قال الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، خلال حوار متلفز له في مايو/ أيار 2014، حين كان مرشحًا لرئاسة الجمهورية، إنه لا يمكن أن يقترب من ملف الدعم قبل توفير المناخ الملائم لذلك، حتى لا يتأثر الشعب بمثل تلك القرارات، خاصة أن السواد الأعظم من المصريين يعيشون على هذا الدعم بشتّى أنواعه، وأكّد وقتها: “قبل رفع الدعم لازم أغني الناس”.
في تلك الأثناء كانت معدلات الفقر تقفُ عند حاجز 26.3% بعدما كانت في حدود 16.7% خلال عامَي 1999-2000، وارتفعت إلى 25.2% في عامَي 2011-2012، وسط وعود وتعهُّدات قطعها السيسي على نفسه بتغيير الوضع المعيشي للمواطنين ومكانة الدولة الاقتصادية خلال عامَين فقط من توليه مقاليد الحكم، زادها إلى 6 أشهر أخرى، ثم عامًا آخر.
وبعد 7 أعوام على تلك التصريحات، أعلن الرئيس المصري، أمس الأربعاء 22 ديسمبر/ كانون الأول 2012، حذف الملايين من المصريين من بطاقات دعم السلع التموينية، وذلك عن طريق شقَّين، الأول منع إصدار أي بطاقات جديدة، وقصر المستفيدين من بطاقات التموين الحالية على فردَين بحدّ أقصى، وحذف باقي أفراد الأسرة بحجّة عدم القدرة على صرف المزيد من الدعم.
أعاد هذا القرار الذي أغضب الملايين من محدودي الدخل، ممّن يعتمدون على هذا الدعم -رغم محدوديته- في تيسير حياتهم في ظل الوضع المعيشي المتدنّي، حديث السيسي السابق حين كان مرشّحًا للرئاسة للأضواء مرة أخرى، متسائلين: هل أغنى الرئيس الناس فعلًا حتى يُقدم على هذه الخطوة كما تعهّد سابقًا؟
التساؤل جاء استنكاريًّا أكثر منه استفهاميًّا، في ظل المؤشرات الخاصة بالحالة المعيشية للمصريين، إذ سجّل مؤشر الفقر في مصر العام الماضي 29.7%، بما يعني أن هناك قرابة 30 مليون مصري تحت خط الفقر، أي أعلى ممّا كان عليه حين تولّى السيسي عام 2014، مع الوضع في الاعتبار أن تلك الأرقام صادرة عن الجهات الرسمية (الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء – حكومي)، إذ إن الوضع الحقيقي أكثر من ذلك بكثير.
الدعم سبب تأخُّر الدولة
الرئيس المصري، خلال كلمة له بمناسبة افتتاح مشروع لإنتاج البنزين في محافظة أسيوط (جنوب)، قال إن “الإنفاق على الدعم مثّل سببًا رئيسيًّا في تأخُّر التنمية في الدولة لعشرات السنوات، وهو أمر غير حاصل في أي دولة في العالم”، مستطردًا: “الدولة في حاجة إلى أموال الدعم لتدشين مشروعات جديدة تحقق صالح جميع المصريين”، على حدّ قوله.
وتابع السيسي: “مصر الدولة الوحيدة التي يتصور فيها المواطنون أن بإمكانهم الحصول على السلع والخدمات بأقل من تكلفتها وسعرها الحقيقيَّين، وهذا ما أدّى إلى عدم نهوضها طوال السنوات الماضية، نظرًا لضخامة الإنفاق على التموين، وغيره من أشكال الدعم”، مستكملًا: “لن نمنح أي شخص يتزوج بطاقة تموينية من الآن فصاعدًا، لأنه طالما استطاع توفير نفقات الزواج، فهو لا يحتاج إلى دعم في ما يخص السلع التموينية”.
ما يدفعه المصريون يبلغ أكثر من 10 أضعاف قيمة الدعم الموجَّه للمواد التموينية.
وعطفًا على كلام الرئيس، أكّد وزير التموين والتجارة الداخلية، علي المصيلحي، أنه لم يسمح بإصدار بطاقة تموينية جديدة لمن يتزوج حديثًا، بينما تظل قاعدة بيانات مستحقي الدعم الحالية كما هي، مؤكدًا أنه لن يتمَّ إضافة مواليد أو أبناء على البطاقات التموينية، وأنه مسموح فقط باستخراج بطاقات تموينية جديدة من خلال وزارة التضامن الاجتماعي، وأنه لا مساس بالبطاقات القديمة، لافتًا إلى أن الفصل الاجتماعي وإصدار بطاقة منفصلة عن الأسرة ما زال مستمرًّا، وذلك لجميع المواطنين سواء الحاليين أو القادمين إن كانوا متزوجين حديثًا.
الوزير، وفي تصريحات سابقة له أمام مجلس النواب (البرلمان)، كان قد أشار إلى تراجع عدد المستفيدين من بطاقات الدعم التموينية من 81 مليون مواطن إلى 64 مليونًا، بواقع 50 جنيهًا للفرد شهريًّا (يحصل المواطن على سلع غذائية بقيمتها)، لافتًا إلى أن 62% من إجمالي عدد المصريين، البالغ حاليًّا نحو 102.5 مليون نسمة، ما زالوا يتمتّعون بدعم التموين.
بروفة ناجحة
ظلَّ رغيف الخبز خطًّا أحمر لدى كافة الأنظمة التي حكمت مصر طيلة العقود الماضية، فما تجرّأ أي حاكم سابق على المساس بـ”عيش المصريين”، لكن الأمر بدأ يتغير نسبيًّا قبل 3 أشهر ونصف تقريبًا، حين ألمح السيسي إلى نيته إعادة النظر في سعر الرغيف ووزنه، كون ذلك لا يتناسب مع تطورات العصر والضغوط الاقتصادية التي تحياها مصر.
السيسي، وخلال مؤتمر افتتاح المدينة الصناعية الغذائية “سايلو فودز”، المملوكة للقوات المسلحة، بالعاصمة القاهرة، في 3 أغسطس/ آب الماضي، قال صراحة: “جه الوقت إن رغيف العيش (الخبز) أبو 5 قروش (0.0032 دولار) يزيد ثمنه، مش معقول أدي 20 رغيف بثمن سيجارة”، لافتًا إلى أنه من المستحيل أن يظل سعر الرغيف الواحد ثابتًا طيلة 30 عامًا كاملة، وأن الدولة تتكبّد ما يقرب من 12 ضعفًا ثمن الرغيف المباع (65 قرشًا كلفته الأساسية نظير بيعه بـ 5 قروش).
الإيماء بنيّة زيادة سعر رغيف الخبز جاء بعد قرابة 4 أيام على موجة زيادة جديدة على أسعار البنزين، فيما حاولَ الرئيس استمالة الشارع الغاضب حينها بالإشارة إلى أن الزيادة المتوقّع تحصيلها من فارق سعر الخبز ستموِّل جزءًا من قيمة 8 مليارات جنيه ستُنفق على دعم الوجبات المدرسية الجديدة للتلاميذ، التي ستكلف نحو 7 جنيهات للوجبة الواحدة (الدولار يساوي نحو 15.7 جنيه)، وسيدخل فيها مكوِّن بروتيني جديد هو الألبان، تلك الوجبات التي تسبّبت في تسمُّم العشرات داخل المدارس خلال الآونة الأخيرة.
السيسي وقتها قال إنه يتحمل مسؤولية هذا القرار بمفرده، مبرّئًا ساحة الحكومة من أي تبعية لهذه الخطوة الصعبة على الشعب المصري، ولوقف أي هجوم محتمل أن يواجهه رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، مفضِّلًا إعلان هذا التحرك بصورة واضحة على الملأ بدلًا من تفويض الحكومة بذلك، “عشان أشيل الشيلة بنفسي” على حد تعبيره.
الاقتراب من رغيف الخبز ولو بالتلميح اعتبره البعض وقتها “بروفة” أولية و”اختبارًا” سلطويًّا لمسألة رفع الدعم تدريجيًّا عن منظومة التموين، التي يستفيد منها قرابة ثلثَي الشعب من محدودي الدخل، وهي البروفة التي نجحت بامتياز، حيث لا اعتراض ولا مقاومة، بل على العكس خرج الإعلام الموالي للنظام لتبرير هذا القرار بدعوى تحويل فرق سعر الخبز لوجبات الطلاب المدرسية، المحاطة بالكثير من علامات الاستفهام الجدلية حول الجهات المستفيدة من تلك الصفقة، علمًا أن الشركة المنوط بها تجهيز تلك الوجبات هي شركة “سايلو فودز” للصناعات الغذائية، وهي مملوكة بالكامل للقوات المسلحة المصرية ومسؤولة عن تقديم الوجبات لـ 13 مليون طالب.
أقل من ربع دولار.. نصيب المواطن من الدعم يوميًّا
الشعار الأبرز الذي ترفعه السلطات المصرية لتبرير رفع الدعم تدريجيًّا، هو عدم قدرة الدولة على الاستمرار في تحمُّل نفقات الدعم، وأنه لا يمكن قبول أن يركن المواطن لمن ينفق عليه، على حد قول السيسي، غير أن هذا الشعار يصطدم بالأرقام الحقيقية الرسمية المعلنة حول خارطة الدعم ونصيب المواطن من إجمالي ما ينفق.
بحسب التصريحات الرسمية، فإن الدعم الإجمالي للمواد التموينية يبلغ 87 مليار جنيه (5.6 مليار دولار)، الرقم يبدو منذ الوهلة الأولى كبيرًا، لكن حين يلاحظ أن هذا المبلغ يستفيد منه قرابة 66 مليون منتفع بالبطاقات التموينية، أكثر من نصفهم تقريبًا تحت خط الفقر، فإن نصيب المواطن هنا يوميًّا لن يتجاوز 3.5 جنيهات يوميًّا.. فهل هذا مبلغ يحتاج إلى تقليص من قبل الحكومة والرئيس؟
هناك شطر من الصورة لم يتطرّق إليه السيسي ونظامه، يتعلق بحجم ما يدفعه المصريون للدولة من جيوبهم في صورة ضرائب، والتي تبلغ قرابة 965 مليار جنيه (63.4 مليار دولار) سنويًّا بحسب تصريحات وزير المالية، مع الوضع في الاعتبار أن تلك الحصيلة تضاعفت أكثر من 3 أضعاف خلال السنوات الستة الماضية، فكانت 306 مليارات جنيه (19.7 مليار دولار) عام 2015، أي أن ما يدفعه المصريون يبلغ أكثر من 10 أضعاف قيمة الدعم الموجَّه للمواد التموينية.
العام الحالي تحديدًا كان الأكثر تطرُّفًا في معدلات الزيادة على كافة المستويات، فالأمر لم يعد يتعلق بالسلع والخدمات التكميلية التي يمكن الاستغناء عنها، لكنه مسَّ بصورة مباشرة مائدة محدودي الدخل.
يجيد الرئيس وحكومته التلاعب بالأرقام وتوظيفها لخدمة أهداف سياسية وأجندات اقتصادية، فكثيرًا ما يلجأ إلى هذا السلاح لتبرير قرارته القاسية، والتي يسقط فيها المواطن أسير حملات إعلامية ممنهَجة لدعم كل ما يتخذه السيسي من خطوات وإجراءات، في إطار خطة الإصلاح التقشفية التي تتبنّاها الدولة المصرية لمغازلة المؤسسات المالية الدولية.
وشهدت السنوات الماضية تحركات مكثَّفة من السلطة المصرية لتصفير الدعم عبر خطوات مرحلية، حيث تراجعت كافة مخصّصات الدعم في الموازنة المالية للعام الحالي 2021-2022، والبداية مع السلع التموينية حيث تراجع إجمالي دعمها إلى 87 مليارًا و222 مليون جنيه.
كذلك تراجع دعم المواد البترولية إلى 18 مليارًا و411 مليون جنيه، والتأمين الصحي والأدوية إلى 3 مليارات و721 مليون جنيه، ودعم نقل الركاب إلى مليار و795 مليون جنيه، ودعم المزارعين إلى 664 مليونًا و535 ألف جنيه، ودعم تنمية الصعيد إلى 250 مليون جنيه، وذلك استجابة لتعليمات صندوق النقد والمؤسسات الدولية المانحة للقروض الخارجية.
العام الحالي تحديدًا كان الأكثر تطرُّفًا في معدلات الزيادة على كافة المستويات، فالأمر لم يعد يتعلق بالسلع والخدمات التكميلية التي يمكن الاستغناء عنها، لكنه مسَّ بصورة مباشرة مائدة محدودي الدخل، حيث ارتفاع أسعار البقوليات بصورة جنونية، تزامنًا مع التلاعب في سعر رغيف الخبز، والقفزات غير المسبوقة في أسعار الكهرباء والغاز الطبيعي، الأمر الذي فاقمَ من معاناة الملايين من المصريين.
ضحايا قروض السيسي
لم يجد السيسي سوى الدعم المقدَّم لمحدودي الدخل لتغطية نفقات الديون وفوائدها، في ظل موجة الاستدانة التي أغرق فيها البلاد طيلة السنوات السبع الماضية، حيث لجأت الدولة إلى سياسة الاقتراض الخارجي لتأسيس مشاريع البنية التحتية التي يوليها الرئيس الاهتمام الأكبر: الطرق والكباري والمدن الجديدة.
وتشير الإحصاءات الرسمية إلى بلوغ الدَّين الخارجي المصري، حتى نهاية يونيو/ حزيران الماضي، قرابة 137.9 مليار دولار، علمًا أن هذا الرقم لم يتضمّن القروض التي حصلت عليها مصر خلال الأشهر الخمسة الأخيرة، والمتمثِّلة في طرح سندات دولية بقيمة 3 مليارات دولار في سبتمبر/ أيلول المنقضي، وإيداع السعودية 3 مليارات دولار أخرى في البنك المركزي المصري خلال أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
في العام الحالي فقط مطلوب من الحكومة المصرية سداد نحو 12.062 مليار دولار بنهاية عام 2021، تمثّل ديونًا خارجية قصيرة الأجل، منها نحو 11.958 مليار دولار أصل الدَّين، بالإضافة إلى فوائد بنحو 103.76 مليون دولار.
إضافة إلى ذلك قيمة فوائد هذا الدَّين والتي تبلغ 40 مليار دولار بحسب بيانات البنك المركزي المصري، بما يمثّل قرابة 29% من أصل الدين المعلن، وفي حالة إضافة فوائد السندات والوديعة السعودية، فإن نسبة الفوائد تصلُ إلى 31% من أصل الدين، وعليه فإن كان قيمة الدين المعلن في نهاية يونيو/ حزيران الماضي 137.9 مليار دولار، فإن القيمة التي سيتمُّ سدادها 162.8 مليار دولار.
هذا الرقم الأكبر في تاريخ مصر، ألقى بظلاله القاتمة على الموازنة العامة للدولة، حيث أظهرت بيانات وزارة المالية المصرية أن فوائد الديون والأقساط المستحقة تلتهمُ أكثر من 80% من الإيرادات العامة للدولة خلال العام المالي الماضي، فيما أشار وزير المالية، محمد معيط، أن فوائد وأقساط الديون فقط تناهز نحو 800 مليار جنيه (45.2 مليار دولار) بواقع 541 مليار جنيه فوائد، و246 مليار جنيه أقساط مستحقَّة السداد، وهو الرقم المتوقع أن يستمر لعدة سنوات قادمة، إن لم يرتفع في ضوء الاستمرار في الاقتراض.
وفي العام الحالي فقط مطلوب من الحكومة المصرية سداد نحو 12.062 مليار دولار بنهاية عام 2021، تمثل ديونًا خارجية قصيرة الأجل، منها نحو 11.958 مليار دولار أصل الدَّين، بالإضافة إلى فوائد بنحو 103.76 مليون دولار، وذلك في تقرير صادر عن البنك المركزي المصري.
يُذكر أن الدين الخارجي لمصر كان 46 مليار دولار حين تولّى السيسي الحكم عام 2014، ليرتفع خلال السنوات السبع التي ترأّس فيها هرم السلطة بنسبة 193%، وعليه كان لا بدَّ من اتخاذ إجراءات قاسية لسداد هذا الرقم الهائل، وفي ظلّ عدم وجود موارد قومية ثابتة، لم يجد الرئيس سوى مبالغ الدعم للاقتصاص منها، بجانب إرهاق كاهل المواطنين بمزيد من الأعباء الضريبية الجزافية وزيادات الأسعار الجنونية.
وهكذا يتحمّل محدودو الدخل فاتورة استراتيجية السيسي التنموية، التي تتّخذ من المليارات المقترَضة تمويلًا رئيسيًّا لها، ورغم تفاقم معاناة المصريين خلال الأعوام الماضية، التي تعززت بتفشّي جائحة كورونا، إلا أن ذلك لم يمنع النظام المصري من استمرار إجراءاته القاسية بحقّ الشعب المغلوب على أمره.
قديمًا كانوا يقولون إن “محدش بيبات من غير عشاء في مصر”، وأن “العيش (الخبز) الحاف” كفيل أن يغني الفقير عن مذلّة السؤال، لكن يبدو أن تلك المقولة ستكون -كما غيرها من الأقوال الأخرى- من الموروثات، فالملايين على أبواب موجة تقشُّف جديدة، ربما تلقي بهم في مستنقع الفقر الذي يزداد عامًا تلو الآخر، فيما تدفع الدولة فاتورة فوضى قائمة أولوياتها غير المرتَّبة، فبينما يفتح النظام خزائنه لخدمة مشاريعه الثانوية التي تخدم فئة قليلة، وقد لا يجدُ حرجًا في اقتراض الملايين يوميًّا لهذا الغرض، يقف عاجزًا أمام الدعم المقدَّم للملايين من الغلابة والفقراء.