقة جلب ومن ثم الحكم بالسجن، كل ذلك في شهرَين، والحال أن هذه القضايا في العادة تبقى سنوات حتى تصدر المحكمة حكمها فيها.
يرى الناشط السياسي ورئيس جمعية رقابة، عماد الدايمي، أن الحكم ضد المرزوقي “فضيحة قضائية غير مسبوقة”، ويقول في هذا الشأن: “جريمة الاعتداء على أمن الدولة الخارجي في القانون التونسي هي جناية تترواح عقوبتها بين السجن 5 سنوات والإعدام، يتم تحويلها إلى جنحة، وإحالتها على الدائرة الجناحية، بما يُفهم منه الرغبة في التسريع في الحكم وتجنُّب ضمانات المحاكمة الجنائية، لأن الجناية تخضع إجباريًّا لمبدأ التحقيق على درجتَين، وتنظر فيها دائرة الاتهام، ويمكن التعقيب على قرار دائرة الاتهام”.
يضيف الدايمي في تدوينة له على صفحته في فيسبوك: “يتم إذًا “تجنيح” القضية قصدًا، وتحال اليوم على الدائرة الجناحية الثامنة، ويغيب رئيس الدائرة اليوم؟؟ وتجلس معوضة في مكانه؟؟ وتصدر الحكم في دقائق معدودة دون حضور المعني بالمحاكمة ولا محامي”. ما يعني أنَّ هناك اختلالات في الإجراءات، وما يؤكد في الوقت ذاته أن سعيّد أفلحَ في تطويع جزء من القضاء خدمة لمصالحه.
عمد سعيّد وجماعته على التنكيل بالعديد من القضاة من خلال الإجراءات التعسفية، من ذلك وضع قضاة تحت الإقامة الجبرية، ووضع جميع القضاة تحت طائلة الاستشارة الحدودية “S17” قبل السماح لهم بمغادرة البلاد، إلى جانب منع عدد منهم من السفر أو تعطيل سفرهم دون أذون قضائية ودون الرجوع إلى المجلس الأعلى للقضاء، وذلك بعد تأكيد القضاة استقلالية سلطتهم وألا سلطان على القضاة غير القانون.
وسبق أن لجأ قيس سعيّد إلى استعمال قضاة، في صيغة الإلحاق، من أجل تجميع ملفات إدانة أو افتعالها ضد خصومه السياسيين لتقوية حظوظه والظهور في ثوب المنتصر للعدالة، بغية الاستفراد بالحكم وتأسيس “الجماهيرية” التي ينظر إليها منذ فترة.
هل سينتصر المرزوقي؟
في أول ردّ له على الحكم الصادر ضده، قال المرزوقي إن كل الاتهامات بحقّه هي قلب للحقائق وتنطبق على الرئيس قيس سعيّد، وأضاف في تصريحات إعلامية مساء الأربعاء أن الحكم بحقّه لا يعنيه لأنه صادر عن رئيس غير شرعي منقلب على الدستور، حسب وصفه.
كما لفت المرزوقي في تدوينة له أنه حوكم في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، ووقف أمام المحاكم آنذاك 7 مرات، وخلال حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي حُكم عليه غيابيًّا بـ 11 شهرًا، وقال: “رحل بورقيبة وبن علي وانتصرت القضايا التي حوكمت من أجلها وبنفس الكيفية المهينة سيرحل هذا الدكتاتور المتربّص وستنتصر القضايا التي أُحاكم من أجلها”، وأنهى بالقول: “ولا بد لليل أن ينجلي”.
ويُعرَف عن المنصف المرزوقي نضاله المتواصل ضد الأنظمة الاستبدادية، وقد بدأت نضالاته في صفوف الطلبة العرب والأوروبيين، خلال دراسته الطب في فرنسا في أواخر ستينيات القرن الماضي، مرورًا بمعارضته سلطوية الرئيس الحبيب بورقيبة ودكتاتورية زين العابدين بن علي، وقد تعرّض نتيجة ذلك إلى السجن والطرد من وظيفته الجامعية، ومراقبة لصيقة من جهة البوليس السياسي.
نضال المرزوقي لم يقتصر على تونس فقط، فقد ناصر كل حركات التحرُّر الوطني في العالم وساند الثورات العربية، كما شاركَ في أسطول الحرية منتصف عام 2015 لكسر الحصار عن غزة، حينها قال: “في تونس كما في فلسطين، نحن حلفاء أبديون في مواجهة الظلم والإرهاب”، قبل أن تحتجزه سلطات كيان الاحتلال الإسرائيلي في عرض البحر.
ويُعتبَر المرزوقي، وفق الأمم المتحدة، “رمزًا من رموز العالم العربي، ورمزًا لأولى الثورات العربية في هذا القرن، وللقيم التي ارتكزت عليها هذه الثورات”، وتمثل محاكمته إساءة كبيرة لتونس وللقيم التي يحملها المرزوقي ودافع عنها لعقود عديدة.
في تعقيبها على الحكم الصادر ضد المرزوقي، قالت المحامية إيناس الحراث: “المنصف المرزوقي لا ينزعج أبدًا من الأحكام الصادرة ضده.. من يعرف تاريخ النضال في تونس يعرف ذلك بالضرورة.. من يستحق التعاطف فعلًا وأكثر حتى من الأشخاص التي تصدر هكذا دوائر بشأنهم هكذا أحكام.. نحن المحامون”.
بدوره قال السياسي والوزير السابق غازي الشواشي: “الحكم على المنصف المرزوقي (..) فضيحة في حق الهيئة القضائية التي أصدرت هذا الحكم المهزلة في وقت قياسي ودون سماع المعني بالأمر، وفضيحة أكبر في حق السلطة القائمة التي تعتمد توظيف القضاء لتصفية حساباتها مع خصومها السياسيين، وخطوة جديدة يخطوها رئيس الدولة في اتجاه مزيد من الاعتداء على الحقوق والحريات وتهديد للسلم الاجتماعي، وتركيز لحكم استبدادي جديد في تونس”.
تحرُّك قيس سعيّد بهذه السرعة ضد الرئيس الأسبق والحقوقي المنصف المرزوقي، واستغلاله مؤسسات الدولة لضربه وتشويه سمعته، يؤكدان خشيةَ سعيّد من المرزوقي، وأهميةَ الأخير في معادلة التصدي للانقلاب الذي يهدِّد الديمقراطية التونسية ومستقبل التونسيين.